من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
قصة

بائعة الورد

إلى الصديقة فائقة غنيم………………..

من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
من أعمال التشكيلية سعاد اللبة

كان عليّ، في طريق عودتي من مدرسة تعليم اللغة الفرنسية إلى مقر عملي بمكتب المحاماة، أن أتنقل بين ثلاث محطات للمترو.. كان الأمر محبطاً وشاقاً لي.. عشت يدغدغ جفني النور كل صباح لأفيق، يلفحني صهد الشمس المنبعث من السماء في النهارات، وأغير جلدي كل صيف، بعد أن يملحه البحر، وفي غيابها أغيب في بيت “حناي” بسوق الجمعة، وأتحول إلى قطة متكورة الجسد على مندار تنتظر صياح ديك الفجر.
نهارية أنا، من تلك البقعة الجغرافية المغلفة بالنور، لا أعترف بالظلام إلا ليمضي بي ويسلمني من جديد إلى النور. لذلك رفضت أن أقضي ساعات من نهاري بين أنفاق المترو، أتنفس رائحته الرطبة، وتتسلل إلى أنفي غصبا عني روائح أخرى كريهة مصدرها بقع على حواشي الحائط السفلية. حتى الموسيقى الصادحة من بعض أركانه لا تستوقفني. يضايقني زحام البشر ولامبالاتهم وأنانيتهم في الوصول إلى العربة، أو التسابق نحو كرسي قذر جلس عليه ملايين البشر ثم هجروه.
لذا، كدت أن أترك المدرسة التي تقع في أطراف باريس رغم جودتها. وحين بحت لمدرستي، التي نشأ بيني وبينها حديث موشى بالمودة عن نفوري من المواصلات، ابتسمت وقالت لي “لهذا السبب سأرحل عن باريس إلى اليونان…”. ثم ضحكت بصوت عال، واستطردت وهي تهم بالمغادرة “خذي الباص.. بطئ كالسلحفاة.. لكنه يصل”.
بحثت عن الطريق الأمثل للوصول بالحافلة، فوجدت أن عليّ أن آخذ المترو لمحطة قريبة، ثم أخرج من النفق إلى النور لركوب الحافلة لحوالي نصف الساعة، حتى محطة قريبة من مقر عملي. كان الأمر مثالياً…
أسارع الخطى بيدي حقيبتي شبه الفارغة إلا من كراسة وكتاب وبعض الأقلام، لأصعد الدرجات سريعاً. استقبل النور، أقف بمحاذاة عمود المحطة وأنتظر الحافلة، وهي تهتز بتثاقل نحوي، تتنفس بصوت عال حين تفتح أبوابها، أبرز للسائق الكارت البرتقالي، يومئ لي برأسه، اختار مجلسي في اتجاه الطريق.. وأحلم.
تقف شارة محطة الحافلات أمام محل للورود، لكن وجهتها الشارع الواسع.. لذا لم أره، حتى التفت ذات يوم مطير أبحث عن مأمن من وشوشاته المزعجة، فرأيته، يمتد على ناصية شارعين، بغطاء أزرق، تتناثر أمامه بشكل شبه فوضوي وطبيعي أصص بأحجام وألوان متنوعة، تحتضن ورود ونباتات بدت لي وحيدة في أصصها، لكنها يانعة مثلي.. اقتربت ووقفت أمامها مترددة في دخول المحل.. فأنا لن أشتري.
وهكذا في رحلة عودتي اليومية، لم أعد أتوق للنور فحسب وأنا ارتقي درجات السلم نحو محطة الحافلات، بل للاقتراب من المحل، وحتى التجول في مساحتة الخارجية، أداعب بعض النباتات، وأحشر أنفي في بعض الزهور، وأقرأ أسماءها وطرق العناية بها، لحين رؤية الحافلة تقترب من المحطة فأهرع اليها متسارعة الانفاس.
وبينما كنت في إحدى جولاتي بين الخضار وزهو الألوان وعبق الروائح، سمعت صوتاً خفيضاً ناعماً…
“هل أعجبك شيء؟”
التفتت، كان الصوت يمثلها، نحيفة البنية، متوسطة القامة أقرب إلى القصر، شقراء بشعر خفيف يتهدل على كتفيها، ترتدي سروالاً وتضع قميصاً، وتلتحف بمريلة زرقاء، بها جيبان، أحدهما واسع والآخر ضيق، يحملان مقصات ومعدات أخرى بعضها يتدلى ويكاد يسقط..
“بنجور”.
ردت بثقة وهي تتكئ على الحروف
“بنجور”.
“لا لا أنا هنا للمشاهدة فقط”
“آه.. المشاهدة اليومية الاعتيادية!” ثم ضحكت.
تلعثمت، وبدا علىّ الحرج.. فاستطردت “أنا هنا طوال اليوم، لو احتجتِ أي شيء أعلميني”، ثم التفتت برشاقة ورحلت إلى الداخل.
غبت يومين عن المحل، بعد أن نال مني الحرج.. لكنني في اليوم الثالث، قررت الذهاب، واقتناء نبتة.
هذه المرة دخلت إلى الدكان الذي كان يعج بشتلات نباتات الظل، منها المعلق ومنها المكدس على أرفف متحركة أو ثابتة، إضافة إلى أظرف البذور. كانت هناك أيضا أشجار تقف بغرور وزهو. تمتد على أحد أركانه طاولة خشبية مستطيلة، عليها أوراق وخيوط ملونة، وقطع بلاستيكية شفافة ومقص، بينما يوجد أسفل الطاولة سطل كبير مليء بالماء وكوز ماء يمد أنفه فيه. لمحت السيدة تجلس على كرسي خشبي عال ومستدير. تراجعت سريعا نحو الساحة الأمامية، كانت بالنسبة إلى أجمل في فوضويتها وباقات الورد المطلة من أغلفتها المنغمسة في أسطل مليئة بالماء تنتظر المارة.. لم أشتر شيئاً، وعدت سريعاً إلى المحطة وأنا أرى الحافلة تقترب…
“من أي بلد أنت”.. هكذا اقتحمت السيدة خلوتي في محلها، بعد أن أرهقتها بزياراتي اليومية وخروجي خالية الوفاض..كانت تعد أصيصاً لنبتة صغيرة، تتكئ بإحدى ركبتيها على الأرض منهمكة بيديها بكل قوة…
“ناوليني الجيرانيوم من فضلك”.. دون أن تنظر اليّ…
“النبتة البنفسجية المزهرة”…
وجدتها غير بعيدة عنها، فناولتها إياها.. نزعتها من مخدعها بعناية وثبتتها في الإصيص وانهالت عليها بالتراب ثم ضغطت عليه من حولها.
“هذه النبتة جميلة ومبهجة وذات رائحة زكية.. إن كنت تقيمين في غرفة فهي مناسبة لك..”
“كم سعرها”؟
“عشرة فرنكات”
لأول مرة أرى يديها.. كانتا معفرتين بالتراب.. نفضتهما، ثم مسحتهما على المريلة وهي تضحك.
“خشنتان لكنني أحبهما هكذا.. أشعر بالتربة الرطبة”. مدت لي الإصيص وقالت “ضعي إصبعك.. لا أعلم لماذا ننفر من لمس التراب.. لا أحب دفن يدي في القفاز”…
حينها شعرت بشعورها.. كانت رسالة تلقفتها بقلبي.. هذه السيدة نهارية مثلي، ترفض الزج بيديها في الظلام.
“يمكنني أن أعطيك النبتة مجانا.. لكنها تستحق بدلا نقديا ما رأيك.. فليكن خمسة فرنكات”.
ابتسمت “أوه اشكرك كثيرا”.
استقرت النبتة البنفسجية على طاولتي في غرفتي، رائحتها نفاذة وغاية في الجمال أشبه برائحة الحلوى، تتسلق أزهارها الصغيرة أوراقها الخضراء حتى تغطيها…
في زيارتي اللاحقة، سألت عن نبتتي، ثم قالت لي: “النبتة التي اشتريتها اسمها جيرانيوم.. عبارة عن بصيلة، تنبت ورقاً أخضر، تتسلق عليه الأزهار الصغيرة ذات الرائحة الأخاذة والقوية كما تعلمين.. لا تسقيها كثيراً. هي موسمية، فإن ظهرت لك أنها ماتت، لا تصدقيها” ضحكت كثيرا.. فضحكت معها “ستحيا مجدداً في موسمها فحافظي عليها”.
“حسنا سأفعل”.
كانت منهمكة في قص أغصان نبتة شوكبة، “أه لقد نالت مني…”.
“هل أناولك قفازا؟”
حركت رأسها بقوة وهي تمص إصبعها: “لا لا ألسنا نهاريات كما قلت لي.. لن أودع أصابعي في الظلام”.
كنت قد لاحظت ساعتها ذات المعصم البلاستيكي الأسود “هل تريدين معرفة الساعة؟”
“لا لا”
“سواتش عادية.. حين تعيشين وسط الورود كل جماد يصبح غير ذي قيمة”.
مسحت إصبعها بالمريلة، وهي تحكي بعفوية: “كنت مديرة لشركة تسويق كبرى. أعيش في السحاب، لكن سجينة الطائرات.. أسافر لبلدان عديدة ولا أراها. أمضي رحلتي في الفنادق الفخمة ومقار الشركات.. أنت طالبة أليس كذلك.؟”
“نعم مازلت أدرس اللغة”، اخفيت عنها متعمدة أنني أعمل بمكتب محاماة إلى جانب الدراسة.
“ستعلمك الحياة الكثير.. ليس سهلاً أن نصل إلى ما وصلت إليه..”. رفعت راحة يدها أعلى صدرها وكأنها تحث نفسها على التنفس”، ها أنا ذي أغلف يدي بالتراب، وأرش السماد، وأجرح جلدي، وأغسل يدي بالماء دون صابون، وأحك أظافري بالفرشاة لإزالة ما يعلق بها.. أنا الآن سعيدة ولم أكن كذلك”.. “أخذ ذلك مني الكثير من العمر.. والصحة”.
لم أستوعب ما كانت تقوله، لا لقصور في اللغة، ولكن لأسباب أخرى. ولم يكن يهمني كثيرا ما تقول.. كانت بالنسبة لي محطة جميلة أقف عندها، ثم أرحل وأنساها بقية يومي، ولا أتذكرها إلا وأنا بصدد الخروج من النفق.
خرجت باكرا في أحد الأيام، فوصلت على غير موعدي، ولم أجدها في دكانها، تسلقت الحافلة واستسلمت للفرجة، كانت دورة اللغة تشارف على الانتهاء. وفي اليوم التالي وجدتها.. ابتسمت لي فيما تضع بعض النقود في جيبها الأمامي، بعد أن سلمت أحد زبائنها باقة ورد أحمر قان وهي تودعه: “إلى اللقاء.. تمتع بيومك وحبك ياسيدي”.
“مررت بالأمس ولم أجدك”.
“آه جرعة الكيماوي اللعين. كلما أغمضت عيني وأنا أتناوله تذكرت ورودي… يخف ألمي…”
“انظري”.. أمسكت بشعرها.. “يخف كثيرا.. سيقع قريبا. لا يهم سأضع إيشارب”.
“أنا سعيدة لأنني تركت مهنتي وافتتحت دكاني قبل إصابتي…”
شعرت فجأة بالدوار، وامتلأ صدري بالظلام، وكأنني داخل نفق يؤدي إلى آخر.. لم أستوعب كل ما بثتني إياه من أخبار.. كنت ما أزال في بداية طريقي أتلمسه بوضوح، وكانت هي تدير دفة الحديث بعمق لا أتفهمه، لا قصوراً في اللغة، وقد بلغت فيها مبلغا، ولكن الحياة ما زالت رفيقة بي، ولم تنضجني على نارها بعد.
ومنذ ذلك اليوم قررت أن أستمر في الانفاق لحين الوصول إلى المحطة القريبة من المكتب، كنت أشعر حين يتوقف المترو بي في محطة بعينها أنني تحت محلها، فأنكس رأسي خجلاً، ثم أستدير ناحية النافذة المظلمة في انتظار المحطات المقبلة مستغرقة في التفكير دون حلم.
اجتزت الدورة بنجاح وسجلت في الجامعة، ولم أعد إلى ذلك الحي أبدا.. 
ماتت نبتة الجيرانيوم، ولم أتخلص منها بناء على نصيحة بائعة الورد. وانتظرت حتى ازدهرت مجددا في موسمها، وأخرجت أجمل ما لديها من ورود البنفسج المبهجة، لتعبق مكاني ويومي برائحته الزكية النفاذة…
تعاقبت على النبتة المواسم.. وفي كل مرة تحيا من جديد، فتحيا معها كلمات بائعة الورد وتزدهر في محطات العمر حتى وإن فارقت ورودها ذات يوم.

27 مايو 2019

مقالات ذات علاقة

الفراشة

سعد الأريل

أوان

سعاد الورفلي

النمل..

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق