حين كنتُ وحيدا، أحادثُ الفراغ، ويجاوب الصدى، مغتربا عند ذاتي.. استغلقتْ علي الدروب، وكنت بحاجة لسد الهُوة التي حفرتها الأيام في قلبي، واقفا بمناديل الوداع على أرصفة الخيبة، ومتروكا على حواف نسيان أكيد، أبكي في الصباحات الندية، وأسقي خيوط الزهرة التي نبتت على نسيج مخدتي، وأسقط من على يسار السرير، وكأنَّ وحشا يطاردني في الفراغ البهيم، أتراصف بأجزائي المتعبة، مدعيا أني بخير؛ فلا تخافي علي يا أمي، من يصادق الكتب، ويطارد أطياف اللغات، يبحث عن وطن يأويه سينجح يوما، لا تذيبي جبل عزومه بعينيك المشفقتين.. فلست أخاف، وأكره شعورا كالشفقة، وإنْ كان من عينيك..
لم يكن سهلا أن تجتاز جرحك، وترميه وراء ظهر قلبك، وكأنك ما جرحت، وعفوتُ عن كل الإساءات القديمة والجديدة.. دخلتُ إلى عالمك بقلبي المبحر، تستلقي على كتفه الأشرعة البيضاء، وعيونك المرفأ، ولقاؤنا الطفلي، حين كانت البلاد تضج بالبعوض، والأمراض المعدية، ويقتنصها الظلام، فكانت المسافة بيني وبينك، نختزلها بالأثير، ونتقارب من بعضينا تماما كما يتقارب خائفان، وسط سديم الوحشة، ولا يوجد إلا ظلهما.
لأني أحبك أكثر.. لن يقولك إلا الصمت، وكلما اقتربنا ستصير الدنيا في أعيننا كالنقطة.. أو أصغر…