منذُ آلاف السنين والشعرُ لايزال صوتاً يبوح بكل شيء فيثري فضاء الإبداع الإنساني بالكثير من الجماليات المتنوعة. يتخلق نسيجاً في كياننا المعرفي والحسي والذوقي حتى نال على الصعيد العربي وصفاً لائقاً ومستحقاً به وهو (ديوان العرب). يحتضن العديد من الأصوات والأسماء والأنماط والأجناس المتفرعة التي تتشكل بقوالب شتى، وتعبر بأسايب متنوعة يتعالى فيها الإيقاع الموسيقي أحياناً ويخبو ويخفت ويغيب أحايين أخرى، ولكن الشعر يظل حاضراً غالباً، يبرق بجمالياته بين المفردات والعبارات الرشيقة والصور التعبيرية والتكوينية المختلفة.
من بين الأصوات الواعدة في المشهد الشعري التونسي شاعرة شابة ترسم نصوصاً وجدانية زاخرة بالمضمون العميق والإيقاع الرنان. تحاول مثل مبدعات عربيات أخريات من جيلها أن تهمس وتهتف في آن واحد (أنا حاضرة في فضاء الشعر وهذا صوتي… فاقرأوني واسمعوني .. ولكم حرية الحكم).
وصفتها صحيفة الشروق التونسية بأنها (ثائرة في أحاسيسها، متحفزة للقادم…) وتضيف الصحيفة مخاطبة القاريء (.. تسافرُ مع قصائد زليخة عوني على متن زورق البوح والبحث عن هوية خاصة.. هوِّية الحبّ والعشق والأمل والتحليق في الأفق الرحب بعيداً عن ضوضاء المدن والحياة بكل تفاصيلها وشروطها ومتطلباتها الآنية والمؤجلة.)
وتلامس الصحيفة محتوى المجموعة الشعرية الأولى الصادرة عن دار البيان للطباعة والنشر بمدينة بنغازي في ليبيا تحت عنوان «هُوِّيتِي عِشْقِي» فتصفها بأنها (همسٌ دون تملك… وحنينٌ هادئٌ عميقٌ مردداً لحناً إبداعياً في جنبات النفس… سبرٌ لأغوار النفس الباحثة عن الاستقرار النفسي… الهدوء والسكينة والصفاء الروحي… عزفٌ رخيٌم على أوتار قلب متعطش للحظة صفاء… لحظةُ جمالٍ وافتتانٍ ومناجاةٍ لطيفِ الحبيب … اعترافاتٌ صادقةٌ صافيةٌ وسموٌ الى قمة الوجدان لـ «عاشقة سمراء» اسمها زليخة عوني.)
الشاعرة التونسية الواعدة زليخة عوني تُلبس نفسها صفاتٍ عديدةً صرّحت بها في نصِّها (حواء) فهي (حواء العاشقة، الفاتنة بلا نهاية، الحبيبة، الجريئة، المرأة المغرورة، الجسورة، الغانية، الخجولة جداً، عليسة، ليلى، سلمى، جولييت، الاميرة، الفقيرة، وغيرها) ثم تلخص هوِّيتَها فتقول (أنا كُلُّ ألوان النساء، أنا أجملُ الجميلات، الأنثى الملهمة، المرأة الطالعة بكل الفصول، وغيرها).
ويمكن تصنيف أغراض ومضامين نصوص الشاعرة التونسية الشابة “زليخة عوني” في أربعة محاور هي: السؤالُ المطرقة المحرك للفكر وفتحه لنوافذ التأمل الرحبة، وصوتُ الأنثى وبوح الذات والهوّية، والمقاربة والاعترافات ببعض الخصوصية وتفاصيلها، والمقاولة الحوارية بينها وبين عدة أصوات متنوعة.
ففي نصِّهَا (متى؟) تتكرر أداة السؤال إحدى عشرة مرة في محاولة للتمرد على الواقع وخلق فضاء حالم تنسجه مفرداتها كلوحة تشكيلية جذابة أو جدارية فسيفساء منحوتة بكل دقة وإتقان، ترحل بالأخيلة بعيداً إلى عوالم زاخرة بالبهجة والعذوبة بحثاً عن زمنٍ تترقبه الأنفس باشتياق ولهفة للخلاص من الراهن الرتيب.
ومثلما صوّرت لنا قلقها ولهفتها للحظة الانعتاق وزمن التحرر في (متى؟) تستهل نصها (أسئلة الحب) بأداة الاستفهام (هل) وتختمه بخماسية متكررة (لماذا) إشارة إلى حالة القلق والتشتت التي تسيطر على الشاعرة بحثاً عن بعض اليقين، ونقل هواجسها إلى المتلقي وإشراكه فيما يعتمرها من أحاسيس وظنون ووساوس وشكوك.
أما نصها (حين يتكلمُ) فقد جاء على نمط أغنية لمطربة عربية مشهورة وبنفس إيقاعها وجرسها الموسيقي المتسارع تطلق بوحها في فضاء النص لتقول:
(حين يتكلمُ
يخبرني أساطير وحكاياتْ
يصفني كسيدةٍ من التاريخ
يصيغُ فيضاً من العباراتْ
فأتجهمُ)
أما المنحى الشعري الأخر في نصوص الديوان فهو صوت الأنثى والبحث عن الذات من خلال تقمص واستحضار (حواء) الرمز والدلالة على الانتماء إلى عالم المرأة الإنساني الأنثوي بكل ما يحمله من رقة وعذوبة وجمال ورهافة وما يعانيه من ظلم وجور وتسلط ذكوري، وما يواجهه من تحديات حياتية عامة.
