دراسات

حُسن بناء حكاية القصة القصيرة

  قصة فرمان لكوثر الجهمي أنموذجا

(سلسلة دراسات حول القصص المشاركة في مسابقة سيكلما للشعر والقصة)

الزورق المدفون.. من أعمال التشكيلي رضوان أبوشويشة

أولا. حكاية القصة

نتابع في قصة فرمان صراعا قديما بدأ منذ عدة قرون بين  جمهور من أهل طرابلس ومعهم الجد يوسف الملقب بالفرمان، وبين الحاكم (الباشا الساقزلي)، الصراع كان حول تكسير القوس الرخامي في مدخل المدينة القديمة المسمى قديما بمخزن الرمل، الصراع شارك فيه يوسف فرمان وباقي السكان، وانتهى بعدول الحاكم عن قرار هدم القوس، بينما حدث التحول في العصر الحديث من خلال سرد قصة حفيد (ذلك الجد) ورفيقه في نوبة الحراسات، وقد قاما بمجرد حوار سطحي بينهما بتدمير القوس.

ثانيا. حضور نمط كتابة السيرة الشعبية

 القصة ترصد بهذا الشكل تحولات الشخصيات والمجتمع من الطبيعة العريقة الأولى إلى الوضع العبثي الحالي. تستعير القصة نمطا من أنماط كتابة السيرة الشعبية من خلال الدعوى النصية التي جاءت في صورة حلم رآه يوسف فرمان قبل عدة قرون، وأيضا من خلال أسطرة القوس الرخامي الذي كان موضوعا لحلم الجد يوسف فرمان في الماضي،  لنتابع ذلك هنا:

“تعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا سيدي يوسف “! لم يتوقف يوسف عن الاستعاذة، يكررها بصورة متلاحقة حتى يُخيل للمرء إذا سمعه أنه يتمتم بطلاسم بلا معنى، يلهث وكأنه آتٍ من تونس إلى طرابلس جريًا على الأقدام ” كابوس يا حورية! كابوس!” قالها بعد أن استردَّ بعضًا من أنفاسه . ” خير خير ان شاء الله !””

ثم نجد الحوار بين يوسف فرمان الجد وبين زوجته حورية القادمة من الجنوب الليبي وهو يؤنبها لعدم معرفتها بأهمية المكان:

جحظتْ عيناه نحوها، وكأنه لا زال يرى ما رآه في منامه بدلًا من زوجته التي أفزعها من نومها الهانئ . ” من وين بيجي الخير؟ شفت مخزن الرخام يا حورية، يطيح، يتهدم، يتفتفت كأنه مبني من رملة الشط! سمعتْ صوت زي الرعد، كأن حاجة صاباته، وتقوليش يستنى في سبلة، ناشاته نوش يا حورية، لكن طاح كله، ولَّى كومة رملة يا حورية ! “

” وشن فيها؟! تي هو عقاب مخزن رخام “جاهلة إنتي؟

 إيه نسيت جاهلة حق، من وين بتعلمي “

النبوءة التي في المنام لم تتحقق في عهد الجد؛ حيث عندما قرر الباشا: الساقزلي آنذاك ازالة القوس الرخامي وقف كل الناس ومنهم يوسف قارئ فرمانات الباشا ضد القرار وتم إيقافه. لكن تحقق النبؤة كان بعد عدة قرون في جلسة حراسات تضم شابين من المسلحين، أحدهما حفيد يوسف فرمان، وقد قاما بتفجير القوس بواسطة مدفع يدوي (أر بي جي).

النبؤة التي كانت في المنام الذي رآه يوسف فرمان تقوم بإبراز عظمة (أسطرة) القوس الرخامي، حيث هناك لعنة ستحل على من يهدمه، وأن تحطيمه يجلب الدمار واللعنة. استعانت القاصة بالإضافة للنبوءة – التي تمثل أحد مفردات نمط كتابة السيرة الشعبية – بأسطورة قديمة حول القوس.

