تشبه جراحها قطع الزجاج المكسور متناهي الصغر، لامرئي وشفاف كرشات الملح، مبعثر في أركان المكان بما يصعب جمعه، وكلما خطت قدماها، جَرَحها وتناثر دمها بقعا متفرقة مخلفا ألما متجددا لكنه ليس كافياً للصراخ…
“أنا في منتصف الخمسين”!
ضاقت عيناها الصفراوان، وارتفعت تفاحتا خدها حتى بدت أصغر سناً…
لم يكن ما قذفت به من رقم كافيا لوصف معاناتها.. لكن الرقم كان كثيفا كليل طرابلس الرطب صيفا، ذاك الشعور بثقل التنفس بسبب تكاثف قطرات الرطوبة كجدار يزيغ البصر…
“تعرفين الخمسينات”!
قالتها وبدت متأكدة من ذلك، ثم ابتسمت بصعوبة وهي تمتص سيجارتها وكأنها تمتص رحيق عمرها في كل مرة…
“أعرف.. لكن لكل واحد منا إحساسه”.
“تقصدين لكل واحدة وليس واحداً”.. متكئة على التاء المربوطة التي عقدتها جيدا كرباط الحذاء الرياضي…
عادت تمتص سيجارتها وتقلب صفحات رواية بين يديها وتحرك قدمها في الماء…
كيف لإمرأة أن تصف جراحها حتى المتناهية الصغر بعد نصف قرن في حديث أو في كلمات.. شعرت بأن علي أن أحاصرها بالأسئلة لكنني ترددت.. بدت لي ممتلئة ككأس مثلج يكاد أن يفيض..خفت أن أقذف إليه بقطعة ثلج فينسكب.. كنت أريد أن أرتشفه على مهل. تخيلتها إسفنجا مثقلاً بالماء، ما عليّ إلا أن أعصره، لكنني ترددت فقد أؤذيها.. أريد أن أستمع منها وهي مسترخية بحالتها التي رأيتها فيها هذا الصباح الباكر…
كنت قد نهضت باكرا كعادتي، بشوق لملاقاته.. لأن أرمي جسدي تحت قدميه استجداء، العق ملح جسده العاري، واتحرك داخله كسمكة هاربة من شباك صيد تتهادى نحو العمق. مسحت على وجهي بسرعة واطعمت أسناني معجون الفلوريد.. خبأت منشفتي وكريم الشمس في مخلتي، اسقطت على جسدي فستاني الازرق الطويل دفعة واحدة، وعدوت نحوه توقا وشوقا وفرحا هاربة من أعين متلصصة… فوجئت بها قد سبقتني إليه، تتكئ بكسل على المقعد البلاستيكي الابيض، بمايوه مزركش الألوان، فيما يلتف حول جيدها بفوضى قطعة قماش خفيفة تسقط معظمها في الماء….
كان علينا أن نتحدث.. فالشاطئ طويل.. ولا مناص من أن أقترب منها.. أرخيت مخلتي على الرمال، نزعت فستاني وهرعت نحوه.. كنت أنشد حرية.. الكلمة التي تختزل بين حروفها المثنية والمنكفئة والمنبسطة الحياة، أسري في البحر أو يسري فيّ سيان، انغمس في الحرية بحرا حتى تنز مساماتي أو أعثر في البحر على الحرية…
كان عليّ أن أخرج منه مبللة ومرهقة.. فيما هو لا يكل من كل هذه الأجساد الحية التي تتحرك فيه.. تمنيت لو لدي قدرة التنفس تحت الماء، لكنني سرعان ما طردت الفكرة، فلن أكون إلا واحدة من كل تلك الاحياء البحرية التي تتنافس عليه ولا يشعر بها.. هو الأزلي ونحن الراحلون.
نظرت إليها مليا…
“هل هم الرجال”؟ تجرأت وسألتها مباشرة… “تعاقب عليّ بعض منهم… ليس بالكثرة التي تعتقدين، لكن اثرهم عليّ ثقيل”.
كنت أتوق للمزيد.. وعلى ما يبدو أنها رأت فضولي يدور في حدقتيّ، فأسترسلت…
“الرجال لا فكاك منهم.. كأسماك القرش.. يلتفون حولك دون كلل حتى ينالوا منك.. يقضمون منك قطعا ولا يكملون…”
ضحكت مجددا فارتفعت تفاحتا وجنتيها دونما احمرار.. ثم تراجعت…
“يتشاركون في بعض الطباع.. وإن اختلفوا..حكاياتي معهم قصيرة لكنها متسلسلة.. بدأت متأخرا ولم انته منها بعد…”
كنت اتمعن فيها.. اتخيل الرجال يقضمون ولا يكملون.. يتركونها جريحة ولا يسعفونها.. فقط يرحلون وينسون.. وتظل هي تلعق جراحها كقطة تموء فينهرها من حولها.
“هل تشبه المرأة القطة“..؟ سألتها
ارتفعت برأسها واردفت بثقة وكأنها وجدت ضالتها.. “كثيرا”
“القطة تخدش.. جريئة وقد تباغت بعضات سريعة لكنها لا تعتدي ولا تؤذي…”
أمضينا ذاك الصباح حتى الظهيرة متجاورتين، نرتشف الحديث على مهل ككوب نعناع ساخن، كنا هادئتين رغم الماضي الذي نبشناه معا وأخرجنا رفاته وحاولنا أن نكسوه لحما من جديد.. لم يكن الأمر سهلا لكنه كان ممكنا.. كانت على كل منّا أن تحاول ترميم الذاكرة، وقبل كل شيء أن تبوح وكأنها للبحر الذي كان يتمدد بيننا وينحسر في حركة متجددة هادئة ورتيبة، يلعق بلسانه أقدامنا ويحثنا على الجهر.. ذاك الشعور بالحرية، بالبراح حد الأفق، بركلات الموج الكسول، برغاء زبده، بدغدغة نسائمه، بصوته العميق القادم من ضفاف أخرى يعلن لنا عن وصوله…
سقطت كل المقدمات أمام الأزرق كردائها، أو فلنقل أنه تم تجاوزها واختصرنا كل الطرقات وأزمنة أعمارنا.. فلحظات الحرية قليلة في حياتنا وذات أعمار قصيرة كحشائش البحر التائهة، كالقواقع الفارغة العالقة بالشاطئ، كقطرات الموج المنكسر التي استسلمت للرمال فثمل بها، وحبيبات الرمل المنمنمة التي غزاها البحر وغمرها.. كان هذا اللقاء أحدها…
كان عليّ أن أترك الشاطئ وأعود كالموجة إلى صخب الحياة.. أما هي فبقيت حيث وجدتها مستلقية على ذات الكرسي تضغط على سيجارتها، وتمسك بخناق كتابها، رغم ارتفاع الحرارة…
“عليّ أن أرحل“…
“شعرت بذلك.. لا عليكِ”
تصافحنا بابتسامتين كما التقينا.. لم تسألني إن كانت لي عودة غدا.. كانت لي عودة حتما لكن على شاطئ آخر غير الذي التقينا فيه…
(28.7.2019)
المنشور السابق
المنشور التالي
عزة المقهور
عزة كامل المقهور.
من مواليد طرابلس 1964، ولدت في بيت قانوني وأدبي فوالدها المرحوم كامل حسن المقهور محام معروف ومن روائد القصة القصيرة الليبية، ووالدتها السيدة سهيرالغرياني من أوائل الخريجات الجامعيات الليبية ومن مؤسسي مجال الخدمة الإجتماعية في ليبيا.
تخرجت عزة المقهور من كلية الحقوق جامعة بنغازي في عام 1985، ثم تحصلت على درجة الماجستير في القانون الدولي والمنظمات الدولية من جامعة السربون بباريس عام 1988. تدربت بمكتب دولي للمحاماة، ثم أسست مع والدها مكتب المقهور وشركاه عند إعادة مهنة المحاماة عام 1990.
كاتبة قصة قصيرة، وصدرت لها: "فشلوم/ قصص فبراير"، والثانية بعنوان "30 قصة من مدينتي"، الثالثة "امرأة على حافة العالم".
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك