دوماً ما اعتقدتُ أننا -في ليبيا، بنغازي تحديداً، أدبياً- سجناء زمن واحد، ويبدو انه من الصعب الخروج منه، نحن أسرى الستينيات.
لكنني وخلال سنوات من 2007 حتى 2010 استغرقتُ في كتابات محمد الأصفر، وهو لم يكن يكتب عن زمن الستينات أو ذكريات عن زمن ميت، بل كان يُقدم نصاً حياً وبكل بساطة تعيشه يومياً، بواسطته تتعرف على تفاصيل الحياة المتداولة في شوارع المدينة تلك الفترة، تتعرف على المقاهي، الدارجة المتداولة، اقتباسات من الكتب، قصص اجتماعية، الطرق الخلفية والفرعية، قصائدة حرة، اسماء أشخاص من بنغازي، اشعار تراثية، الرحلات بالحافلات، الأكلات، الأشربة، كيفية مغازلة البنات، الواقعية القذرة، لمدينة تحتوي على قدر كبير منها، على حافة التشرد، كشخص نذر نفسه لحراسة الحواري والأزقة، خيال جامح ومندفع في نصوص تبدو للوهلة الأولى، لا تحتوي خطة محددة وإنها بلا منهج، لكنك سرعان ما تجد انك تعيش حقا الواقع الليبي، وأنها تقدم حبكة حقيقة، قرأتُ مرة قصة له عن سوق الجمعة، والتي كانت سلسلة أسماء ومهن وكلمات متتالية، ومندفعة بلا أدنى رغبة في الوقوف والتطلع في من يقرا كأن القصة تقرأ نفسها أو أن الكاتب يُذكر نفسه بما شاهد، ويمليء دفتر يومياته، لذا هو لا يكتب نصاً فحسب، بل يقدم قاموساً للمدينة، بنغازي. كان أسلوباً غريباً في الكتابة، لكنني مع الوقت أدركت أنه موجود في معظم الكتابات البنغازية، إن صح التعبير.
انتهيت مؤخراً من قراءة كتاب: “في بنغازي كانت لنا أيام” للكاتب عبد السلام الزغيبي، صاحب المقالات القصيرة والمذهلة في ليبيا المستقبل، وهو من مواليد عام 1958 وقد ولد على يد قابلة يهودية، من خلال كتابات يمكن ملاحظة ان بنغازي التي يكتب عنها خاصة للغاية، متنوعة جداً، إنها مثل مدينة هدمتها طائرات قاذفة، وهو يعمل على إعادة بنائها مجدداً، بتلك المشاهد والاسماء التي يحفظها في رأسه، لذا لا يمكن تجاهل نبرة الرثاء في صفحات كتابه، الذي يمكن اعتباره قاموساً آخر من شخص مشحون بالعاطفة تجاه مدينته.
جيل الستينيات يشتعلون عاطفة ورثاء، واشتياقاً للزمن الجميل، ولكنه ليس زمناً بريئاً تماماً، فمتذ الصغر كانوا مجبرين على مشاهدة الاعدامات العلنية، والركض من المدارس حتى لا يتم القبض عليهم ويتم ارسالهم رأساً إلى الحدود الجنوبية، ليخوضوا حروب العقيد في الدولة المجاورة، والتي كانت تهدف إلى تغيير أفكار ذلك الشعب، وهو ما صارعه الكاتب في صفحة من هذا الكتاب، شيء مثل قطعة تم حفظها بعيداً عن عبث الأفكار القومية، لذا كان يهرب دوماً: “لأن الوقوع في أيديهم يعني نهاية كل أحلامنا في حياة طبيعية مثل باقي البشر”.
الفصل الأول من الكتاب يمكن اعتباره دراسة منفصلة تمتد على مدى تقريبا خمس وسبعين صفحة، تيار سردي هائل متداعي من القصص والأسماء والحواري والعادات والاحلام والذكريات والمخاوف والمآسي، القصائد الشعبية، الوطنية، القصص والشخصيات العامة، والقصص العائلية، والصراعات السياسية والمغامرات القومية العسكرية حيث نشهد “لحظات التفسخ” التي لمست البلاد واحالته إلى ما نحن عليه الآن.
الكتاب رحلة ممتعة إلى ذكرياتنا الجماعية، ويُمكن اعتباره انتصاراً للنشر الكتاب الليبي، غلاف عظيم، خامة مذهلة للورق، إخراج بارع ومريح للعين، وبين دفتيه قصص لابد أن الأغلب منا سمعها، سواء كقصص من الأباء او استعادات شعرية من قبل الكبار في سن، الحكايات من مدارس الملكية حيث تقدم الحكومة الوجبات اليومية، ويتلقى الطلاب الكثير من الضرب، ويخترعون عشرات الألعاب، أقرأ الكتاب مجدداً ببطء، لأنني فعلاً أود فهم بنغازي التي يروي عنها قصصه، الغموض والغرق في بنية الفكر لدى كُتاب هذه المدينة، أنها يمكن أن تكون ظاهرة تستحق المتابعة، لمدى ما تحتوي على ثوابت من شأنها أن تخلق، وأقولها بشكل ساخر كما يحب أدباء هذه المدينة، منظمة سرية تضم عدد من المتفانين المانحين أنفسهم لهذه المدينة.