قصة

الغولة

(السقوط) من أعمال الفنان الهندي “تيب مهتا”

الضي طفى..

تلك هي العبارة الجاهزة حالما ينقطع التيار الكهربائي وتسود الظلمة المكان.. تأتي أمي بالشمعة وأعواد الكبريت فنتسابق نحن الصغار لحضور طقوس اشعال الشمعة حيث تشعل والدتي أعواد الثقاب الواحد تلو الآخر لتضيء الشمعة.. العود الأخير يظل مشتعلا فننفخ بأفواهنا الهواء في اتجاهه.. كل منا يحاول أن يطفئ العود.. وفي بعض الأحيان نطفئ الشمعة مع العود فتضطر والدتي لإعادة إشعال الشمعة بعد زجرنا..

في الطقس المعتدل تثبت والدتي الشمعة على الأرضية في إحدى الزوايا وسط الحوش المفتوح على السماء.. تهب النسمات الخفيفة على لهب الشمعة.. يتمايل اللهب يمينا ويسارا ثم يستقر.. ويظل في حركته طيلة فترة اشتعاله يلقي بضوئه على جدران البيت.. أتأمل الضوء وسط البيت.. والظلمة التي تعلوه.. فأشعر برعشة خفيفة في جسدي.. تعكس الشمعة ظلالنا فوق الجدار.. نأتي بحركات مختلفة.. نرفع أيدينا فترتفع الظلال على الجدار.. نهز رؤوسنا فتهتز ظلالنا.. نمضي الوقت في طقس احتفالي مبتهجين بحركة الظلال المنعكسة فوق الجدار.. يعكر صفو بهجتنا الحديث عن الغولة التي ربما تكون مختبئة في زاوية ما من الظلمة.. تراقب حركاتنا.. في انتظار أن يخرج أحدنا إلى دائرة الظلام لتنقض عليه.. وتقوده إلى إحدى الخرائب..

في الظلام تطلع الغولة.. وتاخذ معاها العويلة الصغار اللي ما يسمعوش كلام هلهم..

 عبارة طالما رددها الكبار.. تراود خاطري مع حلول الظلام.. فأتخيل الغولة في شكل امرأة عجوز بوجه مجعد وأنف طويل وأسنان مخيفة.. وأكتفي بالبقاء في مساحة ضوء الشمعة حتى لا أخرج إلى الظلمة وألتقي بهذه المخلوقة البشعة.. إذ ربما تخطفني وتهرب بي إلى مكان مجهول ومخيف.. أرى صورتها وهي تقبض بيدها على رقبتي وتجرني أمامها.. وأنا في حالة من الرعب لا تسمح لي بمقاومتها.. خاصة عندما تكشر عن أسنانها المخيفة..

أين تسكن الغولة يا أمي؟

تؤكد لي أمي بأن الغولة تسكن الخرائب المنتشرة في بعض شوارع المدينة.. وأنا الطفل الصغير لا أعرف كيف أصبحت هذه الأماكن خرائب مهجورة؟ فيما بعد كبرت وعرفت أن الخرائب كانت بيوتا دمرتها الغارات الجوية على بنغازي أثناء الحرب العالمية الثانية.. ولم يتمكن أهلها من إعادة بنائها فظلت على حالها.. أحد الأولاد الصغار أكد لنا في الفصل أنه رأى الغولة في إحدى الخرائب.. وأقسم أنها كانت جالسة تمشط شعرها الأشيب المجعد.. وتصدر أصواتا مخيفة..

ذات ليلة مظلمة وفي خضم تخيلاتي لوجه الغولة وأسنانها تذكرت أنني بعد عودتي من المدرسة أعرت كراسة الرياضيات لابن الجيران القاطنين في الشارع الخلفي.. ولم يعدها لي.. كنا ندرس في الصف الخامس من المرحلة الابتدائية..

انتابني الخوف والحيرة.. لدي واجبات مدرسية في مادة الرياضيات.. والكراسة مع ابن الجيران.. مدرس الرياضيات لن يرحمني في الصباح.. حتما سأجد نفسي مادا يدي لعصاه التي ستهوي عليهما دون شفقة.. لابد أن أغامر وأخرج في ظلمة الشارع لأحضر الكراسة.. خمنت في نفسي أن الغولة قد لا تخرج.. وقد تكون مشغولة بعمل شيء آخر.. لا مفر من المغامرة.. خرجت إلى الشارع.. كان القمر هلالا يبعث ضوءا خافتا من خلف الغيوم.. والرؤيا معتمة قليلا.. تغلبت على خوفي ومشيت بحذر.. الشارع يخلو من المارة.. والرياح خفيفة قادمة من جهة البحر.. صوت حفيف الأوراق في الشجرة الكبيرة أمام الجامع يخرق سكون الشارع.. راودني هاجس مخيف.. ماذا أفعل لو التقيت بالغولة ؟ تغلبت على خوفي.. وفتشت في الأرض.. التقطت قطعة حجر.. تمسكت بها في يدي استعدادا لمواجهة الغولة في حالة خروجها إلي من أي مكان.. وطمأنت نفسي بأن الشارع يخلو من الخرائب.. فهي الأماكن التي تسكن فيها العفاريت المخيفة.. واصلت سيري بحذر وخوف.. وصلت نهاية شارعنا وانعطفت متجها للشارع الخلفي.. فجأة حدث أمر مخيف.. رأيت شبحا يغطي وجهه بقطعة قماش.. ويصدر أصواتا مخيفة.. تجمدت عروقي من شدة الخوف.. فقذفته بالحجر الذي معي وأصبته في رأسه.. صرخ الشبح وأمسك رأسه بيديه.. ومن شدة الهلع أطلقت ساقي للريح عائدا نحو البيت.. دخلت حجرتي واختبأت تحت الغطاء.. لم أخبر أمي بما حدث.. رحت أغط في النوم وأحلم بوجه الغولة والدم يسيل منه.. وكانت الغولة تنظر إلي طوال الليل متوعدة بالانتقام مني..

في الصباح تلقيت من مدرس الرياضيات جلدات قوية أوجعت يداي.. وفي الكراسي الخلفية من الفصل كان أحد الطلبة يلصق شاشا طبيا على جبهته المصابة.. وينظر إلي متشفيا.. تذكرت أنه من سكان الشارع الذي يقع خلف شارعنا..

مقالات ذات علاقة

موسم الرمان

هدى القرقني

الحضرة

محمد النعاس

الداليا – الحلقة الأخيرة

المشرف العام

اترك تعليق