ثالثا. التحولات الحاصلة على الشخصيات بين زمنين

 استعان الراوي باللهجة الشعبية عند تصوير الحوار بين الشابين في الحراسات وذلك ليضعنا في إطار تفكير كليهما، لنتابع المقطع التالي في آخر القصة، عند نهاية الحوار بين الشابين العابثين ثم الفعل الذي قام به يوسف الحفيد تحت تأثير كلام صاحبه وكذلك تأثير شحنة (الهباب/الحشيش) الذي يتعاطاه كل منهما:

“… نجرب.. شن فيها! لكن شن السبلة اللي بنقولها للآمر لما يسألني علاش استعملتها؟ ” ” قول انطلستْ مني يافندي! ريته غير معدل هو، انت اللي خواف… شكلك مش طالع لجدك !” ضحك صاحبه ظانًّا أن دعابته وقعتْ في محلها، لم يضحكْ يوسف، نهض واضعًا السلاح على

كتفه، صوَّب، ثم أطلق، ثم؟بعد ثوانٍ قليلة من استقرار القذيفة في هيكل القوس، سقطتْ حجارة صغيرة، تلتها مجموعة أخرى، ثم تهدم بالكامل، تفتت و كأنه مبني من رمال الشاطئ! وكأنه كان في انتظار هذه الإصابة لقرون خلتْ، انهارَ كُلُّه، أصبح كومة من الرمال، وبدا ليوسف حينها أنه يرى كابوسًا لا أمرًا واقعًا .”

الكاتبة كوثر الجهمي (الصورة: عن الرواية)

رابعا. حكاية القصة وتفخيم المكان وأهله

تمّ في هذه القصة أسطرة طرابلس باعتبارها المدينة المحروسة وأسطرة أهلها والحديث عن تاريخها، بالإضافة لوضع نوع من التهميش للزوجة القادمة من مكان بعيد عن طرابلس، وهو نوع من الصراع المجتمعي اراد الراوي ان يضع فيه بصمته:

“جاهلة إنتي؟ إيه نسيت جاهلة حق، من وين بتعلمي وانا جايبك من حدود فزان ما تعرفيش من طرابلس إلا اسمها! هذا المخزن قوس بنوه الناس الاولة بكل، يقولوا الرومان، هذا أقدم حاجة في المحروسة، هذا كان انتهى بتنتهي طرابلس يا حورية ” لم تجرؤ حورية على مجادلته في مصدر هذه الثقة التي يتحدث بها، فقد كان كلامه بالنسبة لها يأتي بعد كلام الله تعالى في قدسيته وحُرمة الجدل بخصوصه”

 فالصراع كما راينا في المقطع السابق يتخذ بعدا اجتماعيا بين مكونات مجتمعية مختلفة، يعبر بشكل مباشر عن تفوق الزوج يوسف فرمان الطرابلسي علميا وثقافيا عن الزوجة القادمة من خارج طرابلس، كما كان في السابق صراع ثقافي بين الباشا الساقزلي وسكان طرابلس وعلى رأسهم شيخ المسجد وكذلك يوسف قارئ فرمانات الباشا.

تابعنا التحول المجتمعي – عبر الزمن-  الحاصل من خلال ما قام به الشابان في نهاية القصة من تحريض الأول للثاني/ الحفيد للقيام بهدم القوس، ثم قيام الحفيد بتدميره.

خلاصة

ترصد قصة فرمان لكوثر الجهمي جانبين مهمين هما كما يلي:

الأول تمثل في الصراع الحاصل بين طرفين حول هدم القوس، بينما تمثل الجانب الثاني في  رصد التحول الاجتماعي. الصراع كان حول مخزن الرخام باعتباره عنصرا مرجعيا لطرابلس وأهلها (وهو كما أسلفنا القوس الروماني الشهير)، وكان الصراع في الماضي بين الباشا وأهل المدينة حول هذا المكان عندما كانت رغبة الباشا في تحطيمه، وقد أوقف السكان آنذاك قرار الباشا وكان منهم يوسف فرمان الجد الذي كان مكلفا بقراءة فرمانات الملك، الصراع يتكرر هنا ولكن مع اختلاف نتائجه؛ حيث في الحاضر نجد تحطيم المخزن الرخامي دون صراع من خلال  قيام شابين من الحراسات المسلحين بتحطيم مخزن الرخام دون أي اهتمام بنتائج ذلك.

قصة مميزة فيها حسن تنظيم للحكاية عبر مكونات مجتمعية منظمة تتباين مواقفها عبر الزمن.


http://tieob.com/%d9%81%d9%80%d9%80%d8%b1%d9%85%d9%80%d8%a7%d9%86/

مقالات ذات علاقة

المرأةُ الليبيةُ: تاريخٌ مجيدٌ وتحدياتُ المستقبل

المشرف العام

الشجرة كدلالة مكانية للوطن في الشعر الليبي المعاصر

سالم أبوظهير

الذَّاتُ المُتَوَاضِعَةُ فِي أَشْعَارِ الفَلاَّحِ الوَدَّانِي

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق