الهايكو
ترجمات

الطبيعة في شعر الهايكو

218

دافد لاندس بارنهِل
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي

الهايكو
الهايكو

أهمية الطبيعة في شعر الهايكو أمر معروف، ولكن من المهم الأخذ في الاعتبار التركيز الذي منح للفصول. وكما هو معروف، فإنه من المفترض أن تكون أي قصيدة هوكّو Hokku2 أو هايكو Haiku قصيدة فصل بدلالة كلمة أو أكثر تدل على أحد الفصول.
اللفظة الدالة على الفصل قد تشير، في الواقع، إلى نشاط إنساني مثل طقس ديني يقتصر أداؤه على فصل بعينه. وحتى هنا، فإن الحدث الإنساني يتضمن فترة من الزمن في عالم الطبيعة، على أن تفهم الطبيعة كعملية مؤقتة بقدر ما هي مجموع النباتات والحيوانات، وبذا تكون القصيدة متموضعة في الطبيعة والزمن معا. (غالبية الطبعات اليابانية من الهايكو تشير إلى الفصل والكلمة التي تشير إليه[…]). ثمة استجابتان، باديتا التباين، في النظر إلى أهمية الطبيعة في تقاليد الهايكو. أولاهما تعتبر القصائد نماذج لـ “شعر الطبيعة”. إنها، تحديدا، وصف تصويري imagistic portrait لـ “الشيء في ذاته”.

الرأي الآخر يرى أن تقاليد الهايكو لا تحفل، حقيقة، بالطبيعة الفعلية، وإنما بطبيعة مثقفنة culturalized nature ذات تعريف تقليدي، ومن ثم فهي اصطناعية.
ينبغي الإقرار بدءاً أن باشو كان وريثا لقناعاته التقليدية إزاء الطبيعة، ومغيرا لها في نفس الوقت. فلقد أحدث “التواءات في الهايكاي Haikai3” لتلائم بعض الرؤى الشعرية، بحيث مد، أو حتى قلب، بعض الترابطات. فلننظر إلى ما قد تعتبر أشهر قصيدة هايكو لباشو:
بركة قديمةـــ
ضفدعة تقفز في،
صوت الماء4.
هذه القصيدة كانت ناشزة، حينها، لأن الضفدعة كانت دائما صورة سمعية تتضمن تردد النقيق في الصيف. فكان باشو أول شاعر يقدم الضفدعة، ليس وهي تغني، وإنما وهي تنط في الماء، ما يعني أن صوتا مختلفا جدا يحدث فجأة، ومع ذلك يبدو أنه يتريث في الأذن بنفس الطريقة التي تتسع بها الموجات وتتلاشى تدريجيا. هنا لم يكن باشو مرتبطا كليا بقيود العرف.
الأكثر أهمية، نحن محتاجون إلى ملاحظة أن القناعات الأدبية مؤسسة على عدة فرضيات، على ثقافتنا5 النظر إليها بجدية. أولاها، أن النباتات والحيوانات، وحتى المشاهد، ذات “طبيعة حقيقية” مثل البشر تماما. فدُخلة الغابة وشجرة الصنوبر ولحظة نهاية الغسق حين يتلاشى الضوء خلف أشباح الأشجار: ليست مجرد أشياء، ولكنها متسمة بخصائص معينة تجعلها متميزة.

فمن الممكن أن يعجب المرء، إعجابا بالغا، بالطبيعة الحقيقية لدخلة الغابة وهي تغني بداية الربيع حينما تتفتح أزهار شجرة البرقوق. شجرة الصنوبر النامية في مرج مشذب بالضواحي قد تكون نامية باستقامة وكثيفة الإبر، ولكن الطبيعة الحقيقية لشجرة الصنوبر تتجلى في صنوبرة تعيش على حافة جرف، منحنيةً، معاقةَ النمو، وقليلةَ الإبر، جراء قرن من الرياح القارسة. (هذه الفكرة هي أساس أسلوب التشذيب والتقزيم الياباني). وفي حين نميل نحن إلى الاعتقاد بأن “الجمال في عين الرائي” وأن الانفعالاتِ شأنٌ ذاتيٌ، فإن آخر ليلة في الخريف، حيث ينحل في الشتاء، تمتلك نوعا جماليا ومشاعرَ كامنةً في المنظر ذاته وخاصةً به. فاليابانيون يتمسكون بفكرة أن “الجوهر الشعري” هو ذلك الذي يمسك بالطبيعة الحقيقية للشيء بالإمكان نقلها إلى العرف الشعري.
الفرضية الثانية، أن عالم الطبيعة وتجربة الطبيعة ليسا منفصلين تماما. فأحدهما يقتضي وجود الآخر بطريقة مماثلة لمبادئ فلسفة الفينومينولوجيا. إذ ثمة طبيعة نحن واعون بها، ووعي بالطبيعة.
الانفصال التام بين الذات والموضوع، بين الذاتية والموضوعية، لا يعد جزءا من العرف الشرق آسيوي. إنه في الواقع ليس جزءا من التقليد البوذي الذي يلح على أن ثنائية الأنا أو النفس والعالم الخارجي وهم رئيسي يسبب المعاناة والصبوات. في التقاليد الشعرية الصينية الهدف الأساسي هو محاولة تحقيق وحدة الشعور والمنظر، فالشاعر الحقيقي يكون قد رعى حساسيته إلى الحد الذي تتماثل فيه مشاعره “الذاتية” والمجال “الموضوعي” للمنظر محل الخبرة. وبالمثل، فإن مصطلح باشو الجمالي sabi (الوحدة) يعبر عن نوعية ماثلة في المنظر(مساء خريفي، مثلا) مثلما هو شأن المشاعر المعاشة من قبل شاعر مرهف. فالشاعر الحقيقي المرهف ثقافيا يمكنه الدخول إلى الميزة الحقيقية للمناظر الطبيعية ويعايشها.

الفرضية الثالثة، وهي مرتبطة بسابقتها، أنه توجد خبرات متعلقة بالطبيعة موثوقة، فبعض الخبرات بالطبيعة “أصدق”- أكثر تبصرا بالطبيعة الجوهرية للأشياء- من سواها.
يمكننا النظر إلى خبرات شعراء الماضي العظماء كأدلاء نحو ما يمكن وما ينبغي معايشته حين نرى طيرا، شجرة، أو منظرا. فالشعراء العظماء يماثلون الحكماء في التقاليد الروحانية الآسيوية التي تحتوي خبرة التبصر العميق. هذه الخبرات الجمالية الموثوقة يمكن أن تُثَبَّت في الأعراف الأدبية.
الفرضية الرابعة، الطبيعة والثقافة ليستا منفصلتين، ففي التقاليد الشعرية الصينية الكتابة والأدب هما تعبيران إنسانيان مماثلان في النوع لمسارات الطيور. الشعر تعبير طبيعي عن الشعور الإنساني ذو قرابة مع غناء الطيور. هذه الفكرة عرضت في مقدمة شهيرة لمجموعة شعرية يابانية من أشعار البلاط الـكوكنشو(سنة 920؟).
ووفق ما تتضمنه الفرضية السابقة فإن الشخص المثقف ثقافة عالية يمكنه فعلا معايشة الطبيعة والتعبير عن مشاعره نحوها. “الطبيعة المثقفنة” إذا تمت بتبصر ثقافي عميق للطبيعة هي”طبيعة حقيقية”.
وهكذا فإن”طبيعة” باشو جمع بين ما نسميه”عالم الطبيعة” والتقاليد اليابانية المرتبطة به.

___________________________________________________________
1) David Landis Barnhill والمقال جزء مستل من مقدمة الكاتب لكتابه: هايكو باشو. قصائد مختارة من ماتسو باشو Basho’s Haiku, Selected Poems by Matsuo Basho, Sate University of New York Press,Albany, 2004, New York
2) الاسم الأصلي لشعر الهايكو ، ومعناها حرفيا “أبيات الاستهلال” وهي ثلاثة أبيات.
3) أو الرنغا renga قصائد طويلة يشترك في كتابتها أكثر من شاعر وتكون أبيات الهايكو افتتاحا لها. وفي نهاية القرن التاسع عشر فصل ماسوكا شيكي Masaoka Shiki الهوكو عن الرنغا نهائيا وأطلق عليه اسم هايكو (Haiku) مشتقا الكلمة من كلمتي هايكاي(Haikai) وهوكو (Hokku) ليشيع هذا النمط الشعري في العالم بهذا الاسم.
4) للاطلاع على معلومات أوفى حول هذه القصيدة وبعض النقاشات التي دارت بشأنها وبعض ترجماتها في الإنغليزية والعربية، ينظر: عمر أبوالقاسم الككلي. أشعار الهايكو:”تصفيق اليد الواحدة”. في: سادة الهايكو. مختارات من قصيدة الهايكو اليابانية في أربعة قرون. ترجمة: عاشور الطويبي. منشورات[مجلة] شؤون ثقافية[الليبية]. كتاب شؤون ثقافية 8. سنة 2010 (د.م)
5) يقصد الثقافة الغربية.

مقالات ذات علاقة

رحلـــــة

زكري العزابي

جداول الحليب السبعة … !!!

عطية الأوجلي

آسفة بوكوسكي…

عطية الأوجلي

اترك تعليق