النقاش حول التفاوت بين المدن، من حيث جمال طبيعتها، أو أخلاق أهلها، أو إبداعهم الفني، أو نبوغهم العلمي، نقاش حول حقيقة ليست ذاتية (subjective) خالصة، ولا موضوعية (objective) بما يكفي، بل تذاوتية (intersubjective)بمعنى أن هناك اتفاقا عاما بين الذوات البشرية عليها. ولكن ما أن يتحدد النقاش بحيث يخوض في مسألة أفضلية مدينة على أخرى حتى يظهر على السطح البعد الذاتي في هذه المسألة. ذلك أن معظم مجالات التفاوت المديني المتفق عليها، كالجمال، والأخلاق، والفن، مسائل قيمية ومن ثم خلافية، وحتى مجال التفاوت غير القيمي، كالنبوغ العلمي مثلا، يطاله الخلاف من حيث رتبته ضمن معايير التفاوت، وهو خلاف يطال جميع المعايير بصرف النظر عن قيميتها. وبيان ذلك أن ثمة هرمية من المعايير يتبناها المنتمي إلى مدينة يجزم بأفضليتها مآل تطبيقها أن يسفر عن حكم بأفضليتها. إذا كانت مدينتي صحراوية، لا جبال فيها ولا أنهار، لكن باعها في الشعر طويل، وأهلها معروفون بنجدة المكروب، سوف أضمّن إجادة الشعر ونجدة المكروب في معايير أفضلية المدن، وأعلي من شأنهما على حساب غيرهما، بحيث أخلص ممتلئا بالثقة إلى أن مدينتي أفضل مدن بلادي. وتراتبية المرء لمعايير التفاوت بين البلدان سوف تختلف وقفا على ما حبا الله مدينته من جمال طبيعي، وما نبغ فيه أهلها من علوم وفنون، وما اشتهروا به من شمائل وسجايا.
كلنا نتفق إذن على أن المدن تتفاوت من حيث تفاضلها، وقد نتفق حتى على المعايير التي تتفاوت فيها؛ لكن اختلافنا في ترتيب هذه المعايير من حيث أهميتها في قياس التفاوت في الأفضلية يجعلنا نخلص إلى نتائج مختلفة، يحابي عبرها كلٌّ منا مدينته بأسلوب يبدو موضوعيا خالصا. وما يحدث تحديدا هو أن هناك مصادرة، تتم خلسة، على المطلوب، فالنتيجة محددة أصلا (مديني أفضل مدن بلادي)، وكل ما نقوم به هو الحجاج عليها من مقدمات (معايير مرتبة وفق أولويات بعينها) تضمر النتيجة التي نتظاهر بإثباتها. والأمر نفسه يسري على التفاوت بين القبائل، حيث ينشب الخلاف حول أفضلية سجية أخلاقية، كالكرم، على سجية أخرى، كالشجاعة، وحيث يضع أبناء كل قبيلة تراتبية تضمن سلفا علو كعبها على سائر القبائل.
على ذلك، ثمة استدارك يلزم التنويه إليه. ثمة مشترك إنساني، يعترف بأهمية النتاج العلمي والتقني في في الحضارة الإنسانية المعاصرة. وثمة مدن حققت إنجازات لافتة في هذا الصدد. ويبدو أن للتفاضل في هذا الصعيد أسسا موضوعية يمكن الاتفاق عليها. بتعبير أوضح، لأبناء المدن التي حققت انتصارات باهرة في العلم والتقنية الحق كل الحق في أن تفخر وتعتز بما حققته.
ومهما يكن من أمر، فإن مفاد ما أخلص إليه لا يتعين في أن الشعور بالانتماء إلى المدينة أو القبيلة خطيئة، بل بل كونه شعورا لا يتأسس وغير قابل للدفاع عنه في معظم الأحوال عبر البرهنة على أفضلية مدينة المرء أو قبيلته على سائر مدن أو قبائل بلاده. إنه شعور قابل للتفسير، عبر ما توفره مدينة المرء أو قبيلته من أمن وحماية وما تحيطه به من رعاية واهتمام، ولكنه ليس موضوعا مناسبا للتبرير. في قصة لخليفة الفاخري، سُعد البطل أيما سعادة حين علم أن الطليان سوف يرحّلون الأهالي إلى معتقل العقيلة. وباعث سعادته هو أنه من العقيلة، وما كان له أن يكون سعيدا بالقدر نفسه لو أنه علم أن الأهالي سوف يرحلّون إلى مدينة إيطالية عرفت بجمال طبيعتها، وتفوقها في الأوبرا والفن التشكيلي.
فى كتابه : يمشى على مهل ويسبقنا