من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
قصة

الشيء الذي ينأى

أنغام مفعمة بحزن جارح تنتشر ، مختلطة بدخان و بخار ماءٍ مزفور من رئتيًّ، في فراغ الغرفة . و كنت أسمع وقع المطر، خفيفاً ، و أتصور انقباض أجساد المارة و وحوحاتهم نتيجة سريان البرد في ضلوعهم ، و أحاول أن أتذكر شيئاً ، موجعاً و كئيباً ، كأزيز الريح الباردة ، لكن ذاكرتي ما أسعفتني. أحسست بالبرد ينساب ، ببطء ، كثيفاً في قلبي و إحساس بالوحشة يستبد بي و رغبة في البكاء . التفت إليها فجأة :

– أعتقد أن كوباً من الشاي لا يضر ..

أخرجتها من سرحانها .. ابتسمت..

– من ناحية الضرر لا يضر ، لكنه متعب من ناحية التعب.

تظاهرت بعدم سماعها و تلفعت بالصمت . ( فهي ستجهزه على أية حال) . صرت أتخيل اللون الأحمر الكامد ، و هو يشع خافتاً ، من خلال زجاج الكوب و البخار الساخن المتصاعد في تمط و كسل يهمس برائحة الليمون الهادئة ثم السخونة الحادة تسيل في أعصابي و أنا استوعب الكوب بين راحتيَّ .. قامت . لابد أنها نظرت إلى نظرة تقول : ” هل لابد من إتعابي .”. أو : “بصراحة ، أحياناً تزعجني يا حبيبي.”. لم تغلق الباب . تسرب تيار بارد . وضعت يديَّ في جيبيَّ و توحوحت منقبضاً في مقعدي . سمعت ارتطام أوانٍ و انسكاب الماء بعنف . أحسست أنها تتعمد ذلك لتشعرني بعدم رضاها و أني أظلمها .. تألمت ، قليلاً ، في نفسي و قلت : إني لا أظلمها ، و إنما أريد أن أظهر لها احتياجي إليها و أني حين أفقدها أفقد الكثير . نقحت: أفقد الكثير جداً .. قلت : إنها لا تفهمني. آلمني ذلك. قلت: لكنها تحبني. قلت: أنا أفهمها و أحبها .. فكرت : يبدو أن المرأة تتعلق بغموض الرجل ، فإذا فهمته ملته !.. قلت : إن ما قلته لحكمة !. قلت : لعلي قرأت هذا في مكان و نسيت . قلت : من الخير لي – إذن – ألا تفهمني . قلت: سأكون غامضاً كالعصفور . لم أرتح للتعبير . قلت : إذن سأكون غامضاً كالدلفين !. ارتحت للتعبير قليلاً . ازداد لسع البرد لقدميَّ .. تنبهت إلى أن الشريط قد تم . قلت : حين تأتي بالشاي فسوف تقلب الشريط ، أو تضع آخر . سمعت خطواتها تقترب في همس .. جهزت بسمة عريضة متوهجة .. دخلت و أغلقت الباب دون أن تنظر إلى . وضعت السفرة على المنضدة القزمة .. كان بها كوبان .. قهقهت متعمداً . نظرت إلى محاولة أن تبدو عادية:

– هل رويت لنفسك نكتة ؟!.

جلست بجانبي . أمسكت يدها متلطفاً :

– تظهر خفة روحك حين تكونين غاضبة.

ردت بنفس نبرتها المحاولة الحياد:

– من قال إني غاضبة !!.

– إذن تظهر خفة دمك حينما لا تكونين غاضبة .

استطعت أن أجعل ابتسامة تفلت منها غصباً .

– لا تترك شايك يبرد.

تركت يدها .. وضعت السكر في الكوب . و أنا أذوبه ، قلت لها :

– حينما لا تكونين معي تسببين لي مشكلة !!.

– ما هي ؟.

– لا أجد من أغضبه و أرضيه!.

لكزتني في خصري.

– هذه ، فقط ، فائدة وجودي بجانبك؟!.

ملت عليها مستهدفاً شفتيها ، لكنها انحرفت بوجهها سريعاً فلثمت شفتاي شعرها . أبعدت ، برقة ، وجهي بيدها :

– لما أرضى !!.

داعبت شعرها بيدي :

– هل أبالغ إذا قلت إنك عالمي .

– أممم؟!.

– لا تصدقين أم ترغبين أن أكرر الجملة ؟.

و ملت مستهدفاً شفتيها .. اعترضت وجهي بيدها ..

– شايك برد.

– دفئك لا يخمد !.

– تحسبني فرناً ؟!.

تحررت مني . جلست على الأرض بعيدة قليلاً .

– أنت تتعبني دائماً ، و سوف تدفع ثمن ذلك .

أخذت أرشف الشاي الذي فقد كثيراً من حرارته . تعمدت عدم الاكتراث بها . قلت :

سوف تشتعل فيها الرغبة .. أخذت تلهو بعلب الأشرطة ، محاولة تنسيقها في شكل هندسي.

– ماذا تبنين ؟!.

سكتت . عدت إلى رشف الشاي الذي نزف من حرارته كثيراً.

– أبني منزلاً !!.

كانت قد كونت بالعلب شكلاً يشبه منزلاً تحيطه حديقة .

– سيكون منزلنا مثل هذا .. منزل داخل حديقة كبيرة بها شجر و زهور و أمكنة للعب أطفالنا .. ربما حوض للسباحة ، أو حوض للأسماك .. أو يكون بها الحوضان.

كانت تتكلم مزيحة ، للخلف ، العلب التي تمثل سياج الحديقة .

– سيكون لنا ولدان و بنت . أو ولد و بنتان ، كي تتآنسا .

نظرت إلى ضاحكة :

– ما رأيك في أن يكون لنا بنتان و ولدان!.

كان خاطر أني أوشك أن أتذكر شيئاً كأزيز الريح الباردة يلح علي .. و عاد الإحساس بالبرد المنساب ، بطيئاً ، بكثافة في خلايا قلبي ، و طغت الوحشة و الرغبة في البكاء . همست باكتئاب قاهر:

– أنت تحلمين كثيراً.

تساءلت منبهتة :

– كثيراً ؟!.

– كثيراً جداً .

– غريب !.

– للزمن منعطفات و خبايا . إنك تتكلمين و كأنك تقبضين على الأمان . لكن الأمان ينأى .

كنت أتكلم و عيناي مفتوحتان على وجهها الذي صارت سحنته تكلح . برقت عيناها بالدمع . حين طفحتا ، طأطأت . فكرت : لا بد أن الدموع تخز عينيها الودودتين . أحسست بذلك الوخز في قلبي . بدت حميمة و مشعرة بالتفجع و الحنان كعصفور بديع أسلم أعصابه للإحساس بألم جراحه ، و شبت في ذاكرتي ذكرى عصفور صغير ، أمسكته عندما كنت طفلاً، أعطيته لأخي الأكبر مني كي يذبحه . عاونته ليتمكن من الذبح ، حين تركناه ، أنطلق طائراً. ذهلنا و تحسرت . لكنه أكمل قوس طيرانه على بعد أمتار و أسلم نفسه لجبروت الألم والموت . قلت : هذا ، كأزيز الريح الباردة ، موجع و كئيب . احتد لسع الملح في حشاشة عيوني و انبثق في أنفي وجع كان يعتريني ، أيام الطفولة ، عند ابتداء البكاء ، و قلت : ليس عاراً أن أبكي في حضرة امرأة.. وخطرت في بالي جملة ظريفة : ” رجل غامض كالدلفين : يبكي في حضرة امرأة منكشفة كالواحة !”. أخذتها بين أحضاني ..

– الأمان ينأى يا حبي .

وامتزجت دموعنا و شهقاتنا .

طرابلس : 5-11-1976م

مقالات ذات علاقة

زَهرة تحت الرُكام

سمية أبوبكر الغناي

زهرة الأوركيد

مفيدة محمد جبران

مـا وراء الحـب

محمد العريشية

اترك تعليق