النقد

بعضُ المحطات قبل محطات…

امرأة على حافة العالم، مجموعة القاصة عزة المقهور

(1) مقدمة:

في كتابه “خلفيات التكوين القصصي في ليبيا” يقول الأديب الراحل بشير الهاشمي إن (القصة في ليبيا هي قصة الإنسان فيها بكل همومه وشجونه وخلفياته وتطلعاته. كانت قيمةً راسخةً في ضميره وفكره، يعبّر بها عن فنه الشعبي الأصيل حين تعوزه قدرات التعبير الأخرى) وحول اهتماماتها وانشغالاتها يقول (إنّ هموم القصة القصيرة الواعية عندنا تتمثل في التعبير المباشر والرصد الصادق للإنسان ومعانقته من واقع التجربة المعاشة.. على أن هذا الواقع ليس لقمة العيش فحسب وإنما هو كل انفعالات الحياة وكل قيم الإنسان).

أما عند الحديث عن تاريخ وبواكير القصة القصيرة في ليبيا، فإن الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه يرى في كتابه “بداياتُ القصة الليبية القصيرة” أن سنة 1908م، أي أواخر العهد العثماني الثاني، هي بداية المرحلة الحديثة التي نشأت فيها القصة الليبية القصيرة ويؤكد ذلك بقوله “عرفت ليبيا بعض الصحف التي كانت تنشر ما يمكن اعتباره ارهاصات أولى للقصة القصيرة في ليبيا في شكل مقالات قصصية”.

ومن رواد القصة القصيرة في ليبيا وهبي البوري، طالب الرويعي، يوسف الدلنسي، فؤاد الكعبازي، علي مصطفى المصراتي، زعيمة الباروني، عبدالقادر بوهروس، لطفية القبائلي، نادرة عويتي، رشاد الهوني، سعيد المزوغي، يوسف الشريف، محمد الزنتاني، وكامل حسن المقهور الذي يقول عنه الأديب المصري الكبير محمود أمين العالم (أشهدُ في غير مغالاة أنّ هذا الكاتب الليبي يضيف بصنيعه الأدبي شيئاً جديداً إلى القصة العربية المعاصرة، إنه كاتبٌ حادُ النظرة، عميقُ الإحساس، قصصُه صورٌ تعبيرية ٌمركزة عن شعبهِ الليبي، أحداثُه هي أحداثُ الشعب البسيط وأبطاله هم البسطاء من أبناء الشعب).

إذاً هذا هو الأصل والمنهل والمربي وأستاذ تطريز القصة القصيرة، والوالد المعلم لابنته الأستاذة المحامية عزة كامل المقهور التي ورثت عنه مهنة المحاماة إضافة إلى فن كتابة القصة، وهي تقر بذلك وتقول بعد إصدار مجموعتها الثانية (30 قصة من مدينتي) سنة 2013م والتي كان عنوانها على غرار (14 قصة من مدينتي) الصادرة سنة 1965 لوالدها الراحل كامل حسن المقهور، تقول (ما أنا إلا امتدادٌ لوالدي وفرعٌ منه) … ولكن هل يورث الأدب؟

لا شك أن الأدب يرتكز على مقومات ذاتية تكوينية أساسها ملكة الموهبة الشخصية، تتلوها الإمكانيات الفنية اللغوية والأسلوبية، والفطنة التي تمكن المبدع من القبض على اللحظة القصصية الملهمة، لأنه كما يقول الأستاذ أمين مازن في كتابه “كلامٌ في القصة” بأن تلك اللحظة (هي التي تدفع الكاتب إلى معايشة العمل الفني، وتساعده على خلق التعاطف المطلوب من النموذج المختار لمسيرة القصة)، مع اليقين التام بأن دائرة البيئة الأسرية وفضاء المعرفة المنزلي يساعدان جداً على نموها واتساع أفقها وتسريع بزوغ شموسها.

(2) بدايات المحامية عزة كامل المقهور مع القصة

في أواخر الألفية الماضية ازدان الوسط الأدبي والقصصي على وجه الخصوص في ليبيا بميلاد قاصة وكاتبة موهوبة جديدة، تمكنت خلال سنوات قليلة من إثبات وجودها، رغم قليل من الوشوشات الهامسة التي تشكك في بعض إنتاجها القصصي، والادعاء بأنه من بقايا تركة والدها الراحل. وقد أشرتُ إلى ذلك في كتابي (ثورة فبراير في الأدب الليبي: قصص عزة كامل المقهور نموذجاً) الصادر حول قصصها ومدافعاً عنها بالقول (إنها أطلقت تلك القصص بلغة تحمل أنفاساً أنثوية، وبصماتها الأسلوبية الخاصة كامرأة ليبية تمارس دورها الطبيعي داخل الأسرة الصغيرة وخارجها في إطار العمل الاجتماعي)

