قصة

الحياة القصيرة العجيبة للكلب رمضان

من أعمال التشكيلي نوزي دوزان
من أعمال التشكيلي نوزي دوزان

 
(1)
توفي اليوم الخامس عشر من أبريل 2005 الكلب رمضان في مدينة لاهاي الهولندية، عن عمر ناهز الرابعة عشر. عاش نصف حياته في هولندا، أما نصف حياته الأول فعاشه في ليبيا حيث ولد في قرية ماريش بالجبل الغربي عام 1991، ولكن لا أحد يذكر اليوم والشهر الذي ولد فيه حيث لا يعرف الكثير من الناس اليوم والشهر الذي ولدوا به فما بالك بالكلاب. كل ما تذكره عائلة جمعة الضبع أنهم أحضروه وهو لا يزال جروا من عائلة أخرى، كانت أمه وهي كلبة من النوع المحلي المميز بلونه الأبيض، قد وضعته في الصيف مع خمسة جراء أخرى، ومنذ وصوله ربطوه تحت شجرة الزيتون الصغيرة أمام البيت، ووضعوا أمامه صندوقا خشبيا كان يلوذ به من حرارة شمس الصيف، ومن برد الشتاء وأمطاره الغزيرة.
في الخامسة من عمره أصبح كلبا كبيرا وقويا، ومن كثرة ما دار تحت شجرة الزيتون وهو ينبح نباحه الأجش المميز، صنع تحتها حفرة تستقر فيها مياه الأمطار، ولا يذكر أن يدا بشرية لامست جسده إلا عندما تلاحظ ربة البيت أن الحبل أصبح مشدودا حول عنقه، فترخيه قليلا كي يتمكن الكلب من التنفس، ولم يجرؤ أحد من الغرباء من الاقتراب من الزيتونة، بما في ذلك أقارب العائلة الذين تعودوا على زيارتها باستمرار، ولكن الكلب لم يتوقف عن النباح والقفز وعض الحبل كلما شاهد أحد الغرباء يقترب من البيت.
ذات يوم وهو يلهث في الصندوق الخشبي متحاشيا شمس القيلولة، أخذ بكل حماس يمضغ الحبل، وقبل أن يؤذن المؤذن لصلاة العصر نجح في قطع الحبل. غادر الصندوق وهو غير مصدق أنه أصبح أخيرا حرا. تقدم لأول مرة خارج الحفرة التي صنعها، وأنصت بكل انتباه وعندما أطمئن إلى أن العائلة لا تزال نائمة انطلق بكل قوة باتجاه الحقول. ركض كما لم يركض أبدا في حياته. هبط الوديان، وصعد التلال دون أن يلتفت إلى الوراء، وعندما اختفت البيوت والطرق المعبدة وأعمدة الكهرباء توقف على رابية عالية وهو يلهث بشدة، ونظر خلفه فلم ير إلا أشجار التين والزيتون، وبساتين اللوز والعنب، فانبطح على بطنه ونام. ترك إحدى أذنيه مسدلة إلى الأمام، بينما رفع الثانية إلى أعلى.
في الليل عاد إلى القرية بحذر شديد. في المرة الأولى اكتفى بمداهمة براميل القمامة في بيوت القرية الطرفية. وجد بقايا أرز وعظام دجاج، كما وجد بقايا مكرونة دون لحم، ومع ذلك أكل كما لم يأكل في حياته، ولكنه في المرات التالية تشجع أكثر حتى أصبح يدخل إلى عمق القرية، فقط تحاشى الاقتراب من البيت الذي عاش تحت شجرة الزيتون المغروسة أمامه خمس سنوات مريرة.


(2)
ذات ليلة اقترب من أحد البيوت فنبحت عليه كلبة مربوطة في ركن البيت. وقف ونظر نحوها دون أي شعور بالخوف، وتذكر أنه لم يمارس الجنس في حياته. اقترب منها فانكمشت وتراجعت إلى الوراء. شم مؤخرتها فاقعت على الأرض. ركب فوقها ولعق وجهها بلسانه الخشن، فلعقت بدورها وجهه الأبيض وأنفه الأسود، وأطبقت بفرجها على ذكره الأحمر الدبق. دارا بحيث التصقا ببعض بشدة من جهة المؤخرة حتى الهزيع الأخير من الليل.
في زياراته اللاحقة أخذ يقضم الحبل حول عنقها حتى تمكن من تحريرها ذات ليلة مقمرة، فانطلقت خلفه حيث عاشت معه في مغارة تبعد عن القرية حوالي خمسة كيلو مترات، وشاركته كل مغامراته الليلية، ليس فقط في قرية ماريش، وإنما في كل القرى التي حولها، ومع الوقت تمكن من تحرير عشرين كلبا، وارتضوه جميعا زعيمهم الذي لا يعصى له أمر، إلا أن عددهم تناقص مع الوقت بالرغم من أن الإناث ولدن المزيد من الجراء، وذلك لأن السيارات على طريق غريان جادو المزدوج تكفلت بدهس العديد منها.
في إحدى الليالي اقترب من معسكر الشركة الهولندية الواقع خارج القرية، حيث كانت الشركة تنفذ مشروعا للري. عبر من بين قضبان البوابة الرئيسية بسهولة، وأخذ يجوب المكان الهادي بحذر. لم تقده حاسة شمه القوية إلى رائحة طعام. لم يكن الطعام هو مشكلته الكبرى وإنما الماء. بسهولة يحصل من براميل القمامة على كفايته من الطعام، ولكن الماء مشكلة كبيرة إلا عندما تمطر فيشرب من مياه الغدران. خلال طوافه الحذر في معسكر الشركة اكتشف إناء مليئا بالماء، كانت السيدة ايفيت دي فريز سكرتيرة الشركة تحرص على ملئه كل يوم لتشرب منه الطيور البرية، ومنذ ذلك اليوم واظب على الحضور كل ليلة ليشرب من هناك.
ذات ليلة لمحته السيدة دي فريز من نافذة غرفتها، فقالت لزوجها المهندس الذي قررت أن ترافقه في رحلته إلى ليبيا «إيرك تعالى أنظر يبدو أنه كلب شارد». تأملاه من خلف زجاج النافذة وهو يشرب بحذر.
في اليوم التالي وجد إناء أكبر مملوء بالماء، وإلى جانبه وجد إناء آخر به أشهى طعام أكله في حياته. قررت السيدة دي فريز ترويضه وتبنيه ولكنها لم تكن تتوقع أن ترويضه يستغرق كل هذا الوقت.


(3)
في البداية أطلت برأسها من النافذة المفتوحة وخاطبته بحنان فانطلق هاربا على الفور، وظل يجري حتى تقطعت أنفاسه، ولكنه عاد في الليلة التالية، ولكن هذه المرة لم يهرب. تقدم بحذر وشرب بسرعة من الإناء، ثم التهم على عجل ذلك الأكل الشهي، وغادر على الفور، ومع الوقت تعود على صوتها وإطلالتها من النافذة، وعندما وجدها واقفة ذات مرة أمام الباب تراجع مكشرا عن أنيابه، ثم تقدم نحو الماء والطعام بحذر، فشرب وأكل مثل ذئب لم ير في حياته بشرا.
 مع مرور الوقت أصبح يطمئن لها أكثر، حتى أنه كان يجلس بعد أن يأكل ويشرب، ويستمع لكلماتها الغريبة وهي تخطب وده. ذات يوم لم يجد الماء والطعام حيث تعود، بل حيث كانت تجلس على الكرسي الخشبي العريض أمام مقر سكنها. قالت له بالهولندية:
Kom om te eten
تعالى لتأكل
لكنه ظل مكانه ينظر بشغف للأكل ويحفر بقائمتيه الأماميتين الأرض أمامه. أخيرا غامر وتقدم بحذر، وما أن وصل إلى الماء حتى ولغ منه وهو ينظر نحوها. واصلت حديثها بحنو بالغ.
Oh arme hondje
يالك من كليب بائس
ذات يوم وهو يأكل متخليا عن حذره، غامرت ووضعت يدها على ظهره، فارتعش على الفور وكشر عن أنيابه، مصدرا زمجرة شرسة. في المرة الثانية عندما لامست يدها ظهره ارتعش جسده وواصل الأكل، ومنذ ذلك اليوم أخذت تمسح على شعره وتمسد وجنتيه، وهو يهز ذيله بحبور. في الليلة التالية وضعت الأكل داخل البيت وتركت الباب مفتوحا، وعندما وصل أطل برأسه دون أن يدخل، لكنها لم تيأس ظلت تناديه وتشجعه حتى دخل أخيرا. لم يحظ بالأكل والشرب فقط بل نام في البيت بجوار السرير، وقبل حتى بوجود زوجها، ولأنه دخل البيت في منتصف شهر رمضان أطلقت عليه اسم رمضان.
في الصباح أخذته إلى الحمام وغسلته بالصابون والشامبو، وكان ذلك أول حمام دافئ في حياته باستثناء مياه الأمطار التي كانت تهطل عليه وهو تحت شجرة الزيتون. كما استئصلت بالملقاط كل القراد الذي التصق بجلده، وعالجت الطفح الذي كان يجبره على حك جانبه الأيسر، ومع ذلك فأول ما فعله عندما خرج إلى خارج المبنى تمرغ في التراب ليتخلص من هذه النظافة المفرطة، وبمرور الوقت والعناية الفائقة تعود على حياته الجديدة، خاصة وأن جميع العاملين بالمشروع يرحب به ويمسد شعره، وبعضهم يرمي له الكرة فيطاردها بقوة ليعيدها إليهم. تعود أن يصحب السيدة دي فريز إلى المكتب، فينام تحت المكتب بينما هي تطبع الرسائل على الكمبيوتر، كما يصحبها مع زوجها عندما يخرجان في سيارة الغولف فيجلس في المقعد الخلفي، ويطل برأسه من النافذة. الشيء الوحيد الذي لم تفعله معه هو تطويق عنقه بحبل أو سلسلة. رفض منذ المحاولة الأولى بشدة، ولكنه قبل أن تضع حول عنقه شالا ناعما كان لونه يتغير في كل مرة.


(4)
المترجم السوداني الذي يعمل بالمشروع نقل قصة رمضان إلى أهل القرية حيث يقيم، ومنذ ذلك اليوم تعرف الناس عليه، وأخذ الأطفال ينادونه باسمه كلما مرت سيارة دي فريز وهو يطل من نافذتها الخلفية، فينبح نباحه الأجش المميز.
وذات يوم انتهى المشروع واستعد الجميع إلى العودة إلى هولندا، عندها اكتشفت السيدة دي فريز أنها لن تستطيع اصطحاب رمضان معها. اتصلت بالسلطات، وتحدثت مع العاملين في السفارة الهولندية في طرابلس، الذين بدورهم تحدثوا مع وزارة الخارجية دون جدوى، وذلك لأنه لا يوجد نظام في الأساس يسمح بمنح الكلاب جوازات سفر. قال لها أحد الموظفين الليبيين ذات مرة «هنا في هذه البلاد العديد من الناس ليس لهم جوازات سفر، وثمة من سحب منهم جوازاتهم ومنعوا من مغادرة البلاد». وعندما قالت له إن بعض الأجانب يصطحبون معهم كلابهم عندما يأتوا إلى ليبيا. رد عليها بأن ذلك صحيح، ولكنهم يحضرون معهم جوازات سفر خاصة بالكلاب، ونحن فقط نختم عليها في الخروج والدخول، أما الكلاب الوطنية فلم تصل بعد لهذا الترف. وأخيرا نظر إليها مشفقا وقال لها «يا سيدتي أنا أعرف نبل مقصدك ولكننا الآن في مرحلة من تاريخنا انتبهنا فيها لحقوق الإنسان، والتي لا تزال بعيدة المنال، أما حقوق الحيوانات فمن المستحيل التفكير فيها الآن».
قررت أن لا تترك رمضان مهما كانت الصعاب، وأخذت تبحث عن طريقة لتهريب رمضان. فكرت أولا في السفن الأوروبية القادمة إلى ليبيا. يمكن بسهولة إدخال الكلب إلى الميناء، ووضعه على إحدى السفن وتنتظره في أحد الموانئ الأوروبية، ولكنها اكتشفت فيما بعد صعوبة إدخال رمضان إلى الميناء، وعندما علم المترجم السوداني بمحنتها اقترح عليها تهريب رمضان على متن القوارب التي يهرب عليها اللاجئون الأفارقة والعرب. اصطحبها إلى مدينة زوارة الساحلية في أقصى غرب ليبيا، حيث قدمها إلى أحد المهربين والذي يعمل بجهاز الأمن. طلب منها المهرب ألف دولار فوافقت على الفور، وفي الموعد المحدد عادت ومعها رمضان، والكثير من الطعام والشراب. وضعته بنفسها في المركب المزدحم بالأفارقة. احتاطت لغرق المركب فوضعته في صندوق بلاستيكي فرشته ببطانية كما وفرت له الغطاء، ومنحت أحد الأفارقة خمسمائة دولار على أن يتولى العناية برمضان، وغادرت بعد أن ودعته بالدموع الغزيرة والأمل في أن تراه عما قريب.


(5)
استقلت أول طائرة نحو روما، ومن هناك ركبت طائرة أخرى نحو باليرمو، ومنها استقلت مركبا نحو جزيرة لامبيدوزا، وطوال الوقت كانت تتصفح البومات الصور الخاصة برمضان وتبكي بصمت.
خمسة أيام وهي جالسة على الشاطئ تنتظر وصول القارب. نسيت خلالها الأكل والشرب. كانت فقط ترد على مكالمات زوجها اليومية لتخبره بآخر التطورات. في اليوم الثالث وصل مركب يقوده خفر السواحل، ولكن اتضح أنه ليس المركب الذي تنتظر. وعندما أدركها اليأس وأيقنت أن رمضان وجميع من معه في قاع البحر، وأخيرا وصل المركب ورأت رمضان في مقدمته ينبح نباحه الأجش المميز، خفت بكل قوة لملاقاته، وتخطت الحواجز التي وضعتها الشرطة وحرس السواحل، بينما قفز رمضان من المركب إلى رصيف الميناء قفزة واسعة، حتى أنها صرخت خوفا من أن يقع في الماء، وانطلق مسرعا نحوها. لم يهتم بأمره رجال الشرطة والمسعفون، وخرجت به دون أن يسألها أحد عن أوراقه. في الفندق استدعت طبيبا بيطريا ففحصه وحقنه بالتغذية الاصطناعية عندما اكتشف أنه يعاني من الجفاف. في اليوم التالي غادرا الجزيرة على أول مركب، ومن باليرمو استقلت طائرة نحو ميلانو، ومن هناك ركبا عدة قطارات قطعت بهما ما تبقى من إيطاليا، سويسرا، فرنسا، وبلجيكيا، قبل أن يتوقف آخر قطار في لاهاي. كان رمضان طوال الوقت ينظر من خلال نافذة القطار نحو هذا العالم الأخضر الذي انبثق فجأة أمامه كما تنبثق الأحلام. وجدت زوجها ينتظرهما في محطة هولند سبور. تعرف رمضان عليه على  الفور، وقفز على قائمتيه الخلفيتين ليعانقه ويمسح وجهه بلسانه، بينما اريك يقول له مرحبا بك في هولندا يا رمضان.
في الأيام اللاحقة خاضت ايفيت معركة صغيرة مع السلطات المحلية في لاهاي، حيث تقدمت بطلب لجوء باسم رمضان إلى وزارة العدل، وكلفت محاميا بمتابعة القضية، ثم طلبت المساندة من حزب صغير لم يدخل إلى البرلمان بعد، اسمه الحزب من أجل الحيوانات. زارت مقر الحزب وتحدثت إلى رئيسته وهي سيدة في الثلاثينات مهووسة بالحيوانات وحقوقها، التي رحبت بالدفاع عن رمضان ومنذ ذلك اليوم تدفق سيل هائل من الخطابات المذيّلة بآلاف التواقيع على وزارة العدل، ووجد الوزير نفسه في مشكلة وذلك لأن قوانين اللجوء تحتم على طالب اللجوء تسليم نفسه منذ أول يوم يصل فيه إلى البلاد إلى السلطات، حيث يحجز في مركز خاص باستجواب طالبي اللجوء، وإذا قبلت الوزارة النظر في طلبه ينقل إلى مركز آخر، حيث يستعيد بعض حريته، ويستطيع التنقل شريطة أن يوقع كل يوم عند الشرطة في مركز طالبي اللجوء، وأخيرا ينقل إلى مركز آخر حيث يمكنه أن يعيش في غرفة لوحده، أو مع شخص آخر، وحيث يمكنه إعداد طعامه في مطبخ مشترك، ولكنه عليه أن يثبت حضوره مرة واحدة كل أسبوع. طلب الوزير المساعدة من المستشار القانوني للوزارة، فهذه هي المرة الأولى التي يكون اللاجئ فيها كلبا وليس إنسانا.


