د.الصديق بشير نصر
السرد والحوار في رواية (طريق جهنم)
السرد Narration هو الأداة التي يستخدمها الروائي أو القاصّ لنقل الحوادث والوقائع إلى القارئ وهو المتلقي، بل يتجاوز السردُ كلّ ذلك ليكون وسيلةً من وسائل الخطاب لإظهار المشاعر المكبوثة، والعواطف المخبوءة التي تكمن خلف الوقائع والحوادث وتحتاج إلى من يكشف عنها حفراً وتنقيباً.
وتعتمد البنية السّردية Narrative structure على طبيعة النصّ أولاً، ومراد صاحبِ النصّ ثانياً، والعلاقة بين السارد الأول (الروائي) والنصّ (الرواية / المسرحية / الشخوص) ثالثاً، وهي علاقة خلق وابتكار، علاقة صانع بمصنوع. وكثيراً ما يكون الروائي (الصانع) هو عينه مادةَ (المصنوع) عندما يتناول قضيةً تمسّه شخصياً فيكون بذلك طرفاً فيها، ويتعذّر عليه الانفصال عنها. ولا تنعدم علاقة الراوي بروايته وشخوصها بمجرّد تحرّرها من قلمه فتجري كائناتٍ حيةً متحرّرةً من قيود المؤلّف التي تكبّلها، ولكن تظلّ الشخوص مشدودةً وجدانياً إلى مبتكرها أو صانعها (المؤلف)، يحنّ إليها وتحنّ إليه. وعلى رأي الجاحظ في (البيان والتبيين 1: 131): “والشيء لا يحنّ إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في صفاتٍ، لأن النفوسَ لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة. فهذا هذا.”.
وبعيداً عن جدل علماء اللسانيات في دراساتهم، وهو جدلٌ أكثره عقيمٌ غير مُنتِجٍ لأنه لم يصدر غالباً عمّن اشتغلوا بالتأليف الروائي أو صناعة الرواية إلا في حالاتٍ قليلة، فإنّ الروائي قلما يهتمّ بالبنية الداخلية للسرد، تلك التي تتعلّق ببناء الجملة، ودلالات الألفاظ في غير سياقها العام الذي ربما يتفطّن إليه النقاد، وإن لم يكن ذلك ليدور في خَلَدِ الروائي. وهذا يؤكد ما ذهب إليه برنارد شو في اعتراضه على نقاد شيكسبير حينما زعموا أوهاماً نسبوها إليه، اقتنصوها من عباراتٍ منفلته على لسان هاملت أو ماكبث، وهي ما كانت لتخطر على عقل شيكسبير، لا في الظاهر ولا في الباطن. ولأنّ المنظّرين في اللسانيات تعاملوا مع موضوع السرد تعاملاً فلسفياً جاءت آراؤهم يكتنفها الغموض، اللهم إلا نفراً قليلاً أذكر منهم امبيرتو إيكو Umberto Ecoo الذي جمع بين الفلسفة، وعلوم اللغة (السيميائيات)، والرواية. وقد كتب دراسته الشائقة عن السرد (Postille al nome della rosa) التي اتخذ فيها روايته الذائعة الصيت (اسم الوردة) مادةً يطبق عليها ما يراه من رؤى وتصورات عن فنون السرد.
ويبدو أنّ النقاد المعاصرين لم يتجاوزوا بعد ما كتبه فلاسفة اليونان منذ أفلاطون، وإن زعموا غير ذلك، حينما فرّق هذا الأخيرُ بين ما يسميه السرد الخالص أو البسيط Narration Simple والمحاكاة Imitation، فذهب إلى أنّ السرد يكون حينما يتحدث الروائي وتختفي وراءه صورة الشخصيات وهيئاتها وأفعالها -، والمحاكاة حينما يتأخر الروائي وتتحدث الشخصيات مستقلة، ولو نسبياً عنه، وتكون في مواجهة شخصيات أخرى، وهو النمط الذي نسميه اليوم (الحوار) Dialogue. وقد توسّع أرسطو إذ قسم السرد البسيط إلى قسمين باعتبار طبيعة الخطاب الصادر من المؤلف وهو (السارد الأول)، وذلك عندما يستعمل ضمير المتكلم متحدثاً عن نفسه، وعندما يستعمل ضمير الغائب متحدثاً بالنيابة عن غيره.
لقد تطورت دراسات السرد الروائي منذ هنري جيمس إلى رولان بارث، وبروب، وباختين، وجيرار جينيه، وتودوروف، وغريماس. ولكنه – في ظني أنا على الأقل – تطور نظري يتعذّر في كثيرٍ من الأحايين على الروائيين تحويله إلى أسلوب عملي. ونحن نرى حتى اليوم أنّ أكثر الأعمال الروائية، إلا اللمم، تجري على سِماطٍ واحدة. وبلوغ حالة الانفصال بين الراوي (الصانع) وشخصياته تكاد تكون مستحيلة. فمن يذهب إلى أنّ القصة تحكي عن نفسها بنفسها، وتتحدث إلى نفسها، وأنّ المؤلف لا يلتمسُ الأعذارَ، أو يتمحّل العلل لشخصياته، ولا يُخبِرنا بما يفعلون، بل يدعهم يعبرون عن ذلك بأنفسهم، فهم الذين يخبروننا بما يفكرون فيه ويشعرون به، فهو يدّعي شيئاً غير موجود. فهذا هوميروس منذ حقبٍ بعيدة يتعاطف مع أخيلوس عند موته ويجعلنا نتعاطف مثله مع ذلك البطل الأسطوري، حتى صرنا نتحدث عن كعب آخيل، كما يتعاطف في القرن التاسع عشر غوته مع فارتر، أو فيكتور هوغو مع (كوزومودو) و(جان فالجان) بطلا رائعتيه (نوتردام دي باري) و(البؤساء)، أو تشارلز ديكنز مع (أوليفر تويست)، جميعهم يدفعوننا إلى التعاطف معهم، لأنّ تلك عاطفة نبيلة لا يدركها البليد.
وكتب فلوبير (1869) إلى جورج صاند عن موضوع الناقدين يقول: “كان النُّقادُ في زمن لاهارب La Harpe نحويين، وفي أيام سنت بيفSainte Beuve وتين Taine مؤرخين فمتى يصبحون فنانين حقاً وصدقاً”. وأقول: “متى يبتعد الناقدُ الأدبيُّ في عصرنا عن التفلسف الذي لا يمتّ إلى الفلسفة ولا إلى الأدب بصلة؟”. وأن يُطلَبَ من الروائي (السارد الأوّل) أن يؤوِّل أعماله أو يفسرها، فذلك يضيّع على القارئ فرصةَ أن يقوم هو بنفسه بفك شيفرات الرواية الظاهرة والمخفية. وربما هذا هو معنى كلام أمبيرتو إيكو: “السارد ليس ملزماً بتقديم تأويلاتٍ لعمله وإلا لما كانت هناك حاجة إلى كتابة رواية. فالروايات هي بالأساس آلات مولّدة للتأويلات”.
تأمّلنا في السرد الروائي، من حيث الشكل لا من حيث الماهية، فوجدنا أنّ الغالبَ الأعم من الروايات لا يخرج عن خمسة أشكال من البِنْيَات السردية:
(1) البنية السردية العمودية Vertical Narrative Structure: وفيها تتابع الأحداث والوقائع، وتعتمد على الزمان والمكان. فكلّ واقعةFact أو حدث Action مرهون باللحظة الزمانية والرقعة المكانية. وهذا النمط السردي قلما يكون مستقلاً عن البنية السردية الأفقية إلا في حالة الرواية التاريخية المحض التي لا يراعي فيها مؤلفها التقنيات الفنية.
(2) البنية السردية الأفقية Horizontal Narrative Structure: وفيها تتابع الأفكار (عقليةً أو وجدانيةً) داخل جسم النصّ، ولا صلة لها بالزمان والمكان.
(3) البنية السردية العمودية/ الأفقية Vertical / Horizontal Narrative Structures: وفيها تجتمع خصائص البنيتين السابقتين. وهذا النمط البنيوي للسرد هو المهيمن على الأعمال الروائية.
(4) البنية السردية الدورانية Rotational Narrative Structure: وفيها يظلّ السّردُ يدور حول نقطةٍ واحدةٍ هي محور الرواية ومركزها، يبتعد عنها حيناً ثم يعود إليها. وكلّ المسائل التي تُعرضُ في السرد تبتعد مسافةً واحدةً عن المركز ولا تستطيع أن تتفلّت منه. والمركز في السرد الروائي هو جوهر القضية.
(5) البنية السردية الحلزونية Spiral Narrative Structure: وفيها يبدأ السرد الروائي متسعاً ثم يضيق حتى يتلاشى أو يتجمع في نقطة واحدة، ثم يبدأ في الاتساع من جديد من قاع المخروط إلى أعلاه، فيشكّل ما يشبه الحلزونين أو المخروطين. وبمعنى آخر، هو الانتقال من الكلّ إلى الجزء، ثم يعود فينتقل بالعكس من الجزء إلى الكلّ. وهو نمطٌ، مع حرية الحركة التي يتمتع بها الروائي داخله، يبعث على الضجر والملل، لتنقله السريع بين الموضوعات التي قد لا تربطها ببعضها صلة، وقد يستعصي على القارئ إدراكها إن وُجِدت. ويقوم في الغالب على الجمل المفككة، وتغيب فيه علامات الترقيم. ولعلّ رواية (يوليسيس Ulysses) لجيمس جويس، ورواية (البحث عن الزمن الضائع) لبروست خير مثالين على ذلك، فكلتاهما تعانيان من تفكك النسيج الروائي، وقد تشكّل أكثر من خمسين صفحة في (يوليسيس) مقطعاً واحداً متصلاً دون أن توجد فيه علامات ترقيم: لا فاصلة، ولا شارحة، ولا علامات استفهام أو تعجب، ولا علامات تنصيص.
تخضع رواية (طريق جهنم) لأيمن العتوم، للشكل الثالث والرابع من تقنيات السرد المذكورة، الشكل العمودي / الأفقي، والشكل الدوراني. فالرواية مُشبعة أفقياً بالأفكار والمفاهيم، وهي تفيض عمودياً بالوقائع والأحداث، وأكثرها – إن لم يكن جميعها – حقائق لها زمان ومكان.
وقد تُعاب رواية (طريق جهنم) بالنقص الحاد في الحوار Conversation أو الديالوغ Dialogue، وهو ليس عيباً جسيماً، لأن كتلة الأفكار والمفاهيم تغني عن ذلك. وغلبة الحوار في العمل الروائي علامة ضعف وليست علامة قوة، لسببين: الأول أن كثرة الحوار تحوّل العمل الروائي إلى دراما أي عمل مسرحي، والمسرحيةُ غيرُ الرّوايةِ. والروايةُ مستودعٌ ضخمٌ للأفكار والمفاهيم، وهذه تنوء بها أنماط الحوار، ولا يُعقل أن يجري مؤلف الرواية على لسان أحد شخوصها حواراً فلسفياً عميقاً، أو تحليلاً سيكولوجياً أو اجتماعياً معقداً قد يحتاج إلى أكثر من صفحة. ولذلك فإنّ السرد المتجرّد من المادة الحوارية هو الأنسب لروايةٍ من نوع (طريق جهنم)، فضلاً عن أنّ السرد يعلق بالذهن وإن طال بينما يتفلت محتوى الحوار بسهولة بعد زمن من التلقّي.
إنّ كثافة المعاني والصور في (طريق جهنم) تستدعي توظيف طاقات بلاغية هائلة تقتضيها مستويات السرد المختلفة، لتحقيق الغاية النهائية من العمل الفنيّ وهي وضع المتلقي في بؤرة أحداث الرواية، وهذا ما فعله المؤلّف. وخلافاً لأيكو في حاشيته على روايته (اسم الوردة) الذي يرى أنه “على المؤلف أن يموت بعد كتابته لروايةٍ ما لكي لا يشوش على مصير النص”، وكأنه يذهب إلى أنّ موت المؤلف (أي انفصاله عن النص وعزلته عنه بعد إنشائه) شرطٌ في عدم التشويش على مصير النص (حياته ووجوده واستمراريته على تعاقب الزمن)، وهذا الاشتراط يقوم على افتراض جدلي، والمشروط لا يتحقق إلا بوجود شرطه، والشرط يتعذر وقوعه لإننا نقرأ اليوم روايات كتبت منذ أكثر من مائة سنة ونستحضر كاتبيها، لا سيما تلك التي يشكّل هو قدراً من مادتها.
واالسرد الرئيس العام في رواية (طريق جهنم) يجري على ثلاثة ألسن: لسان أيمن العتوم اللاعب الماهر بالدمى المتحركة Marionettist على مسرح العرائس، وهو السارد الأوّل المتحكم في عملية السرد، ولسان العقيد وهو السارد الثاني، ولسان علي العكرمي وهو السارد الثالث الذي يستوعب سرده نحو ثلثي الرواية. وقد قسّم المؤلف روايته من الناحية السردية إلى قسمين منفصلين: قسم يتعلق بالعقيد وهواجسه، وفيه يتحدث العقيد إلى نفسه وإلى من بجواره، وقسم يتعلّق بأحوال السجناء وفيه يتحدث عن معاناتهم السيد علي العكرمي، وفي القسمين يتدخل المؤلف باعتباره السارد الأول بضبط الإيقاع. لقد كان أيمن العتوم بحق مايسترو الأوركسترا التي تعزف سيمفونية العذاب.
وروعة العزف الهارموني للرواية وبراعة ضبط إيقاعها تراه في الأثر التي يتركه كلُّ مقطع تكونه عبارات الرواية وجملها. فكلّ مقطع في الرواية، وهو مجموعة الجمل، تتحد فيه طاقات المؤلف أيمن العتوم، تلك الطاقات التي اجتمعت فيها قدرات فنية عالية، تتوّجها لغة فائقة، يفقدها الروائيون العرب اليوم إلا في حالات تكاد تكون نادرة، حيث تمت التضحية باللغة على حساب الأفكار المهلهلة والقضايا المبعثرة التي لا تهتدي إلى سبيل، فتظلّ تتلمّس مسلكاً لعله يفضي بها إلى عقل القارئ المتلقي فلا تقع عليه. والدخول إلى غابة أيمن العتوم السردية، كما يحب أمبيرتو إيكو أن يصف عالم السرد بأنه أشبه بالولوج إلى غابة كثيفة الأشجار تكون مظلمةً حيناً وكأنها متاهة، وتكون حيناً آخر واضحة المسالك، ميسور ومدلّل ولا يحتاج إلى خارطة، والسالك في دروبها لا يضيع أثرَه. ولا يحتاج القارئ إلى الكثير من التركيز حتى يميّزَ بين الساردين.
والسرد باعتباره أسلوباً من أساليب توصيل الخطاب لا يبلغ مداه إلا عبر اللغة وطرائق توظيفها. والمتأمل في لغة (طريق جهنم) لا يقع فيها على جملٍ مبنية للمجهول إلا نادراً، والأصل في تراكيبها اللغوية جملٌ مبنية للمعلوم، وهذا يعكس تماماً الدلالات الظاهرة والخفية للنص. فالفاعل والفعلة معلومون غير متسترين سواء أكانوا من السجانين أو من المسجونين، وهذا يقتضي قصراً استخدام الجملة المبنية للمعلوم. فالجرائم التي ارتكبت في السجن وداخل الزنازين ليست مجهولة الفاعل، فكان حريٌّ بالمؤلف أن يُعرض عن استخدام الجمل التي لم يُسمّ فاعلها. ولذلك لم نقف على جملٍ مبنية للمجهول إلا نادراً في النص، مثل: “فقد أُعْدِم منهم ثمانية”، و“ما عُرِف بقضية الطلبة“، و“ثم استُؤنِفت المحاكمات”، و“بقي الشلطامي يُساقُ للتعذيب شهوراً”، و“ وُلِد ابناءٌ لأولئك”، و“أُعِدتُ في اليوم ذاته إلى السجن”، و“فأصيبت بنوبةٍ قلبية حادة”، و“قيل إنّ النقيب..”. وما كان من هذا القبيل لا يكون إلا على هذا النحو بسبب جهالة السارد للفاعل، أو ما غاب عن الأبصار، أو من قبيل تجاهل العارف الذي هو سوق المعلوم مساق المجهول كما يحدثنا البلاغيون، إمّا للتعجّب، أو للمبالغة في الذمّ.
ويغلب في الرواية استخدام الفعل الماضي على المضارع والمستقبل، ويُغرِق المؤلفٌ – على وجه الخصوص – في استخدام ماضي ومضارع فعل الكينونة (كان / يكون) بشكلٍ ملحوظ. ففي الفصل (27) ورد الفعل الماضي (كان) 74 مرةً. وفي الفصل (28) ورد الفعل الماضي (كان) 40 مرةً، في الفصل (29) ورد الفعل الماضي (كان) 45 مرةً.
وغلبة استخدام الفعل الماضي في كلّ الرواية يقتضيها السّياق ويستلزمها، لأنه لا يحكي وقائع حدثت في الماضي وانتهت، بل يستدعيها الذهن في أيّ وقت حاضراً ومستقبلاً، وهنا تكمن عبقرية الروائي السارد في ردم الهوّة بين لحظة الانتشاء بالنص في الوقت الحاضر، واللحظة الزمنية الفائتة التي كانت ظرفاً تجري داخله الأحداث والوقائع.
ومن النادر أن تجد في (طريق جهنم) خطاباً غير مباشر. حتى داخل الحوار، على ندرته في الرواية، لا تجد فيه إلا خطاباً مباشراً:
– قال المشرف السارق: “هذه نهاية الأمر يا أحمد؟ تشكوني إلى الآمر؟ تتهمني بالسرقة؟”
– فردّ عليه أحمد: “حاشاك ؛ أنت ترتكب كلّ الموبقات الممكنة، إلا السرقة. يمكن أن تقتل، يمكن أن تجلد دون رأفة..»
– قال الثلثي لزوجته: “أنتم لم تساهموا بالنضال ضد الطاغية..”
ومن الأدوات التي يستخدمها عادة الروائي في عمله أدوات الاستفهام، والاستفهام من أنواع الطلب، وهو طلب حصول صورة الشيء في الذهن، فإن كان ذلك المطلوبُ وقوع نسبة بين أمرين أو لا وقوعها، فحصولُها هو التصديق، وإلا فهو التصوّر. والألفاظ الموضوعة للاستفهام: الهمزة، وهل، وما، ومن، وأيّ، وكم، وكيف، وأين، وأنّى، ومتى، وأيّان. وجميعها لطلب التصور باستثناء الهمزة فهي للتصور والتصديق معاً، و(هل) لطلب التصديق فقط.
ويُكثر السارد الأول (المؤلف) من استخدام أدة الاستفهام (هل)، و(هل) لطلب التصديق فحسب خلافاً لهمزة الاستفهام التي تكون لطلب التصور والتصديق معاً. والتصديق هو الحكم بالثبوت أو الانتفاء، والنفي والإثبات إنما يتوجهان إلى المعاني والأحداث التي هي مدلولات الأفعال، لا إلى الذوات التي هي مدلولات الأسماء.
فأنظر إلى هذا المقطع من الرواية:
“وهل يتراءى لهم حبل المشنقة في الظلام مثل قدر محتوم؟ [..] هل كانوا بالفعل قادرين على التعايش معه؟ [..] هل ساروا عن يمينه أم عن شماله [..] هل بدا لهم الموتُ شخصاً لطيفاً أم بشعاً؟ هل كان الموتُ رجلاً أم امرأة ؟ طفلاً أم شيخاً ؟ ملاكاً أم شيطاناً؟ وهل كان مسموحاً لهم أن يحادثوه ؟ هل صوته يشبه فحيح الأفعى أم حفيفَ أوراق الشجر؟ هل له كركرة الأطفال أم هزيم الرعد؟ [..] هل كان الموتُ مرسوماً على الجدران ؟ هل كان مغموساً في لقمة الأكل ؟ هل كان ينام إلى جانبهم؟ [..] هل كان يضحك أم يعْبُسُ في وجوههم؟ هل كانت له عينان أم أنّ محجريه فارغان؟ هل هما عينا صقر أم عينا ذئب؟ هل كانت تلمعان في الظلام أم كانتا مُطفأتين؟ [..]” ص 100-101.
واستخدام أدوات الاستفهام في المادة السردية تفتح مغاليقَ وتكسر حواجزَ، لينفذَ عقلُ المتلقي عبرها إلى مواطنَ حِيل بينه وبينها، وهذا يوفّر على الروائي جهداً كبيراً في نقل المتلقي إلى عوالم قد لا يبلغها إلا بقدح زناد فكره، فيعينه بذلك على خلق دلالات مختلفة قد لا يُتوصّل إليها إلا بمجازاتٍ واستعارات كما في النصّ السابق. فأنت مهما بذلتَ من جهدٍ فليس بمقدورك أن ترسمَ صورةً صحيحةً للموت، وهو مجرد مفهوم مجرّد لا تُدرك له صورة حتى بالخيال. فالاستفهامُ، إذن، عُبوةٌ متفجرةٌ للكشف عن دلالات مخفية يوظفها الروائي، ويسلّمُ فتيلها للقارئ ليقومَ بتفجيرها في اللحظة المناسبة.
ويتفنّن أيمن العتوم في استخدام الأساليب اللغوية في عروضه السردية، ومن ذلك تقديم الجار والمجرور في كثير من العبارات، مثل: “على جدار الانفراديّ في (المحقرة) يمكن أن تكتبَ [..]. على هذه الجدران المقرورة الراعفة بالوجع، يمكن أن تحفرَ بإظفرك [..]. على الجدار المقابل في الزنزانة [..] في الزنزانة نفسها [..]” ص 101.
وأغراض تقديم الجار والمجرور لا تختلف عن أغراض تقديم المفعول والحال والظرف، ومنها: الحصر والاختصاص، وهو أشهر الأغراض، وأكثرها دوراناً، وكاد أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر سواء كان مفعولا أو ظرفاً أو مجروراً. ولعلّ المؤلفَ لم يكن يدور بخلده كلّ ذلك، وهذا غير مستبعد، ولكنه الإلفُ الذي اعتاده بفعل موروثه اللغوي، وهو إلفٌ يُربي الملكات ويطوّرها.
ورواية (طريق جهنم) جاءت في لغةٍ راقية فصيحة، واتسم السرد فيها بخلوّه من العامية إلا في مواطن ضيقةٍ جداً يقتضيها النص، وربما جاءت بعض الألفاظ العامية القليلة من غير العامية الليبية، وهذا يُحسبُ على الرواية ولا يُحسبُ لها.
وأيمن العتوم مؤلف رواية (طريق جهنم) جعلها في قسمين: قسم يتحدث في جميع فصوله عن (العقيد) ويتكون من تسعة عشر فصلاً، وباقي الفصول خصصها لمحنة السجن والسجناء. وبدا القسم الأوّل وكأنه منفصل عن بِنية الرواية لولا أنه عِلّة المحن التي عاشها المساجين. ولم يكن من اليسير أن تذوب تلك الشخصية في فصول الرواية الأخرى، وبذا كان لا بدّ من فصلها وجعلها كياناً مستقلاً في الرواية. ولم يكن من سبيل لاستنطاق تلك الشخصية السايكوباثية إلا أن يبحث عن وسيلة تغنيه عن وسائل أخرى ترهقه، وربما تقطع تسلسل أفكاره، فوجدها في المرآة كما أشرنا إلى ذلك في موضع سابق. وهذا توظيفٌ موفّقٌ من الروائي وليس اكتشافاً. وتوظيف المرآة أو المرايا في الآداب العالمية معروف، ليقين الروائيين والشعراء أنّ المرآة أداةٌ فعالة في توليد الأفكار والصور وتهييج الأخيلة.
وتوظيف تقنية المرآة Mirror’s technique في السرد الروائي، وحتى في البناء الشعري موجود منذ حقب أدبية قديمة، فنجدها عند روجر بيكون في مرآة الخيميائي Speculum alchimiae وعند شيكسبير في ريتشارد الثاني Richard II، ونجدها في حكاية سنو وايت Snow White وهي حكاية فلكلورية أسطورية ذات أصول ألمانية قام بجمعها الأخوان غريم Brothers Grimm، وفيها تمتلك الساحرة الخبيثة مرآةً سحريةً تتحدث معها، وتسألها: “من أجمل مني في هذا العالم؟” فتجيبها المرآة: “أنتِ.. ولكن ثمة فتاة تُدعى سنو وايت هي أجمل منك”، وهكذا تبدأ قصة الصراع بين الخير والشر. والمرآة رمز للأنا الداخلية، وكلّ ما لا يظهر على السطح يتجسد في المرآة.
هذه الدلالة استغلها المؤلفون بطرق مختلفة. حتى (دراكولا) المخيف كان يتخذ مرآة ينظر فيها، ولا يظهر خياله فيها كما تظهر صور البشر. وفي مسرحية (كاليغولا) لألبير كامي، يظل هذا الأمبراطور الدموي يتحدث مع مرآته حتى قبيل أن يُقتل، كما هو الحال مع (العقيد) في رواية (طريق جهنم)، ونجد أيضاً تلك المرآة في رواية أوسكار وايلد The Picture of Dorian Gray، ونجد المرآة رمزاً في قصيدة The Lady of Shalott للشاعر آلفرد تينيسون، حيث تخرج للفتاة وهي تستحم في النهر كائناتٌ وجنودٌ على صهوات الجياد من جوف تلك المرآة. والنظر في المرآة، وإمعان التحديق فيها بشيء من التركيز دون أن تطرف العين، يخلق أشكالاً مرعبة ومخيفة بحق، وهذا ما عبّر عنه الروائي والشاعر الأرجنتيني خورخي بورخيس في إحدى قصائده، بقوله: “أنا الذي كنتُ أشعر برعب المرايا”.
لقد كان أيمن عتوم موفقاً في استخدامه لتقنية المرآة، ولا أدري كيف كان يعالج هذا الموضوع دونها.
______________