من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري
قصة

الشيء الذي حدث

كنت أعرف أنك ستهربين.. ستجمعين حقائبك الجميلة.. تلك التي لم تفتحيها بعد، رغم مضي سبعة أيام على زفافنا التعيس، سألتك لماذا لا تفرغين حقائبك في خزانة الثياب؟، همست بتلعثم بأنك بانتظار (التسبيع) كما تقتضي تقاليد الجدات، لكنك فررت في ذلك الصباح، سمعتك في الليل تنتحبين وعندما هرعت إليك شددتِ الغطاء لإخفاء تورم عينيك، تركتك وذهبت، إلى فراشي.. لا، لم يكن فراشي، “إنه فراش الكلب”، كما صرختِ في وجهي لحظة انفعال جارف.. نعم إنه فراش الكلب، فليس لعريس أن ينام في فراش من إسفنج هزيل فوق سطح البيت، يلتحف السماء الغامضة ويرهف سمعه إلى أصوات الرصاص البعيد، وحين يشتد به الشوق يخرج بندقيته ويطلق رصاصة وحيدة يعبُّ بتلذذ دخانها المتراقص من الماسورة، وينام.

كنت أعرف أنك ستهربين، لكنني لم أتصور أنك ستفعلين ذلك منذ الأسبوع الأول، لم أخْفِ عنك شيئاً، أخبرتك أنني مصاب بلوثة سببها الحرب، وأنني لا يمكنني النوم في غرفة مغلقة، لأنني سأشعر بالاختناق إذا لم أسمع شكشكة القذيفة في غرفة النار.. إذا لم يخترقني صوت انطلاقها..إذا لم اتنشق دخانها الكبريتي المثير.. لكنك قلت لي، كل شيء سيتغير بعد الزواج، كنت تراهنين على جمالك الآسر، شعرك الفاحم المنساب على الوسادة وعينيك المثيرتين كعيني قطة متوثبة، وهدوء أنفاسك عندما تنامين كطفلة، وأنا أشعر بسقف غرفة النوم يسحقني كجنازير دبابة ضخمة، وتهجم من النافذة فرق ملثمة مدججة بالبنادق، ويتساقط رفاقي صرعى ممزقين على السجادة المزركشة.. أتذكرين.. ليلة صرختُ بفزع صرخة مجلجلة جعلتك تقفزين على إثرها مذعورة من السرير.. تحضرين لي كأس ماء.. تبسملين.. تربتين على رأسي.. وتعلمين أن لا فائدة من كل ذلك، فروحي مقيدة إلى وتد في العراء، هنالك حيث الفراش الخشن، فوق سطح البيت مثل كلب مسعور، مات رفاقه جميعا وظل وحده يحمل جرثومة الوباء.
حاولتُ أن أخبرك، لكنك لم تكترثي، كنت مولعة بتفاصيل الزفاف، الفستان الأبيض والزهور والكعكة الكبيرة وبطاقات الدعوة، أردت لنفسك ليلة من الخيال، ليلة عمر لا تكرر، هكذا كنت ترددين، وتصمّين أذنيك ولا تصدقين ما أقول، أخبرتك بأنني سأحتاج إلى بعض الوقت، وكثير من الحب لأتجاوز محنتي، هززت رأسك دون اكتراث، كأنك لا تأبهين.. لا تصدقين.. لا تفهمين ما يجب أن أقوله لك ثانية.. لأنه ذلك هو ما حدث.

كان ذلك في اليوم الأخير لي في المحور الجنوبي فوق العمارة الكبيرة، كنا أنا ورفيقي، هو يعمّر لي الرشاش بالذخيرة وأنا اقتنص الأهداف المتحركة من ثقب صغير في الجدار، التهبت الجبهة ذات عشية حامية وتطايرت الصواريخ المجنونة كالشهب في السماء، قبل أن تنهمر على الأجساد الفتية، شاهدت القذيفة تلتهم رفيقي وتنثر أشلاءه على الجدار، حينها لم أكُ قد تنبهت بعد إلى ذلك الأخدود الكبير الذي حفرته شظية في ساقي، نزعت قميصي وأحكمت رباطاً على الساق، وحين فحصت ما تبقى من ذخيرة، وجدتها ثلاث رصاصات فقط! هل تعلمين ما معنى أن يكون لديك ثلاث رصاصات فقط وقد مات رفاقك، وانسحب قادتك نحو خطوط بعيدة؟

تحسست الرصاصات الثلاث بأصابع وجلة، وعرفت أنها لم تعد سلاحا ذا جدوى، وأنا عالق بين الموت والموت، الجرح الذي ينزف، والعدو التي سينشر قوته لتمشيط المكان، يداهمني الوقت، أحاول أن استنجد بأحد ما، عمّرت بيت النار وأطلقتُ الرصاصة الأولى في الهواء. وكأنها أول رصاصة تطلق في تلك الحرب اللعينة، جاء صوتها سخيفاً موحشاً غريباً كأنه ينعي وحدته في أرض الهزيمة..

