تهيأت لبداية النهار، تعطرت بالليدي بلو، وارتدت بلوزتها الحمراء بخطوطها السوداء الرفيعة، وازدهرت بتنورتها السوداء المخملية المذهلة، وقبل أن تغادر حجرتها تأملت مرآتها:
ـــــ مذهلة كعادتك، ولكن، من أين لك هذه القسوة يا جمانة؟
لم تجب، وكعادتها اكتفت بابتسامةٍ سحرت بها المرآة، ثم خرجت إلى حيث مقر عملها والأفكار تدور بلا توقف :
ـــــ سائد يطلبني للزواج، وذلك الحزين لا يكف عن عشقي بدون أملٍ في خاتم خطوبةٍ يجمعني به، والبقية تراني وجبة كنتاكي تنتهي بحالة شبع أنانية . أين أنا من كل هذا ؟
مرت بسيارتها في شوارع مزدحمة بأنصاف ذئاب :
ــــ أنا مخلوقة عملية، “كائن براجماتي” كما يقولون في التحليلات السياسية البلهاء، روبوت فاتن، لا أدري لماذا لم أشعر نحوك ولو بالقليل من العشق أيها الحزين ؟
توقفت عند الإشارة الحمراء وهي تجيب عن سؤالها :
ـــــ ربما لأنك قدمت لي عشقك على طبقٍ من ذهب، خطأ فادح أن تقدم لأنثى كل ما تشتهيه دفعةً واحدة، عندها سوف تفقد الحافز، الحافز هو وقود محركاتنا أيها الحزين .
أشارت لها الخضراء فانطلقت ..
وصلت إلى حيث مكتبها وتوجهت إلى ذلك الركن الآمن الذي اعتادت أن تلتقي فيه بصديقات الزمن الجميل، وفي كل خطوةٍ كانت تتذكر مشهداً مر بها أو مرت هي به :
ـــ كان أبلهاً بامتياز، يحيني لأنه “ينتمي إلى ملامح وجهي”، لأني “أملأ قلمه بالحبر”، كما كان يقول لي : ” أنت الوحيدة التي أحببتها والوحيدة التي لم تحبني”، كان نوعاً منقرضاً من مردة المصابيح، ربما لهذا كان عليه أن ينقرض مثلما فعلوا.
كانت الذكريات القديمة تملأ المكان الواسع، وكلما خطت إلى الأمام كانت تمر بيومٍ مضى :
ــــ هنا، أهداني قلماً أزرقاً بجناح طاووس، وهناك، ورقةً صفراء ملأها بكلماته العاشقات، وعلى أعلى هذا الممر رمى في نافورة المياه بكوبٍ من زجاج، فقط لكي يهمس الكوب باسمي.
المسكين، كان يتفنن في اختيار ما يليق بي، لكني كنت أكبر من فضاءه المحدود، إذا كان هو نيزك مضيء، فأنا سماءٌ شاسعة، وفي العادة لا تنشغل السماء بنيزك إلا كما يحدث في لمح البصر.
نفضت غبار ذكرياته عن رأسها، وتجهزت لدخول القسم لكن أحدهم كان ينتظرها بفارغ الصبر، وبمرحٍ متكبر همس لها :
ــــ مرحبا استاذة ، مرحبا يا جميلة الجميلات، “سائد” يتشرف بك في مطلع نهارك، ألم تسمعي باسمي من قبل ؟
فاجأها الرجل، فهمست باسمه في ردة فعل غير محسوبة :
ـــ سائد ؟ ملك الدولار وسيد العقارات ؟ مللتُ بطاقة التعريف هذه، أهلا بك، هل من خدمة أملك أن أقدمها لك في هذا الصباح ؟
استجمع شتات شجاعته، وملأ صدره برائحة أوراق العملة وصكوك المصارف المتخمة بالأرصدة، وهمس لها بدوره :
ــــ استاذة، أنا واضح ومباشر وصريح، لا أحب اللف والدوران. لست رومانسياً كذلك الأبله الحزين، إني أطلب منك الزواج. أو كما يقولون أطلب يدك، في الواقع هم يقولون ذلك، ولكن أنا أقول لك الآن إني لا أطلب يدك فقط، أنا أطلب عينيك وجسدك وأنوثتك أيضاً ، طبعاً مع يدك . هههههههههههههه .
