سيرة

للتاريخ فقط (8)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الشهيدان؛ محمـد الطـيب بن سعود وعمر علي دبوب

الحـلقـة: 8/ يا لنبوءة دبــوب التي قـتـلــته

مساء يوم السابع من أبريل عام 1977م،  كنت أنا وأسرتي نقضى أمسية جميلة في بيت الوالد، وكان الوالد رحمـه الله حريصًا على متابعة نشرة أخبار التلفزيون الليبي التي تذاع عادة في التاسعة والنصف مساء، وبينما كنت في هذا الوقت من ذلك المساء أجهز نفسي للخروج والعودة لبيتي ذعرت ووقـفت مبهوتـًا وأنا أرى عبر شاشة التلفزيون شخصان يتأرجحـان في حبال المشنـقة بينما أسمع المذيعة “حورية مظفر” تقول بتشفي مرعب، تم اليوم تنفيـذ حـكم الإعــدام في كل من “عمر على دبوب” و”محمـدالطـيب بن سعود”، في ومدينـة بنغازي وسط ساحة الكنيسة.

يا الله عصاني الدمع لحظتها، رغـم هول الكارثة المفاجئة التي شلت كل جسدي، وشعرت بضيق يوشك أن يكتم أنفاسي فأردت أن أسارع في الخروج، لكى أتـفجر في شوارع درنة وأصرخ في الناس؛ ماذا تنتـظرون بعد هذا؟ ولكن والدتي رحمها الله هددتني حينها وهى تسد الباب بجسمها قائلة: لو خرجت سأقتل نفسى؟

فاضطررت أن أنام ليلتها في بيت الأهل على مضض، ونام الجميع وبقيت جالسًا وحدى في آخر ساعات الليل أحدق في العتمـة، وأحاور نفسي كالمجانين وأردد وأنا أضغـط أسناني مفجوعًا:

– يا الله يالنبــوءة “دبــوب” التي حدثت له كما توقعها، ولكن بعد عشر ســنوات.

 وأستعيد ما قالـه يومها وسط نقاشاتنا (في سـجن الحصان الأبيض) أواخر عام 1967م، عن ضياعنا وعدم جدوى تضحيتنا وأن ليبيا من المستحيل أن تقوم بها ثورة، ولحظتها فوجئنا بـ”دبوب” يصرخ منفعلا رافضًا إحباطنا قائلا:

– إنني أتمنى أن تصير ثورة في ليبيا، وحتى لو شنقوني بعدها سأموت سعيدًا!!

يا الله ها هي تتحـقـق نبوءتـك يا “دبوب”، وها قد شـنقوك بكل قسوتهم وجبروتهم.

كانت ليلة بائسة وتعـيسة تلك الليلة التي قضيـتها مـرغمـًا في بيت الأهـل، كانت شخصية “دبوب” بقامته المديدة وجسده النحيل وأصابعه الطويلة المرتعشة، تمـلؤ خيالي الملتهب وكانت مواقفه الطيبة تشعل وجداني.

 وأستعيد زيارة والده (عمى على)، لنا ونحن في قفـص المحكمة خلال أواخر يناير 1968م، ليبلغه بوفاة والدته، كان “دبوب” صـلبًا صامدًا، وكان والده رحمه الله أكثر صمودًا وأكـثر صلابة ورباطة جأش، كنا كأننا في جنازة في اليوم الثالث من أيام محاكمتنا، ونحن نجلس يجللنا الحزن في قفص المحكمة، نستمع الى ضغط أسنان “دبوب” من الغيظ وتأوهـاتــه المحرقـة أمام عجزه عن مواساة والده في هذه الكارثة، التي أبكـتنا جميعـًا.

أما الشهيد “محمـد الطيب بن سعود”، فقد كان الوحيد الذى عذب بلا رحمة بين يدى مباحث العهد الملكي حتى تفجر الدم من رجليه من هول (الفلقة)، كان أكثر شباب (حركة القوميين العرب) صمودًا وتحملا، وكان أكثرنا إيمـانـًا بهذا الشعب وبقدراته التي ستـتفجر ذات يوم.