سيطر وجوم رهيب على المكان ، وكان الدم ينزف من مكان الجرح، ويداهمني الدوار، ولم يكترث بي أحد.. تذكرت أمي وشقيقاتي، كيف سيتلقين خبر موتي، هل سيصلهن جثماني، أم أن جسدي سيتحلل هنا دون أن يعلمن شيئا عني، اخترقتني رائحة الدم.. الدم المتسرب من ساقي ودم رفيقي الذي صبغ الأرضية بغدران صغيرة حمراء.. وفتافت من لحم منهوش تطاير كزبد البحر على زوايا الجدار. ترى كيف سيدفنون جثمانك أيها الرفيق. كان اسمه مروان، طفلته الرضيعة قال أن اسمها ميس.. في الليل، وحين تخبو الأصوات، يضيء صورتها على شاشة هاتفه النقال وأسمع مناغاته لها من تحت الدثار، يقبّل صورتها ثم ينام..

تزداد رجفة قلبي كأنه على وشك التوقف.. هناك صوت ضجيج.. ضجيج بعيد لمركبات جاءت لتنقل جثت الضحايا.. أتحسس الرصاصة الثانية.. سريعا أطلقها، فتقطع بزعيقها حجب الليل بأسداله السوداء، تنطلق حمامات من أشجار قريبة، كانت قد عادت منذ قليل لتحضن بيوضها وتنام. لحظات وتنقلب كل الحسابات والتوقعات، فالسيارات التي اقتربت لتنقل جثت الضحايا، استدارت وانطلقت بعيدا بأقصى سرعة عندما سمعت صوت الرصاصة.. صرخْت فيهم.. ناديت.. بكيت.. لم يسمعني أحد والنزيف يزداد ولم يبق لي إلا رصاصة وحيدة، رصاصة أخيرة ستكون رصاصة الرحمة إن طال بي العذاب، يا رب ارحمني برحمتك، لمَ أنا في هذا الليل الكسيح أرقب نهايتي مثل شبح منقرض يغادر دونما أسف، لماذا هذه الحرب؟ ومن الذي انتصر؟ من هم الأعداء؟ القذيفة أم الولد الوسيم الذي أطلقها؟.. لا أعرف ما الذي يريده مني، أخبروني أنه العدو، وأخبروه كذلك، وكانت له أم طيبة مثل أمي وربما طفلة رضيعة مثل ميس.

تخترقني ريح باردة تقشر مساماتي، وشيئا فشيئا يتحول رأسي إلى كرة من نار، الحرارة تلتهم جسدي وخدر غريب يسري في عروقي.. تندفع خيالات مريبة تقول لي كلاماً غريباً لا أفهمه، يا إلهي لقد بدأت أهذي، وسأغيب عن الوعي، ولم يعد لي إلا رصاصة واحدة ولا أحد يعلم أنني هنا.. سأنتهي قبل أن يأتي المنتصرون لتمشيط المكان.. لا أعرف من الذي انتصر.. لكنني سأصرخ إليه بكل ما أوتيت من قوة بأن ينقذني أو يطلق عليّ رصاصة الرحمة، لا أريد أن تأكلني الديدان وأمي لا تعرف أين مكاني.. أمي التي تعد الفطيرة الساخنة كلما عدت إليها في إجازة قصيرة، تقول لي: “سحنت كبدي يا جنيني” ولا أعرف كيف أجيب، أنا الذي أقتنص الأرواح من فوق العمارة تناديني أمي “يا جنيني!!” عجباً للأمهات!..

رصاصة وحيدة وأنا أصارع الدوار.. الحمى تفترسني.. رائحة العفونة تنبعث من أحشاء رفيقي.. وصوت نحيب بعيد لجنود مات رفاقهم، رصاصتي الأخيرة لا أعرف هل أطلقها في أذني أم في الهواء، إنها ثمينة جدا، غالية جدا، مكلفة جدا، متهورة جدا، ونبيلة جدا، وكان قدري أن أعيش بها.. أطلقتها..أخذوني وضمدوا جرح الساق.. لكن جرحي الحقيقي لم يضمده أحد، حتى أنتِ.. أنا في الحقيقة مازلت مربوطا بوتد في سطح العمارة الكبيرة، تخترقني رائحة أحشاء صديقي.. وأتحسس سبحة من الرصاصات أخبئها تحت فراشي، أشمها.. ألثمها.. ألعقها بلساني.. أتوسل إليها كل ليلة بألا تتركني.. أتذوق لحظة إطلاقها رعشة اللذة.. صوتها الحاد يطبطب على قلبي.. استلقي على الفراش الخشن فوق السطح، وأنام.

مقالات ذات علاقة

الركض وراء فتاة تخرج من حفل ثقافي

شكري الميدي أجي

إصرار على السقوط

غالية الذرعاني

البرقية

إبراهيم دنقو

اترك تعليق