مر شريط الذكريات ” بمحمود ” وهو جالس على كرسي متهالك بإحدى الحدائق المهملة بمدينة طرابلس التي إعتاد الركون بها كلما عصفت به المشاكل وربما كان جلوسه بها نوعاً من التعاطف معها فهي أيضا قد تعرضت للإعتداء من أناس هامشيين لا اخلاق لهم ، تذكر ” محمود ” كيف كانت بداياته مع زوجته ” سلوى ” وكيف أنه تعرف إليها بإحدى المناسبات بعد أن اعجب بجمالها ودماثة اخلاقها وكيف كان الإنسجام والتفاهم يسود هذه العلاقة منذ نشأتها والتي تكللت بإعلان الخطوبة بعد عدة أشهر فقط وقد سعى ” محمود ” بكل السبل للحصول على مسكن مهما كان نوعه ومستواه طارقاً ابواب كل المسؤولين شارحاً وضعه ليتمكن من إتمام زفافه في أسرع وقت ويحتضن زوجته التي يحب إلا أن محاولاته كلها باءت بالفشل الذريع وظل إلحاح ” سلوى ” المستمد من الحاح والديها واخوتها في إتمام الزفاف أسلوب ضغط عليه حتى بات ينأى بنفسه عن الذهاب اليهم ونتيجة لهذا الإلحاح أصبح معه ” محمود ” عصبياً متكدر المزاج وفارقت الإبتسامة محياه وهذا ما لفت انتباه اصدقائه الذين سارعوا الى التدخل لدى والده الذي قال انه ليس لديه من حل إلا أن يقطن معه بمنزله بأحد الغرف بالرغم من ضيق المكان وبهذا تم الإتفاق بين العائلتين على أن يتم الزفاف ويقطن مؤقتاً بمنزل الأسرة حتى حصوله على مسكن خاص ولو كان ذلك بالإيجار الذي سيلتهم راتبه المحدود أصلاً .
كانت الأشهر الأولى من إتمام الزفاف غاية في السعادة وقد ركن فيها ” محمود ” الى الراحة التامة بعد عناء ولم يكن يتوقع أن تندلع المشاكل سريعاً كالنار في الهشيم بين زوجته من جهة ووالدته المعززة بتحالف اخواته من جهة أخرى وقد حاول أن يمسك العصا من منتصفها بشتى السبل وأن يعالج هذه المشاكل بترضية كلا الطرفين محاولاً ايجاد توافق ما بينهما الا أن محاولاته وتوسلاته باءت بالفشل فالجميع متشبث برأيه والجميع على حق كما أن عائلة زوجته بدأت في مطالبته بأسلوب قاس بمسكن منفصل فضلاً عن وجوب الدفاع عن زوجته ضد أهله الذين تكالبوا عليها واحالوا حياة ابنتهم إلى جحيم لا يُطاق والا فإنهم سيقومون بإرجاعها وعندها لن يراها مطلقاً بل طلبوا منه ان لا يأتي لبيتهم حتى يؤمن السكن المطلوب وكان هذا ما حصل فبعيد رجوعه في أحد الأيام من عمله الى البيت وعندما دلف الى غرفته وجدها هادئة على غير العادة عندما كان يجد زوجته تبكي بحرقة بل كانت تزيد من عويلها واصفة من بين عبراتها وتشنجاتها ما حصل من أهله .
ترك ” محمود ” الأقدار تتقاذفه يمنى ويسرى ولم يعد يهتم او يبالي باي شيء حتى ان مدراءه في العمل قد لفتوا انتباهه اكثر من مرة لكثرة شروده وعدم انجازه العمل المطلوب منه في الوقت المحدد وان هذا سينعكس سلباً عليه وعلى مستقبله الوظيفي وبهذا كان يركن الى الحديقة التي كان يشعر معها بالراحة لأنه يعتقد انها تشاركه همومه ، وبينما كان جالساً بالحديقة على عادته شارد الذهن شعر بان هناك من يقف امامه ويبادره بالسلام مصافحاً اياه بحرارة ، نظر ” محمود ” الى الرجل بتمعن فهذا الوجه مألوف لديه ولكن ذاكرته لم تسعفه وعندها سارع الرجل بالقول : الم تعرفني ؟ مالي اراك مهموماً وكأن الدنيا قد ادارت وجهها عنك ؟ زاد من تفرسه في الرجل وادرك انه فعلاً يعرف هذا الشخص ولكنه تساءل عمن يكون وعندما لم تسعفه الذكرة سأل الرجل متأسفاً : اعذرني لم اعرفك وبماذا يمكنني ان اخدمك ؟ قال الرجل مندهشاً : يبدو ان الدنيا قد ادارت ظهرها لك فأنت غاية في البؤس وعلى كلا فانا ” احمد ” زميل دراستك واذا اسعفتك ذاكرتك فأنا من سرق حقيبتك التي اكلت علقة ساخنة من المدرس لإهمالك .. تبسم ” محمود ” وعاود مصافحة الرجل مرة اخرى مكرراً اسفه وعندها اخبره بالمشاكل التي يكابدها وكيف انه يعيش ظروفاً صعبة نغصت عليه حياته .
ابدى ” احمد ” اهتماماً خاصاً بمشاكل صديقه وابلغه ان في امكانه ان يساعده واولها انه سيقوم بتوفير سكن له بشكل عاجل وعندها ابدى ” محمود ” دهشته من عرض صديقه قائلاً : ان هذا شيء مكلف وانه لا يستطيع ان يرجع له ثمن المسكن ولكن صديقه قاطعه : لا تقل شيئاً فنحن اصدقاء بل اخوة ويجب ان يساعد احدنا الاخر ثم انه يمكنك ان تسدد ثمن المنزل باي وسيلة وفي أي وقت فأنا والحمد لله رجل مقتدر ولن يضيرني ثمن المنزل في شيء .. أحس ” محمود ” بالنشوة وبسعادة غامرة وان الدنيا قد ضحكت له من جديد وشكر صديقه بحرارة واتفقا على ان يلتقيا مرة اخرى ليسارعا في البحث عن منزل مناسب .. وفي ايام معدودة تم شراء المنزل وسارع محمود الى ارجاع زوجته التي كانت تنتظر على أحر من الجمر واخبرها بقصته مع صديقه ” احمد ” الذي برهن على انه صديق وفيّ واشار الى زوجته انه سيقوم بدعوته الى وليمة يقيمها في منزلهما بمناسبة انتهاء المشاكل ولم شمل العائلة وايضا كنوع من رد الجميل .
لمح ” احمد ” وهو جالس بالصالون ” سلوى ” وهي تومئ لزوجها بان يأخذ منها القهوة فاعجبه جمالها بل احس بقشعريرة في جسمه وشعر وكأن شيئا يشده لها بقوة ولكن “محمود ” قال لها : ادخلي فليس هناك من غريب فهذا صديقي ” احمد ” ويجب ان لا تخجل منه وليس هناك من داع للخجل ولم يكن يدري بأن القدر يخبئ له ما لا يخطر له على بال .
ظلت زيارات ” احمد ” تتكرر على منزل صديقه وكانت زياراته تحمل الكثير من المشاريع المقترحة والمشتركة ايضا بغية الرفع من مستواه المعيشي وكان كثيراً ما يجلب الهدايا الثمينة ” لسلوى ” التي تمنعت تمنع الراغب وقد حثت زوجها على توطيد علاقته به حتى يتمكن من جني الكثير من المال ولهذا كانت احياناً ما تستقبله في غيابه وتستبقيه حتى حضور زوجها الذي اراد في البداية الاحتجاج الا ان الخجل الجم لسانه فسكت على مضض .
مرت الايام عليه وهو يخرج من بيته صباحاً ولا يعود حتى المساء وهو يتابع اعمال ” احمد ” الذي كان يلح عليه في بذل المزيد من الجهد فالمال لا يأتي بسهولة بل يريد من يكد ويجتهد وكانت زوجته ايضا تتودد له عند رجوعه شاكرة له تعبه في سبيل اسعادها وفي احد الايام وقعت مشادة بينه وبين احد العمال ممن يعملون عند ” احمد” والذي كان يقوم باختلاس مبلغ من المال بين الفينة والاخرى وعندما ابلغه بأنه سيخبر الشرطة ويزجه بالسجن قال الرجل مندهشاً : ولما كل هذا ؟ كيف تحافظ على مال من لا يحافظ عليك ؟ استغرب كلامه فقال صائحاً : ماذا تقصد ايها السارق ؟ وعندها تدخل احد الحاضرين محاولاً اسكات الرجل الى ان محمود استغرب الكلام والوساوس تتلاعب به فقال مندفعاً محاولاً ضرب الرجل : ماذا تقصد بكلامك ؟ والا والله لن اتركك حتى اسلمك للشرطة لتنال عقابك ايها السارق عديم الشرف فرد الرجل متهكماً دافعاً ” محمود ” في صدره : لا تتكلم عن الشرف فأنت اخر من يتكلم عنه وهذا الذي تدافع عن ماله انظر ماذا يفعل من ورائك ايها الغر .
وقف ” محمود ” مذهولاً وهو يرى الحقيقة ماثلة امام عينيه وهي التي كانت غائبة عنه ربما لكثرة انشغاله او لان ثقته كانت بلا حدود ولم يدر كيف قاد سيارته الى البيت ولكن رؤية سيارة ” احمد ” امام منزله انزلت السكينة في نفسه وذهب عنه الغل الذي شعر به واحس بصفاء غريب بذهنه لم يعرف سببه ولكن يبدو ان فكرة جهنمية قد وجدت طريقها الى نفسه وان عقاباً ما يجب ان ينفذ .