وفي مثل هذا الشهر “سبتمبر” وتحديداً في اليوم السابع منه سنة 2013م احتفلت القاصة عزة كامل المقهور بمدينة طرابلس القديمة بتوقيع باكورة إنتاجها القصصي وهما مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان “فشلوم” والثانية بعنوان “30 قصة من مدينتي” وسط حشد من الأدباء والمهتمين، وقد تشرفتُ بأن قدمت خلال تلك الاحتفالية ورقتي (السلام على منصورة)، وها نحن اليوم نجدد الاحتفال هنا في تونس بفتح (الصندق الأخضر) لنثر أجمل التبريكات والتهنئة بصدور (امرأة على حافة العالم) و(بلاد الكوميكون)، فيتهادى إلينا من قعره صوتُ المعلم والمربي والأستاذ يناديناً فرحاً، طلق الوجه، باسم المحيا، مبتهجاً مسروراً يبادلنا التهاني بقوله:

(- هيا نوض.. إلبس هالكسوة، وصلّي العيد. أحسستُ بغصةِ فرحةٍ وأنا أردِّدُ كلماتِها بين أضلعي، وأقول مختنقاً بالدمع، متمتماً بشفتيَّ فوق جبينها المعروق.. – كُلُّ عَامٍ وأنتِ بِخير).

و”الصندق الأخضر” هي إحدى القصص القصيرة الجميلة للراحل كامل حسن المقهور، فكل عام والأستاذة عزة المقهور بألف خير وألف مبروك، والرحمة للمعلم الوالد وللأديب رضوان أبوشويشة الذي آمن بإرهاصات موهبتها القصصية ودفع بها إلى هذا الفضاء الإبداعي الجميل.

(3) امرأة على حافة العالم

صدرت هذه المجموعة سنة 2021م عن دار الرواد بطرابلس، وتضمنت تسعةً وعشرين قصة جاءت عناوينها كالتالي: الرصيف، معجنة اللوح، زيتون، الرجل، الكرة، ماريتا، الطابق الواحد والثلاثون، طريق السكة، قطار منتصف الليل، نزيف إثر آخر، الشكماجة، هكذا أكلتُ المانجا، قشور الكاكاوية، امرأة على حافة العالم، عند الخامسة والخمسين، جورج وأنا، بائعة الورد، صاحبة الفولكس، طباهج، تيزان، من بتلات العمر، عزوزة القايلة، توتة عمي بومدين، السباحة مع ذكر البط، قصة حب، كلاكيت العيد، دجاج عمي الطيب، رد الشيرة، يس يم.

وكما نلاحظ من عناوين القصص فإن عتبة المجموعة هي اقتباس من عنوان القصة الرابعة عشر، وهي عبارة عن بوح أنثوي بصوت الراوية يطلق ذكرياته وأمنياته وشجونه خلال حوار مع سيدة بشتونية ولدت في افغانستان وعاشت في بيشاور وتزوجت بنغالياً واستقرت في دكا ثم غادرت وصارت تشعر أن الوطن ابتعد عنها كثيراً وهي كذلك بعيدة عنه وتتواجد على حافة العالم.

وقد كتبت هذه القصص خلال ثلاثة سنوات تقريباً بداية من قصة (يس يم) بتاريخ 15 فبراير 2018م وحتى قصة (الرصيف) بتاريخ 14 مارس 2021م، ومنها قصتان كتبتا في تونس هما (عند الخامسة والخمسين، قصة قشور الكاكاوية) وستة كان مسرحها العاصمة الفرنسية باريس وهي (الطابق الواحدة والثلاثون، قطار منتصف الليل، جورج وأنا، بائعة الورد، صاحبة الفولكس، تيزان). وقصتان منها تعكس أهوال الحرب الليبية وهما (الشكماجة، طريق السكة) وقد ترجمت قصتان من هذه المجموعة إلى اللغة الانجليزية ونشرتا في مجلتين أدبيتين وهما (الرصيف، الرجل)، ووصلت مجموعة (امرأة على حافة العالم) إلى القائمة النهائية لجائزة الناشر العربي في دورتها الثالثة سنة 2021م (جائزة د. عبد العزيز المنصور).