(6)
استغرقت الإجراءات أسبوعا آخرا قبل أن ترد الوزارة برسالة تقبل فيها النظر في طلب رمضان، وأنه ولظروفه الخاصة قررت الوزارة بقاءه مع السيدة دي فريز حتى نهاية الإجراءات.
في الأسابيع التالية أجرت صحيفة دي تلخراف وهي الصحيفة الأوسع انتشارا في البلاد، مقابلة مع السيدة دي فريز، ونشرت صورتها على الصفحة الأولى وإلى جوارها رمضان وهو جالس على قائمتيه الخلفيتين، وينظر باتجاه المصور، وكتب تحته «رمضان أول كلب يطلب اللجوء في هولندا». كما أجرت معها القناة التلفزيونية الأولى مقابلة، وشاهد الناس رمضان بشال برتقالي حول عنقه، بينما استمر الحزب من أجل الحيوانات في إذكاء حملته من أجل منح رمضان حق اللجوء في البلاد، فقد أدركت رئيسة الحزب أنه إذا تمكنوا من الحصول على حق اللجوء لرمضان فإنه حتما سيدخلون البرلمان في الانتخابات القادمة. طبع الحزب عشرات آلاف الصور لرمضان، ووزعها أعضاء الحزب في الشوارع طالبين الدعم من الأهالي، وهكذا انهال سيل جديد من الطلبات ليس فقط على وزير العدل بل أيضا على رئيس الوزراء والملكة، وبعد شهر واحد استدعي رمضان إلى وزارة العدل حيث منحه وزير العدل شخصيا حق اللجوء والإقامة الدائمة في البلاد.
المقابلات التي أجريت مع السيدة دي فريز لفتت انتباه الجمعيات المدافعة عن حقوق الحيوانات، ومنذ ذلك اليوم لم يمر أسبوع واحد لم تكن السيدة دي فريز ضيفة على إحدى الجمعيات لتقدم محاضرة على الحيوانات في بلدان العالم الثالث، كانت تسرد عليهم الظروف التي وجدت فيها رمضان قرب قرية صغيرة في غرب ليبيا، والمحاولات التي بذلتها لترويضه، وظروف هجرته في قارب مليء بالأفارقة عبر البحر المتوسط، بينما رمضان مستلق أمامها يرفع رأسه من حين إلى آخر عندما يسمع إحداهن تنشج باكية، فيرى الدموع تنحدر من مآقي الناس الذين يواجهونه.
وأخيرا أصبح رمضان يظهر كل يوم على شاشات عدة قنوات محلية ودولية، في دعاية تدعو المشاهدين للتبرع من أجل إنقاذ الحيوانات.
في عام 2003، وعندما سلمت ليبيا برنامجها النووي وطبعت علاقاتها مع الغرب، اقترحت قناة دا انميل بلانت على السيدة دي فريز تنظيم رحلة إلى ليبيا لتصوير شريط عن حياة رمضان هناك. رحبت السيدة دي فريز على الفور بالفكرة، وطارت مع رمضان وفريق التصوير باتجاه تلك البلاد الغامضة. كان رمضان قد تحصل على جواز سفر، وضع عليه القنصل الليبي في لاهاي وهو متأفف تأشيرة الدخول، لكنه وضع في مكان مخصص للحيوانات أسفل الطائرة، وفي مطار طرابلس خرج رمضان إلى جوار سيدته دون مشاكل تذكر سوى الحضور الثقيل لموظفي الإعلام الخارجي. منعوهم من تصوير أي شيء باستثناء الهدف الذي جاءوا من أجله، وكانت أكبر المشاكل هي إبعاد سكان قرية ماريش من مكان التصوير، خاصة عندما تعاقد الفريق مع جمعة الضبع على تصوير رمضان عندما كان مربوطا تحت شجرة الزيتون، واستغرق الأمر ثلاثة أيام حتى تمكنوا من تصوير رمضان في محنته الأولى، والغريب أن رمضان نفذ كل التعليمات التي طلبتها منه السيدة دي فريز، بل أظهر مواهب تمثيلية خارقة، وهو مربوط تحت شجرة الزيتون ينبح نباحه الشرس مكشرا عن أنيابه، كما تفوق على نفسه وهو يحاول قطع الحبل بحركات هستيرية، أما الجزء الخاص برحلة تشرده فكان الٍأسهل، خاصة وأنهم اختاروا البراري مكانا للتصوير، وكأن رمضان فهم ما يريدونه وأن الشريط عن سيرته الذاتية، فانطلق أمامهم نحو المغارة التي كان يختفي بها في النهار، وتمكن من العثور على بقية قطيعه الذي كان يتزعمه، وترك الفريق فقط يصوره وهو يستعيد ذكرياته. بعد عشرة أيام عادوا إلى هولندا وبعد عرض الشريط تحول رمضان إلى أشهر كلب بين الثمانية ملايين كلب التي تعيش في البلاد.


(7)
تعاقدت السيدة دي فريز مع شركة انتر تويز لصناعة دمى لرمضان، كما تعاقدت مع شركة متخصصة في إنتاج أفلام الرسوم المتحركة لإصدار سلسلة من الأفلام عن رمضان، وهو ما فعلته دار نشر متخصصة في إصدار كتب للأطفال، أما الحزب من أجل الحيوانات فواصل حملاته الدعائية مستغلا هذه الشهرة الذي أصبح يحظى بها رمضان، وكانوا ينوون أن يطوفوا به البلاد في الحملة الانتخابية لعام 2006، لولا أنه قرر الرحيل قبل ذلك بعام واحد، عندما وافته المنية يوم الخامس عشر من أبريل عام 2005، وهو في حضن السيدة دي فريز، بينما يمسد السيد إيرك دي فريز على جسده الواهن. كان رمضان يغيب عن وعيه ثم يستيقظ فيرفع رأسه في وهن ليلعق وجه السيدة التي نقلته من التشرد إلى الشهرة الواسعة، في الوقت الذي كان فريق قناة دا انميل بلانت ينقل اللحظات الأخيرة من حياة الكلب.
نقل خبر وفاة رمضان فورا إلى كل أنحاء البلاد، وكان الخبر الأول على محطات التلفزيون والراديو، وفي اليوم التالي صدرت صحيفة دي تلخراف، ميترو، وسبيتس وهي مجللة بالسواد، تنعي وفاة الكلب رمضان، وعلى الانترنت إنشاء موقع خاص برمضان زاره في الأسبوع الأول أكثر من ستة مليون شخص، أما جنازته فشاهدها على الهواء مباشرة أربعة ملايين مشاهد، وسار خلف نعشه قرابة مائة ألف شخص، ووقف الناس على جانبي الطريق بينما السيارات السوداء تسير ببطء نحو مثواه الأخير، كما غادر الأطفال المدارس ليتاح لهم توديع الكلب الذي أحبوه، وفي ذلك اليوم باع محلات الزهور كل ما لديها في المحلات، تلك الزهور التي ألقيت بسخاء على السيارة التي تحمل نعش رمضان.
في العام التالي وبعد الحملة الانتخابية التي استخدم فيها الحزب من أجل الحيوانات صور رمضان، نجح الحزب للمرة الأولى من دخول البرلمان، وفاز بمقعدين في الغرفة الثانية، مقعد واحد في مجلس الشيوخ،  وخاصة بعد أن نصب أمام مقره تمثالا لرمضان وهو يضع حول عنقه شالا برتقاليا وينظر إلى هذه الدنيا الفانية باسترخاء وثقة وكأنه حقق ما يريد في أربعة عشر عاما، بينما عاشت السيدة دي فريز خمسة أعوام بعده، لتتوفى في نفس اليوم الخامس عشر من أبريل عام 2010، بعد أن توفي زوجها بعامين، ودفنت في المقبرة البروتستانتينية  في لاهاي إلى جوار إيرك ورمضان.

مقالات ذات علاقة

ظلُ عظيم

هدى الغول

ابن الـباشــا

عبدالرحمن جماعة

قصص قصيرة

خالد السحاتي

اترك تعليق