ربما أخطأ في ختام جملته، ربما هي طريقته الفجة في اقتحام المواضيع، أو ربما كانت ضحكته تلك هي التي استفزتها وأشعرتها بأن في طلبه ما يوحي برغبةٍ في شراء جارية من سوق نخاسة، فكان ردها حاسماً كروحها :
ـــ سيد سائد، اذهب في حال سبيلك، وابتلع عملتك وعقاراتك ومناصبك، وغادر الآن، هذا ليس سوق نخاسة، وأنا لست جارية للبيع .
غادر “سائد” ..
كان صدره ملعباً لخيول غضبٍ تحرث داخله بسنابكها، لكن الغريب أن سخطه لم يكن منصباً على “جمانة”، بل كان موجهاً كشرار لهبٍ إلى “حزين” ، ذلك الذي لم يشهد الموقف، ولم يكن موجوداً ساعة الحوار المخيب، لكن حقداً اسطورياً عارماً كان يستبد بسائد في تلك اللحظة بالذات :
ـــ هذا الكئيب ذو العينين الملونتين كلعب الأطفال المضحكة. ذلك الذي خسر جميع معاركه معي، “باسمة” التي قتلها المرض. وأمه التي رحلت، وأبيه بعدها، ثم ابن أخيه الرائع، ثم صديق عمره، دائماً كانت أنواره تنطفيء بينما لا يخبو لي نور، أنا الذي يزداد راتبي الشهري كل يوم، بينما أراقب راتبه الذي شبع موتاً بداعي الإيقاف، وأنا الذي تتلظى ألسنة لهبي كما تفعل رؤوس الأفاعي الأسطورية، بينما أتسلى برؤية حيويته تموت كل يوم بسبب طغيان هيمنة الفساد المقدس، وكآبته التي تزيد لأنه عاجز ضعيف الحيلة أمام سطوة أباطرة المال الحرام الذي باركه الجميع، وصمته الذي يزدهر كل يوم في فمه، وفمه المغلق خجلاً أو خوفاً أو خيبة أمل.
ذلك التافه بلا أمل في شأنٍ رفيع ..المتراجع دائماً أمام زحف وتغول الرجال الحقيقيين أمثالي على دولة الجهلة الميامين.
هذا الحزين المرتبك، هذا المتردد، ينال اهتمام “جمانة” لسنوات طويلة، وأنا، لا أفعل؟ لماذا خلق الله الملايين إذن ؟
امتلأت أوداجه بنفسٍ غريب، مزيج من هواءٍ فاسد ومشاعر مضطربة، ونفث كل هذا في فضاءٍ بلا حدود، ثم عبر إلى حيث سيارته الفخمة الفارهة المرفهة، وبعد أن استوى على كرسي الجلد الطبيعي الفاخر انطلق بآلته الثمينة يجوب دنياه التي بات يشعر كل يومٍ بأنها أصبحت ملك يمينٍ له ولأمثاله من جبابرة عصر ما بعد الحرب :
ـــ لنا هذه المدن، هذه الشوارع ملعبنا الفسيح، وهذه الوجوه التي نعبر بها هي وجوه ضحايانا التي نمارس علي ملامحها نزوات الغرور ومسلك القسوة.
نحن سادة هذا العصر، نحن الذين نحتكر الأسواق والمستهلكين والبضائع، ونصنع الرجال على أعيينا الفارغة، ونهدم صوامع الشرف على رؤوس ساكنيها من دراويش القيم القديمة .
ملأته هذه الأفكار بالزهو، فابتسم لبرهة متأملاً وجهه المتورد عافيةً وصحةً ونضارةً ولؤماً وجسارة، لكن ملامح وجه “جمانة” أفسدت منام يقظته هذا، فعاد إلى تجهمه ضارباً بقبضة يده مقود سيارته المندفعة، صارخاً بصوت جهوري هذه المرة :
ــــ هذا الحزين المرتبك، هذا المتردد، ينال اهتمام “جمانة” لسنوات طويلة، وأنا، لا أفعل؟ لماذا خلق الله الملايين إذن؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من روايتي الجديدة ” الكائنات” .