دراسات

جماليات الاشتغال السردي في القصة القصيرة

قصة شهيقة ملعونة  لجود الفويرس أنموذجا

(سلسلة دراسات حول القصص المشاركة في مسابقة سيكلما للشعر والقصة)

عيشة بنت الحوات.. من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري.

أولا. مدخل حول طبيعة الاشتغال النقدي في هذه القصة

تختلف السرود (في تصوري) سواء كانت قصة أو رواية في الطريقة التي تبيحها لنا لنتعامل معها، وذلك بالطبع ناتج عن الإمكانيات المختلفة التي تحتويها كل قصة أو رواية، ففي بعض الأحيان نضع مدخلا فنيا محددا كالتصوير أو الزمن أو الممارسة السردية ونبدأ في البحث عن كيفية توظيفها في خطاب النص وفي أحيان اخرى نمضي مع النص (وهو قصة في حالتنا)  نتابع جمالياته المختلفة كما وردت في ترتيبها النصي، وذلك في القصص التي نجد فيها كما كبيرا من التقنيات السردية التي تحقق البعد الجمالي والفني لخطابها. ولأننا في هذه القصة وجدنا قدرة مميزة على تفعيل السرد من خلال توظيف تقنيات سردية مختلفة على طول القصة، فإننا فضلنا لتعامل مع أغلب اجزاء القصة واستخراج التقنيات السردية التي تحتويها وربط ذلك باللحظة الدرامية في خطاب القصة وهي تنجز. لهذا ستكون دراستنا لهذه القصة استعراض للقصة في تتابعها مع محاولة استخراج بعض ما في خطابها من جماليات. سنقوم في البداية بتلخيص حكايتها ثم وضع تصور لطبيعة الشخصيات فيها ثم ندخل في التحليل النقدي.

ثانيا. حكاية القصة

تحكي قصة شهيقة ملعونة حكاية أسرة معيانة (أي تصيب الناس بالعين)، تتكون الأسرة من فتاة أسمها سمية وأمها، حيث نتابع معانتهما الدائمة من معاملة جيرانهم الفجة، كما نتعرف ضمن أحداث القصة على صديقة سمية العروس أيمان.

سمية محاصرة نتيجة للسمعة التي تمتلكها هي وأسرتها في إصابة الناس بالعين، جاءتها دعوة حضور فرح من صديقتها أيمان وتوجهت للفرح، وهناك واجهها الخوف والتطير من الناس، هربت من بيت العرس وعادت إلى أمها التي لامتها على ذهابها من البداية.

 العروس (إيمان) خرقت كل ما هو معتاد، وتوجهت  إلى بيت سمية صديقتها القديمة بحناء العرس وقادتها معها إلى الفرح، وأوضحت لها أن أحداثا سابقة حصلت تصورتها قد أضرت بها لكنها كانت في صالحها وأنجتها من مصائب أكبر.

القصة إنسانية تحكي عن فتاة معيانة وتاريخ أسرتها في العين وتطير الناس منهم وكيف تمت هزيمة هذا التصور عن طريق الصداقة، وكان ذلك من خلال الصداقة العميقة وإنسانية إيمان. نص مميز فيه سرد طويل بارع وشعرية في اللغة وحسن وصف وتأمل في تصوراتنا وحياتنا جميعا.

ثالثا. بناء الشخصيات في القصة: تقوم القصة على مجموعتين من الشخصيات كما يلي:

 1. المجموعة الأولى مكونة من  شخصيتين رئيسيتين تمثلت فيهما روح الصداقة التي تكسر كل الجمود وتحطم كل ما هو ممكن من الشرور، الصداقة بين : سمية المعيانة، وصديقتها أيمان العروس، ومعهما نتابع الشباب والرغبة في المغامرة وكسر الجمود، حيث يرسم الراوي هواجس الفتاتين من خلال الأحداث ويضعنا كل مرة فيما يشعران به. في البداية نتابع القصة من خلال سمية صاحبة الأزمة ثم ننتقل لصاحبتها إيمان العروس التي خرقت كل ما هو معتاد إخلاصا للصداقة ومحبة في صاحبتها سمية.

