أنا ذاكرة مفقودة، امضي وقتي عابرةً الشوارع المؤرشفة في ملفاتي كل يوم باحثة عن جسد كنت خزانة لحظاته ذات عمر، أراقب المارة وأتبين ملامح وجوههم لعلها تطابق شخصية كنت خاصتها،مضى الكثير من الوقت و أنا على هذا الحال حتى أنني اعتدت الأحياء التي تجولت بها و اعتدت أهلها.
ذات لحظة ومض سؤال حيرني: لمّ كل هذه الأحداث وكل هذه الوجوه لم تتغير، المرأة التي تنشر الغسيل كل يوم وهي تتحدث مع جارتها في البلكونة المقابلة، العجوز الذي يعبر الشارع حاملا كيسا خبز و أدوية، عامل النظافة،الشباب الواقفون على ناصية الشارع يدخنون السجائر و يتربصون بالفتيات المارات، بائع الخضار وهو ير ش الماء أمام دكانه، بائع المناديل والمتسولات.
فجأة قررت عبور شارع مغاير، ركضت بكل قوتي عكس جاذبية التكرار، جريت حتى أنني شعرت بقلبي يتمزق،أصبت بالغثيان، توقفت في شارع جديد وخال، التقطت أنفاسي بهدوء نظرت عن يميني وشمالي فأقلقني الفراغ، تنهدت،شدّتني بعض الأصوات في هذا الشارع الخالي فقادتني إلى مقهى، جلست على أول طاولة لاطمتني، راقبت رواده و يا لسعادتي حين رأيت أناس جدد،و يا لسعادتي حين أحضر النادل قهوتي المزبوطة وحين وجدت سيجارة روثمن في جيبي، وحين سمعت صوت عبد الوهاب الدوكالي، تكرر ارتيادي للمقهى وأنا غارقة في لحظة ارتباك مجنونة، أحببتها جدا وأدمنتها، ولم أترك الطاولة التي لاطمتني أول مرة، فالشاب الجالس في الجهة المقابلة ترسو عيناه في ميناء حضوري كل مرة و يظل طيلة الوقت مراقبا إياي،كنت اتلذذ برعشة قلبي، بمشاعر مغايرة، كنت اتعمد النظر في كل الأنحاء إلا نحوه و لكنني اسرقني لالتقط نظرة دافئة لها نكهة سيجارة الروثمن، اضغط على أصابعي بكل قوة محاولة أن اضمني و كأن العالم يختبئ بين نهديّ باحثا عن لحظة هدوء، ومرة أخرى ومض السؤال الذي لم يحضر كسابقه فالأول كان له دهشة المغامرة، أما الثاني فقد سرقني من رائحة القهوة،الروثمن،صوت الدوكالي وهذه اللحظة الآسرة، ألا وهو: لمّ حتى هذه الأحداث أصبحت مكررة؟، ووقفت و أنا استغربني،ذهبت نحو الشاب،شددت الكرسي للجلوس،كانت الكلمات تتصارع في داخلي، رميت أفكاري على طاولة قمار مغامرةً بكل ملفاتي المؤرشفة، وبينما أنا على وشك الجلوس،ناداني بإسمي ثم أردف قائلا: يا الله مدة طويلة، ارتبكت وحاولت أن اقفز هذه المدة الطويلة التي تحدث عنها أو ربما اقفز إلى طاولتي مرة أخرى.
كان صوته مألوفا جدا حتى أنه استطاع فتح أقفال ملفاتٍ لم يكن بوسعي الوصول إليها، نظرت إليه في دهشة،وقد سبقني مرة أخرى قائلا: مرسول الحب فين مشيتِ و فين غبتِ علينا.. خايف لتكون نسيتنا و هجرتنا و حالف ما تعود، كنت مثل قطار تعطلت فرامله،وكنت أرغب في الكلام لكن صوتي أصبح طائرا جريحا.
استرسل في حديثه: تعشقين الدوكالي تشيدين من صوته الفخم قلعة لانكساراتك أو ربما اختياراتك،كان الدوكالي يترنم على صهوة أنفاسي: عايش جوال كنت و مازال عايش جوال، ثم قال أنا أحب سيف النصر بصوته الدافئ،أنت لا تسمعينه الآن لكنني أسمعه قائلا: عيني بكت من شوقها يوم اللقاء.. عيني لقت معشوقها يوم اللقاء.. محبوبتي عند المساء طلت كما بدر السماء.. فكرتني بالقديم ماضي محبة و انطوا تحت الرديم، تأتأتُ و حاولتُ الفرار من قبضة الصمت،لكنه كان مثل طاحونة هوائية في يوم عاصف وقال: أتدركين أن كل الموجودين يسمعون أغانٍ مختلفة، ثم وقف وهز من بجانبنا سائلا إياه عن أغنيته فردد بصوت مرتعش أغنية طلال مداح: مقادير يا قلب العنا.. مقادير ويش ذنبي أنا،لازال يمرر لكماته لقلبي المكسور قائلا: ألا تدركين أنك تسرقين لحظة ضائعة، ارتبكت و أنا اتفحص خاتما في اصبعي محفورا عليه اسما آخر،رميت السيجارة وقررت الهرب و أنا اسمعه يقول: ألا تدركين أننا جميعا ذواكر مفقودة.