يا الله كم يمـزقني الغضب وتعتصرني الحسرة، وأنا اتذكر قوافل الشهداء الذين فجعـوا بزيـف وظلم القـذافي، وماتوا بغصتهم ولم يحضروا هذه الثورة المعجزة الحقيقية التي نعيشها هذه الأيام وما أروع بنغازي ويالعظمة وفاء ابناءها وهم يسمون (ميدان الكنيسة)، الذى أعدم فيه الشهيدين بميدان الشهيدين (دبوب) و (بن سعود)، ويكفي الشهيدين شرفـًا أنهما كانا أول شهيدين ساهما في زيادة رصيد الغضب الذى تفجر في كل الشوارع الليبية وتحـقـقت من خلالـه هذه الثورة.

كان لابد لي أن أخرج عن سـرد وتتبـع حواري مع التاريخ الجماعي لشباب (حركة القوميين العرب) الذى أعيد تـدوينـه الآن وكما عشـته، لأن هذه الذكرى المؤلمة تفجرت رغمـًا عنى بكل ما فيها من بشاعة وألم.

نعود لحديثنا السابق لنقول إننا بعد أن تأكـد لدينا موعد المحكمة، أصبحنا أقل قلقـًا وأكثر هدوء واستقرارًا، ولم تعد تراودنا أحلام الأفراج، بل صرنا نحسب مدة السجن السابقة كموقوفين باعتبار أنها ستخصم من مدة الحكم المتوقع أن يحـكمـوننا بها، ولم نكن متفائلين لأن كل المعطيات لا توحى بالتفاؤل.

مربنا في السجن شهر رمضان، وكنا نقضى الليل في الحوارات والنقاشات والتسلية ببعض الألعاب حتى نسمع الفجر ونصليه جماعة، ونقضى النهار كله نومـًا حتى قبل العصر، لكى نصلى الظهر قضاء ونقضى عشية اليوم في التعبد والدعاء الجماعي في انتظار المغرب، وليلة العيد شعرت بوحشة وحزن وغمة منعتني من النوم، فتمخـض قلقي وضيقي على قصيدة كتبتها فجر ذلك العيد قلت في بدايتها:

(سأمٌ كالعناكب

تلتـف خيوطه حول شـراييني المصلوبـة

وحــياتي مـلـلٌ يـدفـع للـغـثيان

تـتـزاحم فوق دروبي صـورٌ مقـلوبة

تنضـح بالـزور بالبـهـتان

وضبابٌ يمـلأ فكـرى ورطــوبـة

كبصاق التبغ الأصفر يبصـقه كـهلٌ غـضبان

واللـّـيل

اللــيل… اللــيل…اللـّـيل

شـلل يمــتـد على الأزمــان)

وقبل أن أنام كتبت على ورقه (عيدكم سعيد وبالله عليكم لا توقظوني)، والصقت الورقة على الحائط فوق رأسي ولكـنهم في الصباح ايقظوني رغمـًا عنى، وتحركت لأجلس بجانب الصديق “مكائيل السنوسى العـقورى”. على سريره كان يوم عيد باهـت، لا لون ولا طعم ولا بهجة فيه، وبينما أنا أحنى رأسي مهمومـًا، وكأننا نجلس في مأتم فجأة ومن خلال عبراته سمعت “ميكائيل” يغنى أغنـية علم يقـول فيها:

(أربــوهـا بـعد خــوجـات… العــين بوزعـوا موجــودهـا)

وقفت مذعورًا وخرجت مسرعـًا لكى لا أضعف أمام صديقي الذى أفرد أوراق حزنه كلها فجأة بهذه الغناوة! فأنا أيضـًا مثـله أنا أيضًا يوم القبض على كنت في قمـة السعادة والخوجه وتبوزع، وضاع كل موجودي تحت عجلات فولكس المباحث في ذلك المساء الحزين عام 1967 في درنة.

وجدنا أن فترة التوقـيف كانت أكثر من خمسة أشهر، وأن فترة المحكمة ربما ستأخذ أكثر من شهر وهكـذا فرحنا حينما اكتشفنا أنـنا قد قضينا من هذه العقوبة المحتملة ستة أشهر، وصار أكثرنا تفاؤلا يقول أنه سيحكم بثلاث سنوات على الأقل.

دعونا نتوقف هنا لكى نتحدث في الحلقة التاسعة عن تفاصيل أيام المحكمة، التي بدأت من فجر يـوم السبت: 15 يناير 1968م، الذى لم يعد بعيدًا منا.

فإلى الحلقة التاسعة إنشاء الله…

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (38)

حواء القمودي

سيرة الفنان وحيد سالم

رامز رمضان النويصري

سيرة نفيسة

المشرف العام

اترك تعليق