2. المجموعة الثانية مكونة من المجتمع المجاور للشخصيتين وهما على طرفي نقيض: أم سمية المعيانة التي عاشت ظروفا قاسية نتيجة لتصرف المجتمع معها، مقابل الأم نجد باقي النسوة في الحي.

رابعا. التحليل النقدي للقصة

1- بداية القصة:

تبدأ القصة من خلال المختصر التالي الذي يوضح ما سيحدث فيها بشكل غائم:

 ” بدأ كلّ شيء بالدّعوة. الامتحان، الخضم، القبول.

 ثم نجدنا في فرحة الفتاة المعزولة اجتماعيا بالدعوة التي بين يديها، وهو أمر يتحقق لأول مرة في حياتها، نتابع البعد اللمسي؛ حيث الصورة التالية فيها حضور للبعد اللمسي من خلال تصوير تلقي (سمية) رسالة الفرح ثم نجد بعد البعد اللمسي فيها بعدا سمعيا، لنتابع ذلك:

“(أ) تحسّست سميّة اسمها المكتوب على بطاقة الفرح، غير مُصدّقة، (ب) مرّرت أصابعها مجدّدًا على الاسم المكتوب، ضحكت، (ت) أوراق دعوات الزّفاف خشنة كما يقولون عنها، (ث) جميلة، تلمع ومرصّعة بالزّخارف. (ج) “لا تفكّري بالأمر”، قالت الأم بنبرة مفاجئة، تظاهرت سميّة بالطّرش. استمرّت الأم: “أنسيتِ الذي كان؟ أأقصّ عليك نبأ الشّهيقة الملعونة؟ أيام لا ردّها الله، اذهبي إن شئتي ولكن توقّعي العواقب التي أؤكّد لك أنّها لن تكون حميدة” قالتها وهي تغمض عينيها بنفاذ صبر، وهكذا انتهى الحديث. “

يمكن أن نلاحظ في المقطع السابق (وهو في بداية القصة) في القسم (أ) سمية وهي تتحسس لمسيا أسمها المكتوب على البطاقة. استخدام اللمس هنا دليل على كم عدم التصديق الذي تشعر به سمية، ويستمر توظيف الحاسة اللمسية في (ب) وإبراز المزيد من المفارقة التي تشعر بها، ثم نتابع ما تناقشه في نفسها وهو يدل على أن موضوع الدعوة أمر جديد ومربك بالنسبة لها، الصورة في (ت) فيها بعدٌ لمسيٌ (أيضا) يتم الإيحاء به من خلال كلمة (خشنة)، ثم نتابع الصورة البصرية لبطاقة الدعوة في (ث) لكن كان حوار الأم قاطعا ووضعنا في بدايات فهم عقدة هذه العائلة، حيث سيتم تقديم العقدة التي تعاني منها على عدة مراحل بدأت في المقطع السابق (ج) على لسان الأم التي تريد ان تكبح جماح ابنتها المندفعة.

 2- صورة الفرح

 هي صورة سينمائية فيها انتقاء أفعال تدل على ما يحصل في الفرح في ليبيا:

“مضت الأيّام، زيّن فيها الجيران العمارة، أشعلوها بالأنوار، ذبحوا ذبائحهم، نصبوا خيمتهم وأوقدوا قدورهم، ركّبوا “عالات الشّاي” في الأماكن الأكثر حيويّة، جهّزوا الحلويات وغلّفوا “سوابيت الكساء”، عجنوا حنّتهم، وقرعوا الطّبول، اليوم ابن الجيران يتزوّج بنت الجيران”

نلاحظ من جانب الرؤية أنّ الراوي يحيل تلك الأفعال إلى أشخاص مجهولين، وهو نوع من التفاعل مع الشخصية التي تشعر بالانفصال عنهم: (ذبائحهم، خيمتهم، قدورهم، حنّتهم).

3- البعد السمعي عند بداية حفل الفرح

الراوي هنا يعبر عن الحفل الشعبي من خلال محاكاته للأصوات؛ حيث نتابع صورة صوتية تعبر عن بداية  الفرح كما يلي:

“أيوا .. أيوا .. أيوا .. تِست .. تِست .. تِست .. واحد واحد .. واحد ..”، لعلع وصلصل صدى صوت “الزمزامة” وهي تختبر المنظومة في الأرجاء. جفل الجميع، هذا نداء على أنّ السهرة قد بدأت…

نلحظ أيضا التأطير في المقطع السابق من خلال: وها قد جنّ الليل وآن الأوان للطنّة والرنّة.

4- ذهاب سمية للفرح

توجهت سمية  للفرح وهناك واجهها الخوف والتطير من الناس وتاريخها القديم في العين والشؤم. سنلاحظ كيف يشتغل الراوي على الحدث من خلال التماهي مع وعي سمية التعيسة وأزمتها وهو يرصد تصورات الأخرين لها والدهشة التي أصابتهم لحضورها، ولعل هذه القدرة من الراوي على تصوير الوعي العميق للشخصية وعلى نقل الأحداث (طازجة) مما جعل القصة مميزة إلى حد كبير بل وفاعلة في التعبير عن الأزمة، كما أستخدم الراوي أيضا تقنيات سردية مختلفة منها الترهين وكذلك التصوير المنطلق من مجموعة من الشخصيات:

“(أ) الدّعوة تعني أنّهم يريدونها معهم، ويرغبون بها؛ (ب) ولكن وهي تهم بالدّخول سكبت أوّل عجوز لمحتها العصير في “حجرها” وتسمّرت كتحفة، الصّبية التي كانت “تعوّل” على الحضور وتوجّب النساء أوقعت القصعة السّاخنة من بين يديها مفجوعة، وشهقت إحداهن بما يكفي كي تصمت الموسيقى ويلتفت الجميع. (ت) حدّقوا طويلًا وكأنّه قد مغنطهم أحد، (ث) كان عيبًا أن يصمتوا هكذا فجأة في بيان صريح على رفضهم ودهشتهم، وقد جمعهم الطبل رغمًا عن أنف العصا، هذه المرّة في سكوت بليغ لا يقدره الكلام،(ج) يا للعار حين يتصرّف الكبار كالخدّج، يا للعار كيف جرحوا قارورة ضعيفة، (ح) وتهامسوا وهي تفرق الجمع همس يسّاقط في الأذن كالدّهائم: “ما الذي جاء بها؟ “ماااذا!” “كيف تجرؤ؟” “يا رب استرنا ويعدي العرس على خير” “قل هو الله أحد” “يا لطيف يا لطيف!”.

في (أ) نتابع حوار سمية الداخلي حيث الراوي يناقش أمامنا بشكل غير مباشر ما يدور في نفسها وهي خائفة ويضعنا من خلال اشتغال رؤية مميز في وعيها وهواجسها، ثم في (ب) نلاحظ ترابط حدوث أشياء عديدة مع حدث دخولها وهو ما نسميه (بالترهين) ومنها: سكب العصير في الحجر، إلى التسمر خوفا، إلى الشهيق بصوت عال إبرازا للاستنكار، ثم في (ت) تصوير من خلال اشتغال راو مميز حيث يصور ما يقوم به المجموع مؤكدا كم حضور تلك الفكرة النمطية حول سمية، وهو يرصد موقف واحد محدد وهو التحديق طويلا فيها، الملاحظ على هذه الصورة أنها تنطلق من بعد ثقافة علمية فالجموع كأنما تمغنطوا. سنلاحظ هذه الثقافة العلمية فيما بعد في صور أخرى، ثم في (ث) الراوي يسرد منطلقا من وعي سمية التي تشعر بالتعاسة ثم يضيف (ج) مستنكرا من وعيها تصرفهم الأرعن وهم كبارٌ في السن،  ثم في (ح) نتابع ما يصدر عنهم من كلمات مؤذية لها، وهي ليست مجرد كلمات عادية وإنما كلمات تعبر عن الثقافة والموقف المعتاد في لحظات مشابهة، ومنها الدعاء بالستر واللطف وقراءة سورة الإخلاص (قل هو الله أحد). نتيجة كل ما سبق هربت سمية من الفرح، وعادت إلى بيتها وأمها لتواجه أمها التي رفضت ذهابها من البداية.

