من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
المقالة

من سكب الأبيض في “الفراشية” الليبية؟.. “الفونغ شوي” يُجيب

بوابة الوسط

جرّب أن تقول أمام جدتك أو أي سيدة ليبية لازالت تلبس فراشيتها عندما تخرج من بيتها، وتحافظ على تخليلة ردائها الملوّن داخله “نهار أسود”، وراقب ردة فعلها التي ستجعلك تبتلع هذه الكلمة فورا أو على الأقل تستبدلها بلون آخر لهذا “النهار”.

من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.

تنهانا الجدات عن كثيرٍ من تصرفاتنا العفوية ويطلبن منا بإصرارٍ الكف عنها. تعظُم التساؤلات وتشحّ التفاسير ونكبر دون أن ندرك السبب، فالإجابة الجاهزة المختصرة لا تتعدى كلمة واحدة بالنسبة لجدتي، تقول فقط إن هذا الفعل “معفون”، فأكف عنه فورا رغم جهلي بهذه المفردة، لكني أرجعها دائما إلى “العفن” وهو سيءٌ حتما ونجس لذا وجب الابتعاد عنه، فقد تكون “معفون” هذه أشد وقعا عليّ من العيب، ملامح جدتي وهي تنطق كلتا المفردتين تشي بهذا.

لطالما رن جرس السؤال في عقلي الصغير، لماذا لا تستعمل جدتي أي اشتقاق من فعل “الكنس” وتستبدله بالفرح، هي لا تكنس البيت لكنها “تفرّح” هذا البيت وكأنها تربط بين النظافة وفرح المكان النظيف، فعل الإغلاق والإقفال أيضا لم يكُن مستساغا على لسانها، فكانت لا توصد الأبواب بل “تزيّنها”، تقول “زيّن الباب” حتى لا يُقفَل أي باب في وجه أحد، فالكلام عندها يجرّ الفعل، تطلب مني حتى اليوم أن أقول “فلفل أكحل” أو “كمون أسعد” ولا أقول عن أي منهما “أسود”؟

وعندما أحمل لها آنية طبخٍ طلبت مني إحضارها فإنها تنهرني من بعيدٍ إذا ما أقبلتُ عليها و”قعرُ الماعون” الأسود يتجه مباشرة لوجهها، تفعل هذا بغضبٍ مبطن وكأن عينيها ستلفظان نورهما الأخير لتحاكيا ظلمة قعر الإناء الذي أحمله. “أعوذ بالله من فالك” تنطلق هذه العبارة أيضا كفرسٍ جامحة لترتطم بأي كلمة قد أتفوه بها، يلفّها فقدٌ أو مرضٌ أو موت وإن كنت لا أقصدها، وتلطخ هذه العبارة أحياناً فستاني الأنيق فقط لأنه أسود اللون، وعندما أسرح وبيدي مقصّ فإنني قد أقوم تلقائياً بفتح نصليه وإغلاقهما مرارا ولو من باب الملل أو”الكساد”، إن أمي أو جدتي أو حتى صديقتي التي تكبرني بسنتين فقط ستقف بالمرصاد لأصابعي وتطلب مني التوقف فورا فهذا “فال مش كويس” ويجلب المشاكل للبيت وساكنيه.

يتحوّل هذا “الفال” في قاموس جداتنا وبناتهن أيضا إلى غولٍ عظيم يتربص بحركاتنا وسكناتنا ليرسل إلينا لعناته عقابا لنا على كلمة تدلت على لسان أحدنا أو إيماءة صنعتها أصابعنا سهوا. لطالما استغربت مثل هذه التصرفات، فكيف تقوم فتاة فوضوية جدا في غرفة مقلوبة رأسا على عقب بحماسٍ شديدٍ لتقلب فردة الحذاء على وجهها وكأن هذا سيقوّم العالم و يقضي على الفوضى العارمة فيه والمسيطرة على المشهد كله.

أعامَل كآلهة عندما أقول “نهار أحرف” أو “نهار أسود” فيُطلب مني فورا أن أستبدلها بنهار “أبيض” أو نهار “سعيد” وكأنّ كلامي سيغير الأقدار لينثر السعادة في الأرجاء و يسبغ البياض على العالم. سخرت كثيرا من كل ما سبق، لكن التكنولوجيا حملت إلي المفاجأة بأن فسرت لي كل شيء، ثمة علاقةٌ وثيقةٌ تربط بعض الطباع الليبية الأصيلة بالفونغ شوي، نعم نرتبط من حيث لا نعلم بهذه المفردة الغريبة التي ولدت في الصين، هذه الفلسفة التي نشأت منذ حوالي 4000 سنة مضت وهي فن التناغم مع الفضاء المحيط وتدفقات الطاقة من خلال البيئة، فكرة انبعاث الطاقة وامتصاصها والتعايش بشكل إيجابي وبدون توتر مع كل هذا.

الصين هناك والأجداد هنا، اللغة والمسافات الشاسعة ستحول دون التواصل، فهل كانت جدتي بتشاؤمها وتطيرها من اللون الأسود تعلم بأنه يشلّ طاقة التفاؤل ويمنع الذبذبات الإيجابية من الحلول حيثما حل؟ أو أنها تراكمات اجتماعية و نفسية لأحداث سابقة نقلَ الأسلافُ تفاصيلها جعلتها تقرّ بعدم اقترانه بأي شيء جيد؟.

وهل كانت تعلم بأن المقص عندما يعمل في الفراغ فإنه يقطع ذبذبات الطاقة الإيجابية فتحل المشاكل والعراقيل فورا بحسب الفونغ شوي، وبأن الحديث عن الأشياء الجيدة يجذبها أما الخوض في الشر فإنه يرجح كفته دائما؟.

يجب أن تكون جدتي ضليعة في هذا المجال حتى تعرف أن الماء مرادف للحياة في فلسفة الفونغ شوي، لهذا كانت تطلب من أمي أن تضع كوبا من الماء قرب رأس أخي الرضيع عندما ينام ليحفظه من كل شر. نشأ الفونغ شوي بعيدا عن أرضنا، لكن صروف الدهر تشابهت هنا وهناك، فالماء والنار والرياح والشمس أثثت حياة الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، نبذ حلكة الأسود وتفريغ نصاعة الأبيض في الجمال الخجول للفراشية وسكب ألوان قوس قزح على خطوط الأردية، من هنا كان الفونغ شوي الليبي حزمة من الأوامر والنواهي المسكوكة على حلي الجدّات والمتسللة إلينا من صُررهن وصناديقهن الخشبية العتيقة.

مقالات ذات علاقة

الرجل الأخير في طرابلس

المشرف العام

تكفيك من الشعر إشاراته وإيماءاته

عادل بشير الصاري

سـقـراط

أنيس فوزي

اترك تعليق