سلسلة: الصورة والخيال
4 – أسطورة الرمز في القرآن
أما الكاتب الليبي الصادق النيهوم الذي ذكرناه سابقا فهو يرى القرآن كعمل فني ينتمي إلى باب القصة القصيرة، ويرى أن الله استنجد بالرمزيه ليقول كلمته لعباده، فيرى أن الحديث عن مجموعة من القديسين في أحد الكهوف في سورة الكهف يستطيع أن يكون “مجرد مدخل إلى كليات تاريخية عامة.” وهذا العمل معروف في آداب العالم المعاصرة، ولعل القصة القصيرة أهم مسارح هذه الظاهرة كما نعيشها الآن حسب رأي النيهوم “فالقصاص يعمل بوحدات الرمز لتحقيق الشمول. والقرآن يتبع منهج القصة عبر هذا الطريق وليس ثمة ما يمنع الباحث من اكتشاف نقطة الشمول في ذلك المنهج. فلعل قصص القرآن كلها مسخرة لأهداف الرمز، ولعل لدينا تفسيراً معاصراً لهذه الرموز، وأصحاب الكهف قصة قصيرة كاملة”. ولكن النيهوم يبالغ في استعمال هذا المنهج التأويلي لدرجة الوصول إلى نتائج عبثية وغير قابلة للتدليل عليها بأي صورة من الصور. فيؤول مثلا خطيئة آدم بأنها “إنكار الإنسان لفطرته … إنه لم يثق بنفسه كما وثق الله به” ويفسرالجنة: “إن جنة الإنسان هي فطرته ، وعيه بالحياة والموت”، ويرى أن أوراق التين التي غطى بها آدم وحواء أعضائهم الجنسية هي “الإمكانيات العقلية” كذلك يفسر الآية “فبدت لهما سوآتهما ” بقوله “فالسوأة التي تبدت لآدم هي اكتشافه للمقدمة القائلة بأن الخلود بالتكا ثر لم ينقذ الإنسان من عزلته، بل جعلها تبدو عارية أمامه بوضوح أكثر”، أما الميعاد فيفسره بأنه “نقطة التقاء الإنسان بربه الذي وثق فيه، ووثق في فطرته…إنه ميعاد العودة إلى الفطرة وكسر دائرة الحياة الغريزية بقوة العقل النامي “. أما في قصة أهل الكهف فيفسر ذكر الكلب في آية “وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد” بقوله بأن ذلك هو إشارة إلى أن الدين الجديد – المسيحية – كان يواصل انتشاره في مناطق مأهولة بالشعوب التي تحترف الرعي، وهي حرفة شعوب أوربا خلال تلك الفترة…وحرفة سكان سيناء والمناطق العربية المجاورة لأثيوبيا. إن قوة خيال النيهوم تتجاوز الخيال الديني والخرافي ومكنته من إختلاق عالم قرآني مواز للقرآن الذي كتبه محمد، دون أن يتسائل لحظة واحدة عن ضرورة التمويه وإخفاء المقاصد وتغطية الكلمات واللجوء إلى الأسرار والرموز؟ خاصة وأن القرآن ذاته يؤكد على وضوح النص وأنه موجه لكافة الناس. غير أن هذه اللعبة الفكرية التي استعملها النيهوم وغيره من الشيوخ لا يمكنها أن تنقذ الدين من كونه وسيلة لمحاصرة العقل ودفنه في ظلمات الغيب واللامعقول.
ونحن لا نشك لحظة واحدة في ضرورة دراسة البعد الفني في القرآن، وكذلك البعد الأسطوري، والبعد الشعري والخيالي. ذلك أن القصص المتراكمة في الأدب الديني منذ جلجامش مثل قصة الطوفان وسفينة نوح وقصص الخلق المختلفة في الكتب الدينية، لا يمكن فهمها بطريقة من الطرق، دون الأخذ في الإعتبار بأنها تنتمي إلى مجال الإبداع الفني الفردي أو الجماعي، وبأنها تصوير أو أساطير لا علاقة لها بالأحداث التاريخية التي وقعت فعلا أو لم تقع إطلاقا في زمن أو آخر. ولكن قبل البداية في التأويل وتفسير الرموز، يجب إرجاع هذه القصص إلى مصدرها الإنساني والإجتماعي والتاريخي وترك الله جانبا، فالله حتى لو كان موجودا فإنه ليس بحاجة لكتابة القصص وسرد الحكايات. إنها صور فنية تنتمي إلى الأدب أو الأساطير أو الفولكلور الشعبي أو أي شيء من هذا القبيل، تعني بطبيعة الحال شيئا آخر غير ما تعبر عنه مباشرة، وفي هذه الحالة نجد انفسنا وسط البنية المجازية، وندخل عالم الشعر، نخرج من عالم الوقائع التاريخية الذي لم ندخله مطلقا في حقيقة الأمر. غير أننا هنا نواجه أحد هذه الجدران العالية التي لم يستطع الفكر العربي أن يتجاوزها.. جدار قدسية النص، وأولويته على أي تفكير عقلي أو حوار فكري، ذلك أن هذا النص يرفض منذ البداية علاقته بالشعر والشعراء. إن البنية المعرفية العربية قائمة على أولوية النص كثابت طبيعي مثل الصحراء والجبال والأنهار والسماء، فلا رأي مع النص كما يقول الشيوخ، فالحقيقة المعرفية توجد ضمنا في النص على المستوى الطبيعي. في النص الشعري كتعبير عن البداهة والفطرة العربية، وعلى المستوى الميتافيزيقي في النص الديني ـ القرآن. وهنا نكتشف أن القطيعة المزعومة بين الشعر والنص القرآني لا وجود لها على الإطلاق، فليست هناك قطيعة لا من الناحية الشكلية ولا من الجوانب الجمالية أو الإستيطيقية، وإنما هناك إستمرارية داخل نفس المساحة الفنية. ونكتشف فشل هذه المحاولة الوقائية، لأن الدين ذاته كان ملغما من الداخل باللغة الشعرية. فالدين لا يستطيع أن يحمي نفسه من الشعر دون أن يلغي نفسه كلغة مجازية ودينية، تحمل في ثناياه كل العمق والثراء الذي اكتشفه المتصوفة من الحلاج وابن عربي والبسطامي والسهروردي وغيرهم. والشعر من جانبه لا يستطيع أن يلغي الدين أو ينفيه من لغته المجازية ـ مهما كانت هذه البنية خاصة ومحدودة ـ دون أن تتفتت لغته وبنيته اللغوية ذاتها. الدين والشعر وجهان لعملة واحدة، عملة الخيال والخلق والإبداع الفني. ومن هذه الزاوية.. من هذه الزاوية فقط نستطيع أن نبدأ عملية النقد الحقيقية لما يمكن أن يسمي بالمعرفة الدينية والمعرفة الشعرية. فربما تمكنا بعد ذلك من فهم الأسباب التي أدت إلى غياب المعرفة التي تهمنا في هذا المقام، لأنها ربما كانت الوحيدة القادرة على فك الحصارـ أي المعرفة الفلسفية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد ذلك قبل تحليل ودراسة جميع الجوانب المتعلقة بالأسوار العديدة التي تشكل خارطة الحصار.. والشعر والدين معطيات أولية، وثوابت يجب أخذها كما هي ولا تسمح للنقاش إلا داخل حدود المعايير الجمالية والفنية وحدود الإعتقاد والإيمان، ولا تحتمل الحوار والجدل العلمي، لأنها تقع خارج حدود العقل، ولا تدخل نهائيا في مجاله. غير أن هذا لا ينفي إمكانية تحليلها داخل حدودها المعرفية أي عالم الخيال وعالم الصورة.