القاصة جود الفويرس

5- صورة العروس (إيمان) باحثة عن صاحبتها

المقطع التالي يعبر عن براعة في السرد حيث الراوي يصور كل الأشياء متحركا من وعي الفتاة العروس إلى وعي النسوة في الفرح:

“(أ) سمعت العروس بالأخبار، (ب) نهضت تجري لتلحق بضيفتها التي لم يتوقّعها أحد، (ت) ولأنّ الحنّاء لم تصبغ في أقدامها بعد ولا وقت تنتظره فيها، (ث) ركضت العروس بدمّها الحار “تعفس” على السجاد، والبلاط الأبيض غير آبهة بشيء. (ج) إنّ الإهانة أقسى الحوادث، إذ لا ينجو منها أحد، تدهس كالشّاحنة، وتثقب كالخرطوش، وتفلق كالشّيتا، (ح) ولأنّها تعلم معنى أن يُهان أحد؛ ضحّت بحنّاء عرسها المهمّة ناسية كيف أكّد عليها العريس أن تكون داكنة زكيّة؛ علّها تلحق بما قد دمّره القوم الذي من دمها؛ لتصلحه وتوفّيه. (خ) لا آثار لسميّة – استنتجت العروس فورًا-، كان القوم في فوضى فضيعة، “يدقّلوا” كالنّار، (د)  وكن في دهشتهن ككمشة عذارى لا عجائز، وقد داهمهن رجلًا عاريًا ومجنونًا وليست حسناء صبيّة.”

المقطع السابق يعبر عن براعة السرد حيث يقوم الراوي بوضعنا في إطار انفعال العروس إيمان، ويستغل كل ما هو ممكن لتصويرها وإبراز طبيعتها الناصعة؛ فهي شخصية متوقدة ساخنة قادرة على القيام بما تريده من أفعال، لنتابع ذلك: في (أ) بداية الحدث وهو سماع العروس بالخبر، ثم في (ب) صوّر لنا الراوي قيامها مسرعة لتنقذ الموقف ويعبر في الآن ذاته من وعيها وعن تصورها لصديقتها التي حضرت ولم يكن حضورها متوقعا من الجميع، نتابع في (ت) عناية الشخصية العروس بالحناء لكنها مع ذلك لن تهتم بها مقابل تطييب خاطر صديقتها، ثم الراوي في (ث) ينفصل عن الشخصية داخليا ويصورها من الخارج في صورة ذات بعد لمسي فهو يصور دم العروس الحار والشعور بهذه الحرارة يبدو لمسيا على الرغم من كون المعنى الحقيقي مجازي يعبر عن الطابع المميز فيها وهو الحرارة ويصورها خارجيا وهي تعفس على البلاط بحنتها، وهو إذ يصورها خارجيا فإنه يركز على تلك الأشياء التي تشعر بها، ثم نتابع في (ج) قدرة الراوي المميزة وهو يصور لنا مفهوم الشخصية/ إيمان للإهانة التي تعرضت لها صديقتها، وكله يعبر عن مشاعرها تجاه صديقتها، ويعكس طابع القوة فيها وفهمها للأشياء فالإهانة كما يصورها الراوي من وعيها: تدهس كالشّاحنة، وتثقب كالخرطوش، وتفلق كالشّيتا، والشيتا هي نوع من الفهود. إن الصورة هنا تتحدث عن الإهانة بفهم العروس، وتعبر من خلال ما انتقاه الراوي عن قوة شخصيتها، وتعكس في الأن ذاته ثقافة مختلفة عن السائد وهي ثقافة العروس نفسها التي عبر عن شخصيتها من خلال دمها الحار. في (خ) نجد صورة للفرح وقد خرجت سمية وظف الراوي في نهايتها كلمة شعبية (يدقلوا) معبرة عن حالهم، ثم ينطلق من وعي العروس ليعبر في سخرية عن تعاسة تلك النسوة اللاتي أبدين قرفا من سمية بصورة شديدة السخرية دالة على الاستهزاء فهن بدون في تصور العروس المنفعلة: كعذارى تعرضن لموقف محرج مع رجل عار.

