سيرة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (20)

20- التدريب العسكري

 
انتهى العام الدراسي (1980/1979م)، ونجحت من الصف الثاني قسم علمي إلى الصف الثالث بتقدير جيد، وبدأت العطلة الصيفية وحينذاك شاع أن (التدريب العسكري) سيكون في المعاهد والثانويات، وبدأ التداول في الموضوع في بيتنا ولكنّي قررت أني لن أترك الدراسة فهي مجرد مادة ستعطى، وأصررت على موقفي وبدأ العام الدراسي، وظهر الجنود والضباط، وصار اسم المعهد (ثكنة عشرة مارس للمعلمات) وبدأنا كراديس وليس فصولا، وكنت ألبس (جلابية) بيضاء حليبية ورفضت ارتداء الزي العسكري، وبدأت مشادة بيني وبين (عسكري)، لكن الضابط أو (الآمـر) وقف معي وطلب مني أن أرتدي البدلة تحت الجلابية وضروري من (البوتيل العسكري).
ولبست (البوتيل)، وعدت للكردوس ولكن كان غضب العسكري عنيفا (تو تشوفوا النهارات السود، تو تعرفوا ربي حق). طبعا مع ترديد تلك العبارات (يا زمال يا تحفة يا خرقة)، وانصبّ أكثر تلك الكلمات على سمعيّ وأنا أعبر قريبا منه (يس يم يسار يمين).
وعدت إلى بيتنا بقرار أني لن أعود إلى المعهد. فُرْحت أمي وشكرني أخي لموقفي هذا، وذات عشية جاءت “ابنة خالتي … ” وعرفت أنها ستجادل أو ستدافع عن حقي في التعليم وووو، ولكي لا يحدث احراج لها كنت من بادرت بالهزء من العسكرية وكيف ارتحت من ” قلة القيمة والتبهديل ” حيث كل صباح الهرولة ووو، شربت قهوتها صامتة وغادرت متعجبة؟؟!!!
 ولكن في ” ظل ثورة الفاتح ” التي جاءت كما في بيانها للبسطاء والمهمشين ووو والتي قررت أن ” الشعب المسلح ” قرار ثوري لارجعة فيه لكل الشعب، بدأت ظاهرة تمايز الطبقات حيث رفض ” البرجوازيون الذين تكونوا في ظل الثورة وأيضا كبار الضباط ” أن تتدرب بناتهم وهكذا بدأ التعليم المسائي والذي انضمت إليه بنات الطبقات المتنفذة من اللجان الثورية والضباط وأهل المال.
 
وقضيت هذا العام في البيت لأتعرف على برنامج (من البريد إلى الأثير)، وعلى مذيع متألق ومتمرد وعاشق لـ”نزارقباني” و”عبد الحليم حافظ”، اسم المذيع “عبد الكريم قطاطة” وكان أثير (إذاعة صفاقس)، هو من يحمل لنّا صوته كل ضحى، وكان اسم البنت الليبية عاليا ومشاركاتها متميزة ولكن بأسماء مستعارة، ولن أكتب لهذا البرنامج إلا بعد عودتي لدراستي والتي عدت إليها رغم أن المعهد تحول ثكنة وبنات الطبقات العليا رفضن مشاركة بنات الشعب، عشت تجربة القعود في البيت ولم تعجبني (نار الثكنة) ولا (جنة الحوش)، خاصة أن “مارسيل خليفة” صار مطربي الأثير وما أدراك من هو وما يحمل غناؤه من ثورة وتمرد:
مناضلون بلا عنوان
مناضلون في أي مكان
نحلم بالورد والخبز والزيت
وكتب الحب والنار
ورسم العصافير والأشجار
……
كان خالي محمد (خال أمي وأبي) يعمل في المعهد أعطيته ورقة كتبتها عن سبب انقطاعي عن الدراسة بالعام الماضي (ادعيت أني تعبت نفسيا ووو فهل أجرؤ على كتابة السبب الحقيقي؟!) وهكذا عدت للصف الثالث معهد القسم العلمي، ولبست (البدلة الخضرا والبوط العسكري)، تدربت وتحصلت على كم مرة من التذنيب، حيث وقفت ثلاث حصص في الساحة عقابا على تأخيري في الطابور الصباحي. وفي ذلك اليوم (استحلت) المطر أن تظل لأكثر من ساعة وهي تهطل على رؤوسنا ونحن نرتجف، وندخل مبللات ونظل بثيابنا حتى انتهاء اليوم الدراسي، لا بأس فنحن بنات الشعب، و”مارسيل خليفة” يغني لنّا و”عبد الكريم قطاطة” يقرأ رسائلنا.

الإذاعي التونسي عبدالكريم قطاطه
الإذاعي التونسي عبدالكريم قطاطه


نعم لقد كتبت رسالة من عشرين صفحة وبقلم الرصاص (كان “قطاطة” يحذر أن أي رسالة بقلم الرصاص لن يقرأها) ولكن أخبر المستمعات أن هذه الرسالة غير عادية وذكر اسمي بلقبي: وفي العشية ناداني أخي وقال لي:
– نعرفك تحبي تكتبي وتراسلي، ولكن معادش تكتبي اسمك واسم العيلة.
وكنت قبل أيام أرسلت رسالة وبها مشاركة بحكاية ولكن “عبد الكريم قطاطة” وكما قال (من هي المرأة في بلادنا وخاصة البنت العربية حتى تنتقد الأخ أو الأب) وأخبرنا أنه اختار اسم “مبروكة” لصاحبة هذه الحكاية خوفا عليها من غضب الأسرة، وحينذاك اخترت اسما خاصا بي هو “مَحَبَّة” والذي لازمني طيلة برنامج (من البريد إلى الأثير)، وكانت صداقتي مع “خيرية” طالبة الأدبي في التقائنا على محبة عبد الكريم وبرنامجه، ومازلت احتفظ  بمذكرة صغيرة بخطها مليئة بالاختيارات من برنامجنا الأثير!!
 
وجاء “عبد الكريم قطاطة” في خريف عام 1989م.
جاء إلى طرابلس وفي المطار استقبلت الفتيات الليبيات وخاصة طالبات كلية الصيدلة هذا المذيع بالورود وأقام في فندق (باب البحر) حيث ذهبت إليه، ورأى “محبة” المشاغبة الثائرة (كما وصفني).
كان نحيلا، قصيرا، ومدخنا بشراهة، وعصبيا ومتحديا، والفتيات الليبيات صديقات البرنامج يحطن به من كلّ جانب، وكان على موعد مع (….)، والتي جاءت مع صديقات، ثم أخذتنا بسيارتها، والتي كانت صغيرة فانحشرنا، وأخذتنا إلى المدرسة التي درست بها الصف الثالث إعدادي (بنت الوطن) ومديرها الذي استقبله بحفاوة وحديث ونقاشي الخاص معه حول (زين العابدين)، بعد رجوعه أرسلت له رسالة مطولة وفي جزء منها وجهت خطابي للرقيب الذي سيفتح هذه الرسالة ويقرؤها وربما يصادرها، رجوته ألاّ يصادرها فلا أظنها تشكل خطرا على النظام؟
كانت أياما تفيض بالشغب والجسارة.  

مقالات ذات علاقة

سيرة الكاتب أحمد العنيزي

رامز رمضان النويصري

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (53)

حواء القمودي

عبدالسلام المسماري .. شهيد الوطن وصوت الحق

المشرف العام

اترك تعليق