(4) المعمارية القصصية في (امرأة على حافة العالم)

المعمارية النصية8) هو مصطلح الأديب الفرنسي “جيرار جينيت Gérard Genette” الذي يعني به البناء الهيكلي الذي نتعرف من خلاله على جنسية النصّ الإبداعي ونوعيته. فالبناء القصصي مثلاً يتأسس على عدة أركان وعناصر فنية تمنح هيكل القصة الأدبية شكلاً وهوية إبداعيةً مميزة، وكما يقول الأستاذ محمود محمد ملودة في كتابه (نقد القصة الليبية القصيرة) فإن بناء القصة يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي الموضوع والشخصيات والحوار8). وحين نتتبع هذه العناصر الثلاثة في مجموعة (امرأة على حافة العالم) نكتشف الآتي:

< أولاً: الموضوع

عكست عناوين القصص والتي هي عتباتها الأولى مواضيعها ومضامينًها الفكرية وتلبست ثوبها الفني بجدارة، وظلت معظمها برهاناً ساطعاً على أن الوطن بجميع أركانه ورموزه وعاداته وتقاليده ومدنه وتراثه، كان حاضراً بقوة أثناء الغربة في وجدان القاصة ومحركاً لشجونها وعواطفها، ومستنهضاً ذكرياتها التي استثمرتها في صياغة حكايات ارتكزت على الواقعي المعهود والحقيقي المعاش والمعروف بالنسبة لها، مع بعض نفحات خيالية زادته جمالاً وتشويقاً.

لقد زخرت (امرأة على حافة العالم) التي كتبت معظم قصصها خارج ليبيا وتحديداً في مدينة “أتوا” الكندية حيث تقيم القاصة، بالعديد من المعالم والأحداث المسجلة داخل ليبيا أو خارجها، واستطاعت أن تتنقل في ربوع الفضاء المكاني بين الشقة في (الرصيف)، وشوارع طرابلس وبيت الجدة في (معجنة اللوح) وقاعة المحكمة في (ماريتا) وأمام مبنى رئاسة الوزراء في (طريق السكة) ومحلة بلخير وحي صلاح الدين في (الشكماجة) وطريق قرقارش في (دجاج عمي الطيب) والمدرسة الثانوية في (يس يم)، وتمكنت القاصة بثراء قاموسها اللغوي استنطاق هذه الفضاءات المكانية الجامدة وبث روح الحياة فيها والتفاعل معها، ولم تكتفي بتسجيلها كعلامات صامته في نصوصها القصصية.

كما نجد أن الفضاء الفرنسي قد حظي بمساحة كبيرة مميزة في المجموعة، حيث نقلت لنا القاصة تفاصيل مكانية وحياتية أثناء دراستها وعملها ومعيشتها في باريس، ووثقتها بكل دقة على لسان الساردة أو شخصيات رمزية أخرى اتخذتها قناعاً في قصصها (الطابق الواحد والثلاثون) و(قطار منتصف الليل) و(جورج وأنا) و(بائعة الورد) و(صاحبة الفولكس) و(تيزان) و(جنينات السين)، وهي قصص تسجل محطاتٍ من سيرة شخصية تعرض خلالها فترات ومواقف حياتية، وتوثق تفاصيل ممتعة تصلح لتكون فصولاً منفردة في رواية باريسية بهوية ليبية، وأشواقٍ لا تفتقد روح الإنسان والوطن وعبق معالمه كافةً.

وقد تجنبت جميع قصص هذه المجموعة الخوض في الشأن السياسي ماعدا قصة (جورج وأنا) التي تعرفنا فيها خلال الحوارات المنزلية على النظرة العنصرية الدونية في فكر الفرنسي “جورج”، وسؤاله التهكمي (هل تعرفون الموز في بلادكم؟)، وكذلك لاعتناقه أهداف اليمين الفرنسي المتطرف، وأحاديثه عن الحرب العالمية الثانية والجزائر والزعيم الفرنسي ديجول. كما تعرفنا أيضاً على مبادئ وأنصار حركة الخضر “جرين بيس” السلمية التي تمثلها “كارولين”، وكذلك أبانت القصة الموقف السياسي للساردة/ البطلة ممثلاً في مغادرتها السكن مع العائلة الفرنسية، اعتراضاً على تصويتهم لليمين المتطرف في الانتخابات، وهذا يبرز جانباً أخلاقياً مهماً وهو الثبات على المبدأ داخل وخارج الوطن، في السر والعلن.

وتظل قصة (بائعة الورد) في محطة المترو والحافلات بباريس ثرية بروحها الإنسانية والعلاقة الحميمية التي ولدت وتوطدت ليس من خلال النبتة البنفسجية “جيرانيوم” التي تمثل دورة الحياة في أبسط صورها بذبولها وتفتحها، موتها وحياتها مجدداً، ولكن بعفوية السرد وتأثيثه بمفردات التحايا باللغة الفرنسية “بونجور”، وتفاصيل دكان الزهور والحالة الصحية الصادمة لصاحبته “آني”. وكذلك قصة (صاحبة الفولكس) التي كانت مغامرة شتوية مطرية ممتعة، استحضرت الساردة فيها قصيدة “أنشودة المطر” للشاعر العراقي “بدر شاكر السياب”، وسريالية لوحات الفنان العالمي “سالفادور دالي”، ودلالات البرتقال الرمزية (البرتقال يعني لي أن أشتم وأتذوق قطعة من الوطن.. “الليم”)

وإذا كان الأدبُ هو شهادة حقيقية عن الزمان والمكان فإن قصة (يس يم) هي برهان مؤكد على ذلك. فهذه القصة تتناول فرض التدريب العسكري على طلبة المدارس البنين والبنات في ليبيا، وما مثله ذلك التعسف من مكابدات جسدية مرهقة، وانتشار أسماء وصفات عسكرية مثل “الكردوس” و”الخرقة” و”زمال” و”فصيل” وما تبعها من سلوكيات مشينة وتدريبات بدنية قاسية، وبداية انهيار المنظومة التربوية وتراجع العملية التعليمية بإلغاء تدريس مواد الرسم والموسيقى والرياضة واستبدالها بمادة “التربية العسكرية” وحذف اسم “مدرسة” واستبدالها ب “ثكنة” وهي مفردة عسكرية تشير إلى موقع مكاني في المؤسسة الحربية.

وقد جاءت هذه القصة مقسمة إلى خمسة مقاطع هي (المدرسة، الثكنة، التدريب العسكري العام، يس يم الاستعراض، المدرسة) ونلاحظ بأنها بدأت أولاً بالمدرسة وانتهت خامساً بها، وهي إشارة دورانية مهمة للزمان في تلك المرحلة التي انتهت بعودة الحياة المدرسية إلى طبيعتها السابقة إثر إلغاء عسكرة المدارس، وإن كانت بعد عقود، رغم ما تركته من تلوث فكري في الوسط التعليمي، وأثار سلبية على الحياة المجتمعية، ولكن الساردة أبرزت في خاتمة القصة معارضةً سلبية وموقفاً رافضاً لتلك السياسة العسكرية الدعائية المزيفة حين (احتمت المدرسة بتلميذاتها هذه المرة بعد أن كنّ يحتمين بها، على الرغم من “الخضة” التي تعرضت لها، إلاّ أنها سرعان ما تماسكت واستعادت توازنها. غلب الوردي على الأخضر، فقضمت دودات القز الأوراق الخضراء بصبر وتأنٍ، وبلا هوادة أو توقف، حتى التهمتها بالكامل).

وفي قصتها (طباهج) نجد الساردة تقدم درساً متقناً في عملية الطهي والطبخ في تتابع مثير غزير بأسماء الأكلات الشهية “الكفتة، واللبنة، والمكدوس، والبركوكش” ومكوناتها الأساسية وطرق وكيفية إعدادها، مع بعض التحذيرات المبثوثة في القصة عن خطورة استعمال “الموس/السكين” (“كنت صغيرة زيك لكن ما نسمعش في الكلام.. شديت الموس وبنقطع البطاطا … زلق مني الموس وشق صبعي.. شوق دم صب.. وتنحى الظفر.. لكن الحمد لله طلع ظفر جديد لكن مشقوق..” أو لسعات الزيت المغلي المتطاير من “المقلاة” أو زيادة بعض المكونات مثل الملح أو الزيت أو غيرها، وهذه القصة ربما تعرض حقيقة مهارات الساردة المنزلية في إعداد وجبات شهية وأكلات لذيذة، أو ربما تستدعيها من براح خيالها الرحب وتمنياتها الحالمة بأن تكونها.

إن موضوعات مجموعة (امرأة على حافة العالم) يمكن تصنيفها بين الإنساني الدائم، والوطني النابض في القلب، والشخصي المتنقل من مكان لغيره وبين زمان وآخر، إلاّ أن جميعها تأسرك بثراء أفكارها، والتقاطتها العابرة الذكية التي تنسجها الكلمات ومفردات القاموس اللغوي لدى القاصة بجميع تخصصاته، وقدرتها على تشكيل عبارات عميقة مكتظة بالبهاء كما بالألم والحزن أحياناً، في فضاءات تتسربل فيها وتزدهي بألوان وأنغام راقصة، لا يمكن مقاومة سحر جاذبيتها، والسبب في ذلك -في تصوري- هو صدقية ورهافة اللغة التعبيرية وجماليات الصور الفنية الواقعية أو المتخيلة، والغايات النبيلة من هذه الكتابات، وكذلك المشترك الإنساني الذي يتدفق من وجدان القاصة في سياقات حكاياتها وشخصياتها التي تستوطن القلب بكل أريحية وبهجة، بالإضافة إلى حضور الهوية الليبية الدائم، المستوطنة أعماق الكاتبة والتي ظلت قوة وجدانية صامدة في مواجهة سعير الغربة بعيداً عن الوطن.

الكاتب (يونس الفنادي) في أمسية احتفاء السقيفة الليبية بأعمال الأديبة الليبية عزة كامل المقهور، تونس 12 سبتمبر 2022.
الكاتب (يونس الفنادي) في أمسية احتفاء السقيفة الليبية بأعمال الأديبة الليبية عزة كامل المقهور، تونس 12 سبتمبر 2022.

< ثانياً: الشخصيات:

تنوعت الشخصيات حسب المكان والزمان والأحداث، واستطاعت الكاتبة أن تهندس وترسم تفاصيل كل شخصية بدقة، وليست تقاسيم المظهر الخارجي الشكلي فحسب، بل غاصت بكلماتها لتنقل لنا مشاعر كل شخصية وتفاعلها مع المكان والحدث، مما جعلها ترتسم وتترسخ في الذهن سواء من خلال الملابس التي تختارها لها، أو أسلوبها ومفردات كلماتها، أو حتى تفرعها إلى شخصيات تالية أخرى مثلما في قصتها (عزوزة القايلة) التي جعلت فكرة التخويف تنتقل جدياً وتستمر بين ثلاثة أجيال، الجدة والساردة وابنتها “رند”، أثناء الإشارة إلى “العصفورة”، كما صوّرت لنا تعاطي كل شخصية مع فكرة التخويف من “سلال القلوب” وتفاعلها الذاتي. أما شخصياتها في قصة “كلاكيت العيد” فنجدها فرحة وانبساطية وإيجابية في نقل خبراتها مع العجين والفطيرة و”حلاوات العيد” الكعك والمقروض والغريبة مما أضفى على القصة فسحة من المسرة والابتهاج والإمتاع.

وعند نعت القاصةُ شخصياتِها ب “عمي خليفة” و”عمي بومدين” و”عمي رمضان” و”خالتي زهرة” فهي لا توطن تلك النعوت مجردة، بل تعيدنا إلى منهج تأديبي اجتماعي كان سائداً في بيئتنا الاجتماعية وهو توقير الصغير للكبير ضمن منظومة الأخلاق الأسرية التي عهدناها وتربينا عليها خلال تلك الأزمنة، فهم ليسوا أعماماً أو خالاتٍ من الناحية البيولوجية أو القرابة العائلية، بل هم جيران أو عابرون يكبروننا بالسن، ولكن احترماً لهم – أياً كانوا- كنا نناديهم ونخاطبهم بإقران أسمائهم بعمي أو خالتي. ولا شك بأن هذا التوطين هو وظيفة أخرى للأدب ومن بينها هذه القصص لتذكير الجيل الحالي بتلك السلوكيات الفاضلة التي بكل أسف قل حضورها في مجتمعنا حالياً.

< ثالثاً: الحوار

في كثير من قصص المجموعة ظهر الحوار بشقيه المباشر أي المستقل المتعامد بين الشخصيات، وغير المباشر أو السردي المدمج والمبثوث في ثنايا النص، والذي يراه كثيرون أنه الأنسب للقصة القصيرة التي لا تحتمل مقاطع طويلة. كما تضمنت بعض القصص حوار المونولوج الداخلي الذي يدور بين الشخصية وذاتها المتخيلة، أو غيرها المتفاعلة فيها بصمتٍ وخفاء.

وقد برز الحوار في مجموعة “امرأة على حافة العالم” ثرياً بالمفردات الفرنسية والأجنبية والفصحى واللهجة الليبية المحلية بشكل متجانس في متون القصص، وتكاثفت جميعها لتأدية الدور الفني الأساسي للحوار، وهو المساهمة في توضيح فكرة ورسالة القصة، وإضفاء البهجة والتشويق، وتكسير رتابة السرد، وتحفيز المتلقي لصناعة أخيلة الشخصيات المتخاطبة أو المتحاورة وتصورها في ذهنه. واستطاعت الكاتبة اختيار المفردات الحوارية المناسبة لكل شخصية وفق مقاسها الفكري ومستواها الاجتماعي ودورها في القصة، ولذلك نجد تفاوتاً في مساحة الحوار بين الطويل والقصير حسب الشخصية وسياق الحدث القصصي، مثلما نلاحظ تفاوتاً تعبيرياً واضحاً في النفس السردي لدى القاصة بين قصة وأخرى، حيث نجد قصة (هكذا أكلتُ المانجا) تتكون من صفحة واحدة وهي أقصر قصص المجموعة بينما غيرها حاز صفحات كثيرة.

