لن أجافى الحقيقة إذا ما شهدتُ بأن مواقع التواصل الاجتماعي من فيس بوك، وتويتر، وواتس آب، وغيرها ليست فقط للتعارف وتقريب العالم لنا، بل لها مفاعيلها الإيجابية كما كل ما يُبتكر ويُخترع لأجل تيسير حياة الإنسانية في حياتها اليومية ومحاولة إشباع متطالباتها ماديا ومعنويا…
ورغم كل ما يُشن إزاء «عالم الرقمنة» من تهم واعتراضات مفضية إلى هدرها الوقت وتوكيد ثقل تواجد من يجافون القيم والأخلاق، ويبادلونها بقيم كراهية وتخريب للذوق العام وإساءات تتخذ سبل تسلط عدة، ومنها ما يستخدم فيها برامج اختراق وحجب واستيلاء على الصفحة أو الموقع تعجز عن ردعها إدارة موقع التواصل نفسها وتفضى إلى أنه لا حقوق يجرى أخذها فلا حقيقة مثبتة في عالم مفترض بلا أدلة!
ورغم كل ما سبق ذكره من تجاذبات، فإن تلك المواقع وما يجرى في فضاءاتها، تطرح نماذج تقدم ذاتها في صورة جدية تعاطى مع الآخر الذى هو متابع متواصل والمسمى «صديق افتراضي»، ويحصل عندها تبادل آراء ونقاشات تفتح آفاق معرفية متجددة وفق مستوى طرح من يتولون مهمة عرض إشكالات تمس واقعنا، وفيها ما يرتقى لأن يستشرف مستقبلنا، حينما يُقدم بعين المنشغل المهموم بما نحن فيه اليوم، وهنا سأذكر مثالا يحضر الآن في ذهني، ما أنشغل به شباب ليبيون بصفحتهم على الفيس والتى تحمل اسم «حركة تنوير في آخر «أسبوع» من هذه السنة، طارحين سؤال: لماذا تخلفنا؟ وما العلاج؟ مستضيفين في تلك الأيام الست مع من يقود الحوار منهم، شبابا وشابات ونخبة مختارة من أصوات فاعلة، ومثقفين، وكُتابا، كنت مدعوة في أحد أيام هذا الأسبوع، لولا مسائل تقنية تعلقت بضعف الشبكة حالت دون أن أخوض على البث المباشر بما أعرف، وأستفيد مما أسمع، وأتبادل من رؤى تفك اشتباك ما غمض وغاب، ولعله ما أتيح مؤخرا أن نعلى صوتنا كاشفين معايبنا، وفى ذات الوقت نحاول اقتلاع الدمامل من على الجسد المعطوب رغم الألم!
وأيضا ختمت هذا السنة 2019، بما أثاره مقالى السابق عند بعض من قرأوا وانتبهوا إلى مشروع تدوين تاريخ وسيرة النساء الفاعلات المعافرات، ما أنتهجه من أكثر من عقدين من الزمن بدعم وعون من منحازين مؤمنين بأهمية المسألة بل وعجلتها وقد تأخرنا عنها، في السجال على صفحتى بالفيس أو على الماسنجر، بعضه رمى بوتر أنى أنحو منحى تمييزيا، ومتصديا برأى وسؤال: لما لا أنشغل أيضا بمن لا يلقون انتباهة من رموز «رجال» شاركوا في كتابة تاريخ أوطانهم بطرق عمل مختلفة؟ وكنت أجبت بأنى لم أهمل رجالا مُبرزين صادفتهم طوال مسيرتى كصحفية، ونماذج ذلك لمن قابلتهم، كشيخ الكتاب والأدباء الليبيين على مصطفى المصراتي، وأقدم سجينا ليبيًا (ثلاثون سنة) على العكرمي، وأول نقيب محامين (لنقابة رسمية) عبدالله شرف الدين، والمعارض العتيد نورى الكيخيا،… وغيرهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى بأنى وإن تقصدت النساء في بلدي، والعرب، والعالم ما تيسر لى ذلك، ولأسباب عدة، وأولها ولعله أهمها، ما حملته كافتراضية ومُشكل استقصائي، لما انحزت إليه منذ مبتدأ المشروع: «أن تاريخهن لم يُكتب بعد»، وهذه الجملة أبسط رصد يكشف حقيقتها، بل وفى بلدى ما ارتكب من معايب نظام حكم يُعد إهمالا متقصدا ونفيا قاطعا لأسبقية مرحلة تأسيس وتجذير نهضتهن، ومن ثم استبعاد إيلائهن عناية التوثيق وتسجيل السيرة -وبعضهن رحل عنا دون ذلك- وما يلى ذلك من جهود قراءة ملامح وظروف ونتاج أنشغالاتهن، ولن ننسى تقديرهن وتكريمهن كرموز وطنية تُتخذ أيقونات مرشدة ومحفزة لكل عامل مُنجز لمشروع أو ساعٍ لهدف صغُر أو كبُر، وكنت حرضت المُنتمين إلى المشروع الدولى الذى أينما التفتنا يدمغنا! ويصدمنا بأسعار معروضة لمن يريد أن يتعلم ويعرف! من أين ومتى وكيف يصبح فاعلا؟ إلى كيف يصبح مليونيرا بقدرة قادر؟ عبر برامج ودورات وعناوين «التنمية البشرية»، أن لهم أن يسترشدوا بنماذج واقعية وقريبة جدا من بيئاتهم المحلية، بمن عضوا على النواجذ في ظروف الفقر والعوز والمرض لكنهم طلعوا وبادروا وشقوا طريقهم، من يسمون الآباء، والأمهات المؤسسين في كل عمل كثيره تطوعًا ومبتغاهم أن يكونوا بمستوى المجازفة والإيمان بما تستحقه أوطانهم، فمتى نسترشد بنماذجنا، بل ونسمع أصواتهم ما داموا بيننا ونمتص منهم رحيق عسل حصيلة ونتاج ما حققوا، وعن استحقاق وصموا به أنهم «الأولون» وفق زمنهم وسياقاته.