حميدة بلقاسم
أصوات الأغاني المحلية تصدح، وبعض فرقعات الألعاب النارية تقطع هدوء الوجدان.
الصخب جيد، هذا ما ذهبت إليه بعد قضاء مدة رائعة في هدوء وكورال المدافع العادلة، قبل أن تنقاد سيارات عائلتنا نحو منزل جديد في ضاحية أخرى أكثر أمنًا إلى حين.
حسنًا! أنا اليوم وهذا الأسبوع أحتفل مع الجيران، لديهم فرح لا أعلم ما اسم العروس، أو ما عمرها، أحلامها، وحكايتها.. فنحن حكاية، قد يكون عريس لا يهم، الفكرة تتمحور في عودة نسق الحياة عبر الغير، الأشخاص هنا -أقصد من في الفرح- أسوياء ذهنيًّا، ولديهم القدرة إذًا على نشر شيء من البهجة والمشاعر الداعية على الأمل، لم أتوقع يومًا أن تلفت انتباهي مظاهر الفرح أو تنجح في استدعاء الذاكرة البعيدة حين كنّا أطفالًا، وقت كنّا نركض عند سماع هرجة “القفّة” أو قدوم العروس.
نحاول ساعتها سرقة بعض الفرح من الجموع المبتهجة، لأسباب جهلناها وقتها، وها هي الأيام التي عشناها في كنف الحرب تنتصر لتجليات الحياة، وسيرورتها في دورة الكون من الولادة مرورًا بتكوين عائلة إلى انقضاء الآجال. على بساطة القصة ووضوح مغزاها عند الأكثرية، إلا أنها شكلت لديَّ تأمّلًا صوفيًّا للبحث عن أولويات الحياة وتحديد موقف دائم من كل المفاهيم، وإمكانية الوثوق بها أو عمل تحديث بشكل دوري لما يجب التخلي عنه، وهل التشبث ببعض القيم عارض وجوهري أم استثنائي؟
المغزى هو الكيفية التي تمضي بها الأيام، وإعطاء كل المراحل حقّها وافيًّا لنيل نتائج جيدة على الأقل.
طيب، ما تزال هذه الزغاريد توقظ الحواس، وتعطي طريق أمان لعبور الأمل، لا تثير فضولي الكيفية التي التقى بها العروسان وما إن كان اختيار كل منهما للأخر عن قناعة أم استكمالًا لفكرتهما التقليدية أنهما نواة العائلة.
لم أتوقع طبعًا أن نكون من ضمن المعازيم، لأننا عائلة جديدة ومن مكان آخر، والحرب شوّهت الكثير من مبادئ التعارف الطبيعي لدينا، وهي لم تكن متأصلة وبالكاد تغيب وتأتي.
“أعراس زمان” التي لم تشكّل شغفًا ولا حتى قيمةً سابقًا هي اليوم قبس يُحيي السنوات التي كانت فيها كل الأشياء تلقائية، لا تعميق ولا شروحات، بل بساطة جامعة وتجسيد واقعي للبدايات، وتفكير بجدوى وماهية القضايا والظروف وأفكار البشر وما يصلح منها، وما هو شرعي وباطل هو إفساد لنقاء الروح، وفهم خاطئ للهدف من مراقبة أحداث الحياة بدلًا من أن نكون جزءًا منها.
تستوقفني حكاية زوربا! وأن التقدم في اتجاهات بعيدة والخوض الأعمى في أعماق الطرق الوعرة لا يثبت حريتك بالضرورة، وأن إمكانية شد الحبل والعودة للوراء هي أم الأقدار.
ما يحدث في بيت الجيران وإمكانية إسقاطه على الحرب والموت، جاء من باب المحاكاة الضرورية للعيش في خضم الواقع، أي أن نعيش كل المشاعر والانفعالات حد العمق، يذكّرني ذلك بكم التعاطف عند “ناس زمان”، من الممكن لإحدى العجائز عند دخولها لخيمة العرس أن تطلق عنان صوتها لعدد غير محدود من الزغاريد، رغم أنها قبل مدة ودّعَت عزيزًا وركضت خلف جنازته في مشهد يدل أن الحياة قد توقفت بالنسبة لها.
هذا الانبثاق الإجباري، النهوض الضروري وعدم إطالة التوقف، التفكير السطحي أحيانًا ينقذ الجزء المتبقي من الحياة، التضحية بالوقت لصالح الحزن ليس هو الحل دائمًا، فكرة ترك الانفعالات تمضي وحدها لا تجلب الراحة للجميع بالضرورة، صدّق أهلنا في الماضي في كرههم واستنكارهم للنحيب الدائم.