رواية فرسان الأحلام القتيلة.
النقد

أركيولوجيا الفعل ومعاول الذّات الوقائعيّة

أركيولوجيا الفعل ومعاول الذّات الوقائعيّة

-فرسان الأحلام القتيلة -لابراهيم الكوني

 خيرة خلف الله – تونس

” بلى ! كلنا على دين البوعزيزي ,كل ما هنالك أنّ البوعزيزي عرف كيف يحفر فاستظهر ،ونحن في حفرنا تعثّرنا ،فتأخّرنا ! ” فرسان الأحلام القتيلة-ص 184

نروم من خلال هذه القراءة مساءلة المنجز الإبداعي على إثر ثورة تعدّ في زمن التقويمات الوقائعيّة ناجحة ،على إثر عصف ب”كوادر الأيقونة الخضراء ” كما نعتها مبدع هذا الأثر الذي بين أيدينا ،ممّا يحدّ من أفق انتظارنا لحيّز المخيال الّذي تتحرّك في أطره ” فرسان الأحلام القتيلة” .فهي بالعمل التّسجيليّ أمسّ رحما وبالشّهادة على واقع أوثق صلة

وبالعودة إلى هذه “الوثيقة ” والتي وحسب ما توفّر لنا من قرائن تمثل عملا روائيّا لمبدع عرفناه في أعمال سبق وأن عرّفت به وبالمكانة الإبداعيّة التي يشغلها فصاحب الأثرهو ابراهيم الكوني الروائيّ اللّيبي الّذي تميّز بنهج انتحى سمت الكتابة المغرقة في “طوارقيّتها” ولعل ما تحبّر في شأن إمكاناته وتميّزه يدعم ما ذهبنا إليه …وهاهو يظهر علينا بواقعيّة حتّمتها المرحلة لتتجرّد كتابته من كلّ حليّ الصّياغة وخصوصية التشكيل التي الفتها طيلة عقود ليحملنا عبر فعل مستنبط للروائيّ من رحم المرحلة وما تعيشه المنطقة من مخاض وتحوّلات فنغدو برفقة أركيولوجيّ ينقّب في الأغوار ويحفر بنا عميقا في وجدان جمعيّ تأسّس على إثر انتفاض مباغت محا كلّ تسطير مسبق ،إنه وعي الربيع العربي والذى تتصدّره ثورة “17فبراير” على اعتبار جنسيّة منشئ الأثر ,إذا سنترك مجال اللّغة الفضفاضة والعبارات الرّنّانة الحنين إلى الجذور والطّقس والمغرقة في محليتها وبيئتها الصّحراوية ،لنتمنطق معول الحاضر ونغرزه في جيد الورقة بعد أن نبشت مخالبه البنيان المهترئ ،نوثّق لحدث لم يعد بالغريب وإنما ثقفناه وباركناه وجاء دور التأريخ له وإن ظلّت ورود الربيع عالقة في سدرة “سوريا ” وتأرجح الثّالوث “تونس – مصر – ليبيا ” بين النّجاح والمواصلة

نعود إذا مع فارس الكوني وهو الشّخصيّة التي شاء لها القدر أن تكون الشّاهدة ومنذ بداية الرواية على هذا التّصدع الذي شرخ البنيان الجاثم على قلوب اللّبيين وجيل هذا الفارس بالذّات “الّذي لم يؤمن يوما بشيء ،جيل ولد ميّتا لأنّه فتح عينيه على دنيا ميّتة ! دنيا جرداء برغم أنّها تتغنّى آناء اللّيل وأطراف النّهار بفردوس ذي لون أحضر ،وكلّما زاد اليقين بالمستقبل الأخضر ازدادت الأرض تصحّرا والحياة في البلاد شحّا وشحوبا !” ص 18

فتبدأ الأحداث متعثّرة مشتّتة ،لا رابط وثيق الدّلالة يجمعها ولا حسّ عميق يوضّح لها سواء السّبيل لكي تخلص من ” الهمّ” الّذي تلوّن نعته في الرواية فهو ” الأيقونة الخضراء ” وطورا ” الكابوس”

والطّريف أن فارس هذه الرواية امتهن صفة أطلقها أنصار الكابوس على هؤلاء المنتفضين ” الجرذان” ،فكان فعله الحفر في البناية تلو البناية ليهدّ وهما سوّغته “الأيقونة الخضراء ” وغلّفت به ذهن الشّعب عقودا ليصل إلى “الضّمان” وهو رمز معماريّ لكن في دلالته أبعد من رمز بالنّسبة لهؤلاء المتعطّشين لضمان يخلّصهم من سطوة العدم

