الركض في حقول الذاكرة….
نعم أنا خائفة، غاضبة، (متكنطية هلبة)، من حوااااااااااااا جداااااا جدااااااا، ولكن ما باليد حيلة ها أنا أتعايش مع كل تلك الفوضى والعبثية في أحيان، أتعايش مع رعبها وبكائها من (الزهايمر)، نعم هي خائفة من هذا المرض (ليس لأن أمها منذ تسع سنوات وقعت في قبضة هذا الغول)، ربما ثمة وراثة في الأمر، ولكن يبدو الزهايمر مرض العصر، رغم افتقادنا للإحصائيات وانشغال عياداتنا بالتربح، فلا تفكر في بذل جهد ومال من أجل البحث، أمي التي من تأثير أدويته صارت خطواتها ثقيلة وخوفها من المشي وتلكؤ حركتها، ولكن ذات حين خاصة حين تكون وحدها وتسمع أصواتا، ببساطة تنهض وتمشي ونجدها واقفة قربنا أو جالسة بارتياح على الكرسي؟ ….
ألاّ يقتضي هذا بحثا ودراسة من الأطباء المشرفين، ألاّ يبذر هذا أسئلة بحاجة لاكتشاف أجوبتها، هل أخبرت صديقاتي من يتابعن قراءة هذه السيرة أني صرت لا أنام، صباح اليوم واصلت البحث عن كتاب شعري صغير هو (فجر وغيوم) للشاعرة “كوثر نجم”، وكتبت رسالة للشاعرة الباحثة “فاطمة بوهراكة”.. ولكن مازال بعض لغز الشاعرة “كوثر نجم” يحتاج التنقيب، و أنا مازلت أنقب في هذي السيرة خوف أن تضيع الحكايات، والسنوات المكتظة من نهاية عام 1987م، وتباعاً…
وفي الذكريات رسالة طويلة كتبتها للشاعر “عبد الحميد بطاو”، بعد حصولي على ديوان وربما ديوانين (ولا أعرف كيف تحصلت عليهما… كان هذا في بداية التسعينات أو ربما عام 1990م).
ما أتذكره هو فرحتي وأنا أتعرف على شاعر ليبي، وكنت تعرفت على الشاعر “أحمد الشريف” الذي يدرس بالدراسات العليا في كلية التربية، وأخبرني أن الشاعر “بطاو” من مدينة درنة، وكتبت تلك الرسالة، أتذكر تلك البنت “حـواء” بعفويتها وبهجتها واندلاق مشاعرها النقية، وأعطيت الرسالة للشاعر “أحمد” و انتظرت ردا ولكن، في التذكر لقائي مع الشاعر “عبدالحميد” في مناسبة في طرابلس وربما نظرته المتوجسة، الآن وأنا أكتب هذه السيرة أنتبه لتلك السنوات المجبولة بالخوف والتوجس، فما بالك برسالة تصل من بنت تكتب وتنشر في صحيفة الجماهيرية، (رغم توقفي عن الكتابة فيها منذ 1985م)، ولكن في تلك السنوات لم أنتبه لماذا تصدر ردود الفعل المتوجسة، لأني كنت مستغرقة في نشوة حريتي الخاصة، حرية طالبة جامعية، لكنها مثقلة بحمولة من الوعي الذي نتج عن القراءة، ونتج عن ملاحظة ذاك الثقل الذي تشعر به يسمُ كل شيء يحيط بها، قد أصف ما أنا فيه (خبط عشواء) أو تلك البهجة التي تشعر بها تلك (العصفورة) التي وجدت فضاءا شاسعا بعد القفص.
طالبة جامعية ولكنها بنضج معرفي، إن صحت التسمية، ولكنها أيضا بذاك البحث عن النصف الآخر ليس كمخلص ولكن كشريك، بعد مرور هذه العقود كأنها مازالت في نفس الدائرة بل ربما أسوأ، وأقصد هنا في علاقتها بهذا المجتمع وتعاملها معه، في خوفها وعدم ثقتها في نفسها، غريب هذه القدرة الكامنة في متن المجتمع لأذيتك حين تكون مختلفا، فما بالك وهذه التي تحاول الطيران مجرد بنت من سوق الجمعة…
كيف تغلبني الرداءة…..
بين العام الذي انقطعت فيه عن التعليم (أغسطس 1987م) وبين العودة إليه في نهاية عام 1991م، وعام وعام.. انتبه لتلك التعرجات أو التخلخلات التي حدثت في البنية التعليمية (والتي ظلت تتواصل حتى اليوم)، حين صار الغش يتم بحماية الإدارة المدرسية، وحدث أن عشت هذا ولم أستطع مقاومته والاحتجاج حتى، ولكنني لن أغفر لنفسي ما فعلته بطالبة (لا زلت أذكر اسمها)، كانت طالبة لديّ وطالبة بمستوى متوسط، ولكن كان في فصولي الأخرى طالبات بمستوى ضعيف جدا يجعلني أتساءل بغباء في حجرة المدرسات: كيف تصل طالبات للمرحلة الثانوية وهن لا يعرفن القراءة والكتابة، ليست الحكاية في بضع كلمات ولكن فعلا حالة من الجهل وأيضا الثقة في النجاح بالدور الثاني.
ما زلت لا أصدق أني صادفت طالبة بالصف الثالث ثانوي علمي، حين تقف لقراءة درس العربي أو شرح السورة تتلعثم ولا تستطيع إلا نطق بعض الكلمات المعروفة والمتداولة، من يصدق تلك الطالبة نجحت واستطاعت أن تحصل على الثانوية العامة قسم العلمي بتقدير جيد مرتفع أو جيد جدا، ودخلت كلية التقنية الطبية. وعرفت أنها كانت تجتاز كل عام بنجاح، تلك السنوات لو تتذكرون حيث في أحد السنوات لا يكون دور ثانٍ لمن رسب في ثلاث مواد، بينما في عام آخر تتم الإعادة بل ودور ثالت أيضا لعيون ابن القايد…!!!، تلك السنوات حين وقفت طالبة في أحد الفصول تخبرنا عمّا حدث لها حين وجدت أن لديها ثلاث مواد، وهي من الأوائل المجتهدات، وكيف ظلت تؤكد لأسرتها بيقين نجاحها، وهكذا من شخص لشخص وإدارة تحيلهم لإدارة، ظهرت كراسات الإجابة الخاصة بموادها، والشخص المسئول يواجهها قائلا: (أوراقك مش مصلحة وما عندك ما اديري..؟!!!!)
ولكن في ذاك اليوم وبعد خروج الطالبات وبقاء تلك الطالبة مع أخرى، كانت معي بلجنة مراقبة معلمة أخرى، حرصت على التضييق على تلك الطالبة وعدم منحها فرصة، بينما كانت طالبة أخرى تنقل الإجابة من كتاب، وانتهى الوقت وخرجت تلك الطالبة وأنا أشعر بالنشوة لحرمانها من الإجابة.
يا الله أي رداءة يمكن للنفس البشرية أن تصل إليها، ولم أتقابل مع تلك الطالبة وهي الآن كما أرجو لها أم وسيدة أسرة، أعرف أنها لن تنسى ما فعلت بها وأيضا ما حييت لن أنسى ما فعلت لها، ولكنه الخراب الذي لم نقاومه كان ولايزال تيارا جارفا، لو حاولنا مقاومته سيهزمنا بألياته وقدرته على التبرير.
أمّا تلميذتي بالصف الثالث إعدادي (ومن يلوم بنتا في الرابعة عشرة على تفسير الأمور كما تراها) كانت طالبة مفضلة لدي، كنت معلمة التربية الإسلامية وهي كانت متوهجة و ذكية، ودرجتها اقتربت من الدرجة النهائية، ولكن جاءت تعاتبني كيف تتحصل تلك الأخرى على نفس درجتها، هي لن تفهم أن تكون معلمة لثلاثة بل أربعة فصول، كل فصل يتجاوز الثلاثين، تصحيح كرا سات وتطبيقات شهرية وامتحان نهائي، ولن تفهم ما معنى أن تكون معلمتها كاتبة صحافية وشاعرة، شاعرةٌ حين تغويها النسمات وهي باتجاه المدرسة تغير الاتجاه وتذهب لترى الغزالة وهي تسند حسنائها التي تأخذ حمامها الصباحي، شاعرة تغويها شوارع طرابلس ومكتبة (عمي الوحيشي) والذهاب لصديقتها “كريمة” أو حيث سوق الحوت- باب الحرية وبيت خالتها سالمة، لكنها بنت في الرابعة عشرة أحست بالظلم وتوجعت فقالت لي بعد عتابها بل ومساءلتها لي وإعلان غضبها: (مش حنقرا لامتحان غدوة وحنشوفك شن اديري…!!!؟؟؟) ربما بتلك الروح المكتظة بالمرارة وقعت تلك الطالبة في براثن حقدي على الوضع كله،
أي قوة في تلك البنت الصغيرة، وأي غباء لتلك المعلمة التي لم تستطع أن ترفع درجة تلميذتها المتميزة والمتألمة، كانت إجابتها ناقصة في ورقة الامتحان، وحين جمعت أعمال السنة التي كانت كاملة مع درجة امتحانها كانت درجتها ناقصة عن الفترة الأولى، ولم أستطع حتى إضافة الدرجتين، ليس تحديا ولكن فعلا لم أستطع، يااااا لو تدري تلك الصغيرة كيف أن نظرة الاحتقار التي رمتني بها وهي تنظر درجتها، كيف أن تلك النظرة مازالت حتى هذي اللحظة تحفر في روحي…
ولم ألتقِ بها أيضا بعد ذاك العام، ولن أعرفها إذا التقيت بها، ولكن (حياة بالحاج) طالبة الثانوي عليها أن تبحث عني وتخبرني أنها قد سامحتني.