6- سمية وصورتها هاربة من الفرح

نتابع في (أ) صورتها وهي تنتحب، ويتم تفعيل الصورة بشكل أفضل من خلال رصد شعورها ببرودة الرخام، كما نتابع الصورة المتخيلة لما وراءها تتداخل فيها الرائحة من خلال آثار العجلات مع البعد اللمسي من خلال تصور آثر المكابح، كما نتابع صورة متخيلة صوتية لسمية الطفلة وصوتها الغريق. يتم ربط الصورة المتخيلة السابقة بما تراه إيمان وهي تخرج إلى بيت صاحبتها. في (ث) صورة سمية وقد عزمت على دخول البيت ومواجهة تقريع أمها المتوقع، ثم في (ج) حوار الأم اللائمة أبنتها على الذهاب، ويمضي الراوي على لسان الأم في (ح) وهو يستنطق تصورها لفهم جيرانهم لأسرتها، وهو تصور ناتج عن بعد تأملي مميز، ويستكمل التأمل في مفهوم التجربة عن الكائن البشري في (خ):

“(أ) بكت سميّة، انتحبت طويلًا على رخام الدّرج البارد، (ب) وكان وراءها -وقد لحظه نفر وحيد- دون أن تدري دخّان العجلات، وآثار المكابح، وصوت الطلقة الغريق وهي تخرج من الجحر، (ت) استنتجت العروس: “حادث كبير يا ساتر”، ومازال الوقت مبكّرًا على التحمّد بالسّلامة، الإصابة ليست في الحديد، في الغالي يا رب الغوالي.

(ث) كفكفت سميّة دموعها على عجل، وانتظرت ما يكفي كي تختفي الحمرة، أنفها اللعين لا زال عازما على إفشاء الأمر؛ لكنّها أدارت المفتاح على أي حال ودخلت الشّقّة.

(ج) بوغتت بالسّؤال أوّل شيء: “ما الذي يفسّر عودتك سريعًا؟” لا شيء، فقط مللتُ الأجواء، “بعد عشر دقائق؟”، لم تجب سميّة. نهضت الأم من الكرسي قائلة: “حسنًا” ثمّ رفعت سبّابتها في وجهها: “ألم أحذّركِ؟ ألم أقل أنّهم لن يقبلون بنا؟ (ح) إنّنا كالمُهق بين العبيد، ننحذر من سلالة إبليس، شماعة يعلّقون عليها بؤسهم وسوء حظّهم، أكان عليك الذّهاب كي تدركي هذا أخيرًا؟ هاه؟ أكان حقًا عليك الذّهاب؟”. كانت رغبة الأم هي أن تحمي مشاعر ابنتها منذ البداية، (خ) ولكن ما الذي يقتل الفضول كالتّجربة؟ ولولا ذلك لما ابتعد الطفل عن برّاد الشاي وهو يتذكّر لسعته الحارّة كلّما سمع لفظ “أحّا”، تركتها تذهب لمرّة على الأقل، علّها تدرك كيف يصير الصّبر فناء، وأنّ منفاهم انتظار الفرج.