والحوار لا يكتفي بإظهار المعنى المباشر في سياق الكلام، بل قد يحيل المتلقي إلى جوانب أخرى تخص الحدث أو المكان أو الساردة أو غيرها، فيحرك مفاتيح فكره للتدبر والغوص بعيداً للبحث عن جرعة معلومات إضافية، انطلاقاً من كلمة واحدة تكون خيطاً يمسكه لتتبع التعالق وكشفه، مثلما دار بين الساردة والممرضة القابلة بالمستشفى حين سألتها:

(“هل تعملين؟”

“نعم محامية”

توقفت القابلة لوهلة وبدى على وجهها تفكيرٌ عميقٌ..

“تقيمين في “سوست”.. تعملين محامية.. وجنسيتك..”

صمتت، ثم بعينين ملؤهما الاستغرابُ، وبصوتٍ عالٍ نطقت..

“إذاً أنتِ تعملين في القضية الشهيرة في زايست؟)

فيا تُرى ما هي القضية الشهيرة في مدينة “زايست” الهولندية؟ وهل هي قضية “لوكربي” التي اتهمت فيها ليبيا بتفجير طائرة شركة البانام المدنية الأمريكية فوق بلدة “لوكربي” الأسكتلندية في 21 ديسمبر 1988م وأدت إلى فرض مجلس الأمن حصاراً أممياً على ليبيا؟

ثم إذا علمنا بأن القاصة المحامية عزة كامل المقهور كانت عضواً بفريق الدفاع عن ليبيا في هذه القضية مع والدها الراحل، فهل شخصية البطلة في قصة (نزيف إثر آخر) حقيقية تتمثل في القاصة نفسها، وتحكي فيها تجربتها الشخصية؟ أم يا تُرى هي زميلة أخرى تترافع في نفس القضية؟

وهكذا يستطيع الحوار أن يفتح عدة مسارب فرعية أخرى تضيف للقصة أبعاداً معرفية وجمالية ممتعة، تؤكد أهميته في العمل السردي وقدرته على بعث تشويق وجاذبية مهمة للقصة والقاص والقارئ معاً.

وإن كانت هذه العناصر الثلاثة الأساسية للقصة (الموضوع، الشخصيات، الحوار) التي تم تناولها هنا، فإنه لا يمكن التقليل من بعض الجوانب الفنية الأخرى في (امرأة على حافة العالم) مثل التقنيات السردية التي وظفتها الكاتبة باستخدام صوت الراوي في السرد، أو استعادة الذكريات الماضوية عبر تقنية “الفلاش باك” وتوظيفها المتقن لربط الماضي بالحاضر مثل استذكار قصر “بالبو” في قصة (طريق السكة)، وكذلك فسحات الخيال الخلابة التي بانت في قصص عديدة منحتها زينة شكلية وفاعلية في مضمونها السردي، أو الوصف القصصي الذي كان ثرياً في عباراته اللغوية، وبليغاً في تعبيره الدقيق، وقدرته على نقل الموصوف إلى ذهن القارئ بكل سلاسة وأريحية وتشويق، ارتكز في ذلك على لغة شاعرية رقيقة متمكنة.

أما التعالق مع الأجناس الإبداعية الأخرى خاصة الأغنية فهو يحتاج إلى وقفة مستقلة، لأن حضورها هو تأكيد للهوية الفنية للنص الإبداعي، وتصريح بمستوى الذائقة الفنية التي تنتمي إليها القاصة التي تجيد العزف على آلة “البيانو”، وتملك حسّاً موسيقياً مرهفاً. إن عدة قصص من مجموعة (امرأة على حافة العالم) استضافت مقاطع قصيرة من نوبات المالوف الأندلسية الليبية، وأغاني المرسكاوي التراثية، والأغاني الليبية الحديثة، وأغاني الزمزامات، وأم كلثوم وغيرها، بل قصة (رد الشيرة) استهلتها القاصة بمقطع هذه الأغنية الليبية العريقة والتي يقول مطلعها (بنشاورك يا قلب رد الشيرة.. عللي جفي بعد المحبة خيره)، وكذلك قصة (طريق السكة) التي منذ سطرها الأول يطالعنا صوت الفنانة تونس مفتاح صادحاً (نسيتك يا لبعيد.. انظاري دارن صوب جديد/ نسيتك يالبعيد خلاص)، وكذلك أغنية (معيدين وديما عيد معيدين) للفنان أحمد سامي، والأغنية العربية كذلك ممثلة في السيدة أم كلثوم (خذ عمري كله.. بس النهارده خليني أعيش) كما وردت بجزئية “الست في مبنى البركة” من قصة (من تبلات العمر)، وغيرها من التضمينات الفنية الأخرى كأسماء الفنانين والمطربين وعناوين الأفلام السينمائية، والتي تفتح شبابيك القصة القصيرة على براحات وجوانب أخرى متعددة تتماشى مع سياقاتها.

< كرة المقهور بين زمنين:

قصة (الكرة) المنشورة ضمن مجموعة (امرأة على حافة العالم) كتبتها القاصة عزة المقهور سنة 2020م تقليداً للراحل والدها الذي نشر قصة بنفس العنوان (الكرة) في مجموعته (14 قصة من مدينتي) الصادرة سنة 1965م، وعند عقد مقارنة بين قصتي الزمنين المتباعدين نكتشف الآتي:

1- القصتان بنفس العنوان “الكرة”، وهي مفردة تحيل دلالة إلى لعبة رياضية، قد تكون قدماً أو طائرة أو تنساً أو غيرها.

2- المسافة الزمنية بين القصتين خمسة وخمسون سنة (1965-2020).

3- الكرة في قصة الأب تشير إلى “كرة القدم” وهي لعبة جماعية فيها احتكاك مباشر مع لاعبين آخرين، بينما قصة الابنة فهي الكرة الخضراء “كرة المضرب أو التنس الأرضي” وهي لعبة فردية لا يوجد فيها احتكاك مباشر مع الخصم.

4- الابنة القاصة اقتبست من قصة والدها حرفياً أربعة مقاطع، وأسكنتها متن قصتها واعتبرت ذلك “مزيجاً”، مما جعلها تبدو أطول نفساً من قصة والدها بفارق 533 كلمة، (قصتها 1462 كلمة)، بينما (قصة الوالد 929 كلمة).

5- ظهرت القصتان بنفس الخاتمة وهي ما كتبه الوالد الراحل، واقتبستها القاصة الابنة.

6- قصة المقهور الأب يظهر الطفل “عبدالله” بطل القصة وشخصيتها الرئيسية الأولى، بينما ظهر “عبدالله” في قصة الابنة كشخصية ثانية بجانب الساردة وزميلتها.

7- قصة الأب فضائها المكاني منطقة “الظهرة” بينما قصة الأبنة فمسرحها المكاني “المدينة الرياضية” بقرجي بطرابلس.

8- الأب استعمل صوت الراوي وضمير الغائب في السرد، بينما الابنة استعملت صوت المتكلم المفرد والمثنى في القص.

9- الوالد في قصته يسرد مشاهد دون أن يكون شخصيةً فيها، بينما الابنة مثلت اللاعبة والشخصية الرئيسية فيها.

10- قصة المقهور الابنة تبرز تعاطفاً مع الماضي، بينما قصة الأب تسجل واقعة قصصية ذات مغزى إنساني واجتماعي.

إن قصة (الكرة) دليل يؤكد استمرارية حضور الوالد المعلم في نص الابنة، ومحاولة تتبع خطوات مسيرته، والنسج على نهجه هو تجريبٌ تمارسه امتداداً لمسيرته، ولعله منافسة لغايات نبيلة أخرى، ولكننا نستنتج من القصتين أن التباينات الشكلية والموضوعية في كليهما تؤكد الاختلاف البين في أسلوب القص بين القاص الراحل وابنته، وهو ما يجعل نصوصها متفردة إبداعياً ومختلفة عمّا سطره والدها بلغته المميزة والتقاطاته الاجتماعية المبهرة، وربما أرادت القاصة بكتابة هذه القصة نيل شهادة التميز واعتماد الهوية الخاصة، وضحد هواجس الشكوك وتفنيد بأن ما تكتبه من تركة الوالد رحمه الله!!