نرافق عبر مسار هذه الشّخصيّة المحورية عملية الهدم لأجل البناء، والخرق لأجل الخلاص مستدلّين بكمّ التّراكمات الّتي شكّلت شخصيّة البطل المغوار فهو فارس وإن لم يحمل اسما في الرّواية ربما لأنها تروى على لسان هذه الشّخصية نفسها ،إنّ السّرد إلى السّيرة الذاتيّة أقرب ،ولكن في ذلك أيضا تدعيم لهذا المشروع السّرديّ ثم ّ الفعليّ الّذي سنكتشفه لاحقا في آخر الرّواية وهو إظهار بطوليّ يلغي الذات لصالح المجموعة على اعتبار أنّ الثورة فعل جماعيّ فالشخصية المحورية تعيش بطولة سردية تضاعف من حظوظها بطولة واقعيّة بحكم المشروع الداعم للسرد …هذا التملّص من الفردانيّة للانصهار في بوتقة الفعل الجماعيّ ومن يجرؤ أن يرى غير ذلك فقد يكون إلى العهود البائدة أولى

هذا الفارس وكما قدّم نفسه سليل الكتب والتي اعترف بفضلها في أكثر من مستوى في الرواية ومامنحته إياه من حسّ استشرافيّ بالثورة يقول في ص 19″ غرقت في الكتب منذ ذلك اليوم ،غرقت ولا أجد حرجا في الاعتراف بأنّ لها يرجع الفضل في مداواتي من الدّاء العضال الّذي أراه ينهش الجميع ,بل إليها يرجع الفضل في بقائي على قيد الحياة “

إذا يحفر في ماضيه المستطرف فيستعرض كيف انتفض بفضل هذا الوعي الذي زدوته به الكتب بأن رفض تلقين التاريخ المزوّر في صلب الوظيفة الحكومية رغم حاجته ككل شباب جيله إلى العمل فينتقد واضع البرامج بل يزدريه بقوله : التاريخ رجمته الأيقونة الخضراء بحجر !هل رجمته بحجر ؟كلاّ الواقع أنّ التاريخ رجمته الأيقونة بألف حجر !بألف ألف حجر .ولو لم أستجر بالكتب لما كان لي أن أعلم المصير الذي آل إليه التاريخ في زمن السّلالة الخضراء ” ص 22

هنا نرى أن جاهزيّة الفكرة شكلت نواة المفارقة لدى السارد عن غيره من المسلّمين بقدرهم … كان الوعي من خلال الكتب حافزا لهذا ” الهدم “المؤسّس لمشروع حدّاثيّ عماده التّحرّر على أنّ السّارد يستدرك في مرار : ” ولكن هل تكتب الأمم التاريخ للأجيال لكي تنتصر للحقيقة ،كلاّ بالطّبع ! الأمم (لاسيّما أممنا التي لم تتحرّر بعد من الأسر ،لم تلقّن الأجيال التاريخ لكي تمرّر الأكذوبة !وإن كنت أعي ذلك من الواقع البائس الذي عشناه إلا أنّني لم أستطع أن أبتلع الابتذال” ص 87

فيتعمّق اغترابه ” اغتراب عن ماض عريق ،عن وطن مجيد ، اغتراب عن هويّة اغتراب عن ذات …ص 94

فيشتدّ فعل الحفر في الرواية ويصبح أكثر ضراوة ويحطّم هذه الأسس الخربة وتشتدّ نقمة البطل فيتداعى التّاريخ ليشرع السّارد في الإقصاء ليقرّ بدور الشّرق في غرس هذا الانتفاض عن طريق توفير الكتب المهرّبة التي كانت وقودا لهذه الأذهان كي تسرج فتيل التمرّد وينكر في لحظة استرجاع، قاسية دور الغرب ملمّحا إلى الرّقابة القاتلة على الحدود :” أما جارة الغرب فقد حللت بها أيضا مرارا ،ولكنّي لم أعثر فيها على مايمكن أن يشفي الغليل ،عسس الحدود ؟أحراس الجمارك ؟ رجال الأمن المتنكرين في ثياب المدنيّين ؟ ” ص 94

وكأن المبدع نسي أن الغرب ” تونس” رحم الشّرارة الأولى ولا نعلم إن كانت سخرية القدر أن تأتي هذه الشعلة من معاناة شعب يرزح تحت وطء أشدّ الدّكتاتوريات مصادرة للأفكار …فمن نصدّق التّاريخ أم رؤية السارد الضّيقة للوقائع !؟

يحفر البطل إذا في صرح تكلّس على الجمود وفوق رأسه تطنّ “مكنة القنّاصة و جرّافة المرتزقة تستبيح هتك الأعمار والأعراض ،تحصد هذا الوعي الذي انتفض فجأة ،تقتيل وتنكيل مشاع بنيران شقيقة في الدم وفي التراب الواحد ،فيحفر البطل ومريديه متعجبين : ” كيف تخذلهم القوانين الوضعيّة بناموسها الوضيع كلّ يوم ؟ ” ص 156