ففي نصها (حواء) نجد شاعرتنا تعدد شخصياتها وصفاتها التي تتنوع بشكل متباين ومتعدد بين (حواء العاشقة) و(الفاتنة بلا نهاية) ثم تنتقل من العموم إلى خصوصية الأنا والذات التي تصرح بكل وثوق بأنها (الحبيبة) و(الجريئة) و(المرأة المغرورة) و(الجسورة) و(الغانية) و(الخجولة جداّ) وليس هذا فحسب بل نجدها تعيدنا إلى زمن الماضي البعيد لتتقمص شخصيات تاريخية عربية وأجنبية (عليسة) و(ليلى) و(سلمى) و(جولييت).
(حواءُ العاشقة
الفاتنة بلا نهاية
أنا الحبيبة
الجريئة بك
المرأة المغرورة
بكل تفاصيلك)
وتستمر في عزف نشيد هويتها الأنثوية بكل براعة وتنوع وتلون:
(أنا عليسة وأنا ليلى
سلمى وجوليت
الأميرة والفقيرة
أنا كل ألوان النساء
من الحنطية للشقراء)
وبعد وصف الشاعرة شخصيتها بأنها (الأميرة) و(الفقيرة) في إشارة إلى التفاوت في المستوى الطبقي الاجتماعي وفقاً لظروفها وأحوالها الخاصة، تمضي إلى الناحية الجمالية فتقول بكل اعتزاز وخُيلاء (أنا كلُّ ألوانِ النساء) وتتدرج في ألوانها من (الحنطية) إلى (الشقراء)، وبكل غرور الإنثى تؤكد أنها (أجمل الجميلات) و(السمراء) و(الأنثى الملهمة) و(المرأة الطالعة بكل الفصول). وحين تأتي على جسدها وصفات حسنها تقول بأنها (المرأة المكتنزة) و(الهيفاء) و(مرمرية العنق) و(عاطرة الشذى) و(شديدة الإغراء) ولم تأبه بتناقضها حين تقول بأنها (غارقة في الحياء) أيضاً.
وبدلال الأنثى تخاطب شاعرتنا طيف حبيبها، الرجل المتخيل (يا سيدي) لتعيد تذكيره (فأنا غير كل النساء) لأنها (المغرمة الشقراء) و(العاشقة السمراء) و(المرأة البسيطة جداً) وهي (المرأة الأم) و(الشهية بالألم) و(السخية بالأمل)
وهي (الغالية) و(العالية) و(القاصية) و(الدانية) ثم تهتف بخاتمة نصها بعد أن تفتح قلبها وتشرع ذراعيها لتحضن طيف حبيبها/سيدها وتهبه نفسها متمثلة جميع النساء قائلةً:
(وأنا لكَ يا سيّدي
كُلُّ
كُلُّ النساء)
إن هذا التتابع الوصفي الطويل الذي تطوّق به الشاعرة وجدان وقلب طيف حبيبها لم يظهر تميزاً ملحوظاً ولا صورةً شعرية قوية النسيج، سوى تقديمه لنا فكرة عن قاموس الشاعرة اللغوي للاعتراف بثرائه وتنوع مفرداته إضافة إلى سطوة الإيقاع الموسيقي الذي يسيطر على نصوصها الرقيقة. ومن الواضح أن الشاعرة تعبّر عن كل ذلك من خلال نصوص تتفاوت في مساحة دفقاتها وطول أنفاسها إلاّ أنها جميعاً تنحاز إلى الإيقاع المؤثر في أذن ووجدان المتلقي. فالموسيقى في نصوصها تبدو طاغية بشكل ملحوظ، لدرجة يمكننا القول بأن الشاعرة تلاحقها حتى على حساب رسالة ومضمون النص الشعري أحياناً وهو ما نعده مأخذاً عليها يحرمنا من تركيزٍ أعمق على مضمون النص الشعري، بدلاً من الاهتمام بالبهرجة والتطريز الايقاعي والشكلي.
ونلاحظ أن الشاعرة قد اختارت عناوين بسيطة لنصوصها غلبت عليها المفردة الواحدة ورسمت بعضها بصورة صوتية أكثر منها حروفية لفظية دلالية مثل (اعترااافٌ) و(انتظاااارٌ لن يطول) الذي كررت فيهما حرف الألف بامتداد بصري يعمل على جذب القاريء وربما للإيحاء بمد وطول أنفاسها وهتافها الصريح المؤكد. كما جاءت بعض عتبات عناوين النصوص الشعرية متشابهة حد التطابق مثل: (بيني وبينك) مع (أنا وأنت)، وكذلك (قال تكلمي) مع (قال)، وأيضاً (حواء) مع (انتقام حواء).
لقد اتسمت المجموعة الشعرية الأولى (هوِّيتي عشقي) للشاعرة التونسية زليخة عوني بغزارة نصوصها عددياً حيث وصلت إلى خمسة وأربعين نصاً، غلب عليها صوت الأنثى الرقيقة وبوح الذات الشاعرة المرهفة التي لامست شغاف القاريء بأحاسيسها المفعمة بالإيقاع والعشق للحياة والشعر، وحتى إن تعثرت في بعض كتاباتها، وخَفَتَ نبضُ نصوصها إلاّ أنَّ رائحة الإبداع تضوّعت غالباً من روح مفرداتها ومضامينها وموسيقاها.