> الخاتمة:

في كتابه (القصة القصيرة النسائية في ليبيا) يقول الدكتور فوزي الحداد (المرأة عندما تتصدى لفعل الكتابة، على الرغم من مشاركتها مع الرجل في هذا المناخ العام، فإنها تكشف أن لذاتها الفردية، وصفاً اعتبارياً مغايراً، ولهذا، جاء نصها القصصي امتداداً وجودياً لذاتها، وتكثيفاً للأبعاد الحضارية والثقافية والاجتماعية، التي نعيشها، وهو بذا وسيلة التعبير المتاحة أمام الذات الكاتبة) وإضافة لذلك يمكن اعتباره تحدياً وتنافساً شريفاً وبرهاناً على إثبات قدراتها الفكرية والفنية لتناول جوانب مهمة من حياتنا سواء بحسها الشخصي الرفيع وروحها الأنثوية المميزة، أو التعاطي مع الأحداث من زاوية معينة مختلفة تختارها بكل فطنة ودهاء نسوي.

إن (امرأة على حافة العالم) تمثل نقلة متقدمة في فن كتابة القصة لدى عزة كامل المقهور، وإبرازاً لخصوصية تقنياتها السردية التي صارت هوية واضحة لنصوصها بكل ما تحمله من استحضار لأعلام وشخصيات، وتمازج بين تواريخ وأحداث وربطها مع الحاضر بكل ظروفه وملابساته. كما أن قصصها القصيرة من خلال ما تتضمنه من شخصيات وذكريات وأحداث تعد توثيقاً سردياً للمكان والزمان بلغة أدبية مكتنزة بالحقائق المزدانة بنفحات خيال لا تنقص من واقعيتها بل تزيدها بريقاً ووثوقاً.

وأخيراً فإن هذه القصص بعد أن تتخلص من الأخطاء النحوية البسيطة التي وردت بها نتيجة الشغف بسرعة النشر والإصدار، تصلح في شكلها الفني ونفسها السردي ومواضيعها المتعلقة بالذات الكاتبة لأن تكون رواية سيرية بامتياز لما تكتنزه من بانوراما شخصية متداخلة في أحداثها، ومتماسكة في بنيانها، وجميلة في أسلوب عرضها الشيق. وطالما أن الوالد الراحل كامل حسن المقهور قد أصدر سيرته في كتابه (محطات: سيرة شبه ذاتية) فهذا قد يحفز القاصة الابنة على التشبه به، والسير على دربه الإبداعي، مستمدة من إيجابيات محطات مشواره كل ما يعينها على ذلك، لتقدم إثراء روائياً جديداً يضيف إلى رصيدها القصصي الإبداعي المتميز ويوثق محطاتها الخاصة الممتعة.


هوامش:

(*) ورقة الكاتب التي قدمها في أمسية احتفاء السقيفة الليبية بأعمال الأديبة الليبية عزة كامل المقهور، تونس 12 سبتمبر 2022.

(1) خلفيات التكوين القصصي في ليبيا، بشير الهاشمي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1984، ص 23.

(2) المصدر السابق، ص 24.

(3) بدايات القصة الليبية القصيرة، د. إبراهيم أحمد الفقيه، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، 1985م، ص 8.

(4) دراسات في الأدب، مجموعة كتاب، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1986م، ص8.

(5) كلام في القصة، أمين مازن، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1985م، ص45.

(6) ثورة فبراير في الأدب الليبي: قصص عزة كامل المقهور نموذجاً، يونس شعبان الفنادي، وزارة الثقافة والمجتمع المدني، طرابلس، ط1، 2013م، ص 8.

(7) كامل حسن المقهور، 14 قصة من مدينتي، قصص قصيرة، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، الطبعة الثانية، 1978م، ص 144-145.

[8] امرأة على حافة العالم، قصص، عزة كامل المقهور، دار الرواد للنشر، طرابلس، ط1، 2021م.

(9) انظر: مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، ترجمة: عبد الرحمن أيوب، دار الشئون الثقافية العامة آفاق عربية، بغداد، العراق.

(10) نقد القصة الليبية القصيرة، محمود محمد ملودة، منشورات جامعة مصرته، ط1، 2013م، ص 77.

(11) امرأة على حافة العالم، ص 99.

(12) امرأة على حافة العالم، ص 155.

(12) امرأة على حافة العالم، ص 109.

(13) امرأة على حافة العالم، ص 57.

(14) القصة القصيرة النسائية في ليبيا، فوزي الحداد، دار الرواد للنشر، طرابلس، ط1، 2019م، ص 178.

(15) محطات: سيرة شبه ذاتية، كامل حسن المقهور، دار الرواد للنشر، طرابلس، ط1، 1995م.

مقالات ذات علاقة

قراءة في ديوان تهاني دربي هكذا أنا

محمد الأصفر

الأيروسية في القصيدة السردية

المشرف العام

البحث عن إصغاء لشهرزاد

المشرف العام

اترك تعليق