7. احتدام أحداث القصة واضطرام الموقف بين الفتاتين

نتابع صورة وصول إيمان التي وصلت إلى بيت صديقتها وطرقت الباب. يتم توظيف البعد السمعي فيها، لنتابع في (أ) سماع الأم لصوت طرق على الباب، ثم تصرفات الأم ورد فعلها المنطلق من بعدها الثقافي وتصوراتها للأشياء وخوفها المستمر من تهمة العين، نتابع ذلك في (ب)، بينما يستمر حضور البعد السمعي محركا للصورة في المقطع (ت) أيضا، ونجد أيضا في (ث) للبعد السمعي حضوره في لحظة اعتذار إنسانية مميزة من إيمان لصديقتها. بينما نلاحظ توظيف البعد اللمسي من جديد في (ج) ولكنه بعد لمسي مجازي وليس حقيقي ففي الارتعاد من البرودة إشعار بإحساس الجلد بها، كما نجد تصوير الثورة بكونها خشنة وهو أيضا ذو بعد لمسي معنوي غير حقيقي، بينما نجد في نهاية المقطع السابق الطويل في (ح) تصوير انفعال سمية التي فاجأها ما تقوله صديقتها، فصار وجهها صفحة لا يمكن وصفها وتم التصوير البصري بطريقة مميزة تعكس ثقافة الشباب وهو يكتب حاليا مزودا بأفكار عن الكود الذي لا يقرأ الكود الذي تؤسسه الدهشة والمفاجأة. 

“(أ) سمع طرق الباب، لم تُصدّق الأم أذنيها، طرقٌ أعلى وأشد، لم تُصدّق بعد، وتابعت لظم الخيط في الإبرة، (ب) فجأة اهتزّ الباب، وأدركت الأم أنّها لم تتوهّم، حوقلت وهي تنظر من عين الباب: “بسم الله الرّحيم، بَشَرِي من العوام أمام بيتي؟” قالت بصوتٍ قد سرقه الخوف: “من؟”، “جارتكم إيمان”، أجابت العروس بلهجة صارمة، “ماذا تُريدين؟”، “أن أحادث سُميّة”، لم تجب الأم؛ لذلك أردفت إيمان بأدب: “أعدك سأكون سريعة”، فتحت الأم الباب، ووجدت إيمان نفسها في “المربوعة” مواجهة لسميّة. (ت) خيّم هدوء عكر، ضيّفت الأم فيه العصير، ودقّت الثّواني على الحائط بعنف، هدوء يجعل من الحبّة قبّة، ومن بلعة الرّيق كركرة نهر، ومن مقلتا العين الضّجرتين جرمان سابحان في المجرّة. وهكذا مضى وقت شعرت به الفتاتان أنّه طويل جدًا، بما يكفي كي تستفتيا قلبيهما، وتستذكر كلّ منهما على حدى صداقتهما القديمة، وبعد أن لاحظت إيمان أنّ سميّة تتجنّب النظر في عينها قالت وهي تميل شطر وجهها بلطف: “يا ربي! ورّيني ترا؟ بكيتي؟ أنفك يفضحك كما هو الحال”، وكما هو الحال لم تجب سميّة. (ث) قالت إيمان: “أعتذر، أعتذر عن ضيوفي الحمقى جميعًا”، أماءت سميّة رأسها علامة على القبول، “يمكنك الصّراخ، قولي أي شيء، اشتمي، سِبّي، أقسم بأنّني لن ألومك”، تشبّثت سميّة بصمتها المعتاد، صمت مستفز لا يطيقه أحد. (ج) ولأنّ فرائص إيمان كانت ترتعد لهذا البرود؛ قرّرت أن تفتح الدّفاتر وقالت في ثورة خشنة: “أتعلمين؟ لم تسأليني أبدًا عن رأيي في تلك الحادثة، أبعدتني عنك فورًا، بنيتي بيننا الحواجز، أتتذمرين الآن من وحدتك وأنت السبب فيها؟ تقرّبت منك، هاتفتكِ بعد أن تعافيت آلاف المرّات؛ لكنّك دفعتني بعيدًا، كان عليك سماعي على الأقل”، لا إجابة. “أتبكّمتِ لا سمح الله؟ يمكنك أن تُشيري إذًا وسأفهم!”. مضت لحظات، تحدّثت إيمان: “أردت أن أخبرك لسنوات أنّك أنقذتني، لقد أنقذتني، كُنت ذاهبة إلى مكان حيث وقعت شظايا، ماتوا جميعًا، وكان حتفي هناك، لو لم يعجبك حذائي، لو لا عينك لما كنت عروس اليوم، لما تعثّرت، وجرى ما جرى”. وفيما كانت إيمان تقدّم شُكرها الذي لا يُصدّق ولم يخطر في البال، (ح) كان وجهه سميّة وقتها لا يفسّر، لا يقرأه شيء، كود سرّي من الدّهشة والشّرود، أكان هذا حقًا ما هي عليه رُغم كل شيء؟ أنقذت عينها الشّريرة أحدهم؟ ودون أن يكون هناك وقت لأيّ شيء، أخذت إيمان سميّة من يدها ونهضت بها سريعًا، نظرت إليها وهي تقول: “لا عرس من دونك اليوم، أتسمعيني؟”

 8- نهاية القصة

العروس خرقت كل ما هو معتاد وتوجهت لبيت سمية بحناء العرس وقادتها معها إلى الفرح وأوضحت لها أن احداثا سابقة حصلت تصورتها قد ضرت بالعروس لكنها كانت في صالحها وسبب نجتها من مصائب أكبر. هنا يصبح لعلاقة الصداقة القدرة على قهر هذا التصور السخيف اللاصق في الفتاة، إذن المقاومة كانت في البداية من الفتاة بذهابها للفرح وأكملت المسيرة صديقتها العروس وجاءتها لبيتها وأخذتها معها وكان الانفعال في أقصاه:

“وفيما كانت إيمان تقدّم شُكرها الذي لا يُصدّق ولم يخطر في البال، كان وجه سميّة وقتها لا يفسّر، لا يقرأه شيء، كود سرّي من الدّهشة والشّرود، أكان هذا حقًا ما هي عليه رُغم كل شيء؟ أنقذت عينها الشّريرة أحدهم؟ ودون أن يكون هناك وقت لأيّ شيء، أخذت إيمان سميّة من يدها ونهضت بها سريعًا، نظرت إليها وهي تقول: “لا عرس من دونك اليوم، أتسمعيني؟ جاءت بها على الملأ، “هذه ضيفتي” قالت، “أريدها في عِرسي، وانظروا هاهي يدي في يدها ولم يحدث شيء”. تحلّقوا حول الطّبل أخيرًا بعد أن استثقلوا الأمر، غنّوا رقصوا وصفّقوا”

خامسا. خلاصة

قصة إنسانية توضح كيف يمكن هزيمة التاريخ الشخصي السيء من خلال الصداقة العميقة. نص مميز فيه سرد طويل تتطور فيه دراما الأحداث والمواقف بشكل متصاعد، كما يتميز بشعرية في اللغة وحسن وصف وتأمل في تصوراتنا وحياتنا.

أيضا نجد أن الراوي قد أتقن توظيف الاشتغال على الحواس فكانت حواس اللمس والسمع والبصر حاضرة بشكل مميز ومناسب مع اللحظة السردية ووضع الشخصية، كما أحسن الراوي توظيف الممارسة السردية من جانبيها: الترهين والتأطير، وكذلك كانت الرؤية مميزة في هذه القصة. من المميز أيضا في هذه القصة أنه لم يتم مناقشة مدى كون فكرة العين حقيقية أو كاذبة ولكن تمّ التعامل بكونها شيء مسلم به موجود ولكن يمكن تجاوزه بحسن الفهم وبالصداقة.


http://tieob.com/%d8%b4%d9%87%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%85%d9%84%d8%b9%d9%88%d9%86%d8%a9/

مقالات ذات علاقة

المعالم الاجتماعية التباوية

امراجع السحاتي

تأملات في أدب السيرة الذاتية قراءة في يوميات (افكيوات) للكاتب جمال الزائدي (نموذجاً)

المشرف العام

ليبيا واسعة – 47 (هريسة)

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق