الحاج “عبدالله” شيخ هرم في عقده السادس ونيف يتوكأ على عكازه يسند به متنه، يحاول بصعوبة تخطي الطريق المزدحم بالمارة والمركبات، ظهره المقوس حد الإنحناء يفضح قهر السنون له.
عبثاً يفلح في المرور، لهول الإزدحام هناك، على قارعة الرصيف المحاذي للطريق الذي يسلكه.. داست فتاة في العشرين من عمرها بمشط قدمها على فرامل سيارتها ترجلت منها.. هرولت تشق الطريق شقا، صوبه، غير آبهة بصخب وأصوات منبهات المركبات، التي جن جنون أصحابها، لتوقف حركة السير، ربتت بيدها الناعمة على كتفه، همست: دعني أساعدك يا عماه.. بصوت مخنوق، اختلط بأنفاس واهنة، كأنها فحيح أفعى.
رد: بوركت بنيتي لكن ابنة من أنت؟
قالت: عابرة سبيل، تود مساعدتك!!.. عميقا تنفس ممتعضا، تنهد حسرة، وألمًا من مرارة قسوة الأيام ثم ردد حمداً لله، أنه ما يزال هناك أناس طيبون.
قالت وهي تزيح خصلات شعرها عن وجهها الكاسف: كيف لا يا عماه، وسيل رحمة الله، يغرقنا؟ سره حديثها حرك رأسه أشاح بوجهه، وإذا به لهول، صدمته، يصرخ: فاطمة!.. إنها ابنتي يا ناس!!
كان الشيخ الهرم، ترك بيته قبل ثالثة عشر عاما، إثر خلاف أسري، قاده إلى طلاق زوجته الثرية، التي استحال عليه الصمود بوجه طغيانها، وكانت “فاطمة”، حين ذاك، في ربيعها السابع، قعد مفترشا الرصيف، إذ عجزت قدميه عن حمله، لهائل غبطته، وفرحه، ارتمت بحضنه، عانقته ناحبة.. مضى يمرر أصابع يديه المرتعشة، بين طيات شعرها الكثيف، رمقته بنظرة حزن، غطت غيومها، سماء الهناء التي أرعدت أمطارها توا، وأبرقت برورقها، على محياها، التي تفيض براءة ونقاء، وهي تقول:
– لقد تغيرت كثيرا، تبدل حتى هندامك يا أبي فلو لم أكن أتذكر هذه الشامة العريضة على خدك، لما صدقت إنك والدي!!
واقتادته إلى سيارتها، وهي تتوسله أن يرافقها إلى البيت، مؤكدة له ندم أمها، التي ألم بها مرض عضال، أقعدها الفراش منذ غادر المنزل، وعادا إلى البيت، و”فاطمة” تشكر الله مبتهلة إليه يالها من مصادفة، أشكرك ربي، وأثني على كرمك.
وما أن وصلا إلى البيت حتى أسرعت، تصيح: أمي، أمي، عاد أبي.
ولما وقفت قرب السرير حيث ترقد، حركت أمها سبابتها لأعلى، ولم تنبث ببنت شفة، لفظت أنفاسها وصعدت روحها لبارئها. انكفأت “فاطمة” تولول اقترب منها والدها مرددا في خشوع.. إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ارحمها واغفر لها.
2007
4 تعليقات
تحياتي وامتناني وعطر الورد..
مودتي
تحياتي وامتناني وعطر الورد..الرائع أ. Ramez Enwesri..شكرا للنشر..موقع الطيوب..دمتم صرحا عظيما للإبداع وقبلة للمبدعين..
_درمشاكي_
الشكر موصول لك صديقي
وشكرا لدعمكم