فيشرعون في حملة الدفاع عن الشّرف ومن ضمنهم البطل فيصور لنا المرارة التي عايشها وهو يخرق هذه الجدران يخذله أناس العمارات حينا ويبدده الإحساس بالمهانة لرؤية الفحش الذي يرتكبه أزلام الكتائب أحيانا وهو في طريقه الوعرة تلك لأجل الظّفر بالوصول فقد نصّبته الأقدار شاهد إثبات على كبيرة الكبائر ،كالاغتصاب ،فعايش ألوانه وسلاحه خاويا ماعاد رصاصة لا تسمن ولا تغني عن فحش فاجتمع الوطن الذبيح والمرتزقة على “سدرة” الأنثى الناضجة ليستبيحها الأوغاد بمرأى من عشيقها وكأنها ليبيا وقد أبيحت من قبل بعض أولادها العصاة للغريب. والمتمرّد لأجلها يعيش الوجع بأنفاس مكتومة ولا يستطيع لنجدتها منفذا من ذوي القربى ،كذلك مستقبلها الملخّص في تلك العذراء التي لطخت قطرة من شرفها جبين الشّاهد على الجريمة المتابع للتفاصيل من ثقوب الاسمنت ذلك المطلّ على الفاجعة من ذهول …يصور السارد هذا التمزّق المرير الذي جعل من الثوار شاهدا بنصف سلاح على الهتك الذي مارسه الطّاغية ضدّهم والّذي خلّف ذاكرة مشحونة بالغضب …كانت البوصلة الّتي رجّحت كفّة الرّوائي ّ في مفترق أحداث فأكسبت العمل توازنا بعد شتات وتأرجح بين تسجيليّة فجّة وسرديّة مخرومة ،ليتّضح الفعل البطوليّ على إثرها وتتضاعف عزيمة الباحث عن الخلاص بالوصول إلى ال”ضّمان” ذلك البناء الرمز الذي بسقوطه تسقط “الأيقونة الخضراء ” ذلك البناء آخر معاقل القنّاصة فبسقوطه تتحرّر الإرادة

في طريق الفارس كانت الأحلام منوّعة بتنوّع الواقع فتزهر حينا لوجود أنصار ومرشدين :العقيد سالم والمرافق سليم وتستحيل كوابيس أحيانا وعراقيل ” عودة ميسور الأخ الضّال وامتناع بعض متساكني العمارات عن خطة الحفر لجدران بناياتهم وهو ما يعكس موقف الشعب الليبي على اختلاف أطيافه من المدّ الثوري بين خائن ومتحمس ومتردّد وفي غضون ذلك تقع التصفيات بحساب المساعد والمعرقل فقد اضطرّ المرافق ليم الى تصفية عمّه الذي وقف حجر عثرة أمام مشروع الحفر في حين أوشكوا حينها أن يصلوا كما اضطرّ السارد الى تصفية أخيه ميسور لأنه خدعه النظام واشترى ذمّته للتصدي للحلم ذلك الأخ في الدم العدوّ في التراب ذلك أنّ الوطن : هو النّموذج المكبّر للإنسان الذي يسكن الأوطان “ص77

“فمن يستطيع أن يضمن قدرة أحد ما على فعل شيء ما في زمن الحرب ؟ من يملك الحقّ في إصدار أحكام الإدانة في زمن الحرب؟ ” يبقى مكيال العدل وفق مجريات الانتصار إلى جانب هذا أو ذاك …والبطل ينخر بعزيمة المتوثّب البنيان تلو الآخر ويدبّج الفعل بتوسعات شتّى نحو الماضي حينا ونحو الذوات أحيانا فيتذكّر في غضون ذلك مفجّر الثورة الحقيقي وكأنه يستدرك ما فاته في حقّه :بلى يجب أن ننكر أننا أحياء ونتذكّر أنّنا لم نكن سوى جثامين تدبّ على قدمين جثث على قيد الحياة …تماما كما فعل ” زيو” الذي حمل جثمانه على طهره وفجّر بوّابة المعسكر الحديدية ليستعيد حياته الضّائعة ،فلماذا نحن نحذو حذوه كما فعل البوعزيزي قبله “ص 133

لكن أتى السارد في آخر نصّه على ذكر مفجّري ثورات الربيع العربي وقد أوقدوا أرواحهم شموعا لإنارة الطريق فقد اقتضت الضرورة السرديّة تأجيل ذلك إلى المشاهد الأخيرة في الرواية وكأنّ المحليّة هذه المرة مع ابراهيم الكوني لعبت دور الانتقاء للأقرب (الثورة الليبية ) على الأبعد والأسبق المسبّب الحقيقي لهذه اليقظة الثورة التونسية ومن بعدها المصريّة ، لكن يبقى للثورة عمقها ووقعها في داخل كلّ ذات ،فالأكثر من أربعين الف شهيد تكلفة باهظة الثّمن مقابل ” حفنة” الحريّة الّتي توجّس الكاتب خيفة في أخر فصول أحلامه القتيلة إن لم نستوعبها كاملة

رابط الموضوع

مقالات ذات علاقة

سردية الجسد في روايتي (عار) و(ضحايا) لجمعة الموفق

عبدالحفيظ العابد

صاحب البوق الألماني يعزف المزمار الليبي

المشرف العام

نبوءة الشاعر

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق