المقالة

رأسمال الإنسان

بوابة الوسط

يتردد القول أن “الحاجة أم الاختراع”. وهذا صحيح تماما. ونعني بالاختراع، هنا، إطارا واسعا يشمل أي “تحايل” مادي أو معنوي يستهدف به الإنسان حفظ حياته بإشباع حاجاته المباشرة والتكميلية ليتغلب على تحديات الطبيعة ويكيف وجوده في الكون. فالملابس والأسلحة وأدوات الطبخ وحفظ الطعام والمياه البدائية اختراعات. وكذلك حفر الآبار لاستخراج المياه وحفر المواجل لاستدراج مياه السيول التي تحدثها الأمطار إليها وانبثاق فكرة الزراعة، كلها اختراعات.

وعلى هذا الأساس يرى المؤرخ وفيلسوف التاريخ الإنغليزي الشهير، آرنولد توينبي، أن العامل الفعال في نشوء الحضارات هو العامل الذي يسميه “التحدي والاستجابة”. حيث تدفع مجموعة عراقيل وصعوبات تواجهها جماعة إنسانية ما هذه الجماعة إلى ترويض هذه المصاعب والعراقيل المتحدية لوجود هذه الجماعة واختراع حيل ووسائل للتغلب عليها، بل والاستفادة منها. الجدير بالإشارة أن توينبي يقسم الاستجابة للتحديات إلى نوعين سلبي وإيجابي. في الأول تهرب الجماعة من أمام هذه التحديات إلى أمكنة أخرى أدنى تحديا. وفي الثاني تصمد لمواجهة هذا التحدي لتتولد عن ذلك حضارة ما.

لذا يرى أن الحضارات الأصلية الأولى، أو ما يسميها الحضارات المنقطعة، قامت في مصر على نهر النيل وبين النهرين في العراق، حيث اخترعت الزراعة التي تحتاج إلى إصلاح الأراضي وردم المستنقعات وإقامة السدود والمصارف لتنظيم الري، وهذا يحتاج طبعا إلى سلطة مديرة ومنظمة لهذه الأعمال، أي إلى دولة مركزية، الأمر الذي أدى إلى اختراع الدولة ذات المؤسسات واختراع القوانين.

ومن جانب آخر، فإن الحاجة إلى ترضية واستئناس ما يعتقده الإنسان البدائي من وجود قوى خفية تتحكم في مصير الطبيعة ومصيره تولد عنه اختراع السحر وطقوسه واختراع الدين وما تولد عن ذلك من أساطير وفنون الرقص والتراتيل والغناء، وحتى أنماط معمارية متميزة متعلقة بإقامة المعابد والأضرحة. وحاجته إلى الخلود أدت به إلى تصور [اختراع] عالم آخر مواز يذهب إليه الإنسان بعد الموت وتولدت عن ذلك فنون التحنيط وطقوس الدفن وإنشاء المقابر، بدل ترك الجثث في العراء أو حرقها. 

يقال كذلك أن “الدهشة هي الأم التي أنجبت الفلسفة”. وهذا صحيح أيضا. إلا أن الدهشة مولدة للأسئلة والتساؤلات عن مصدر العالم ومعناه ومصيره، ومصدر الإنسان وموقعه ومآله. والحاجة إلى معرفة هذه الأمور انبجس عنها التفلسف الذي تبلورت عنه الفلسفة. وحاجة الإنسان إلى فهم مجتمعه ونفسه أسفر عنها اختراع علم الاجتماع وعلم النفس. وهذا ينطبق على العلوم جميعها وعلى الفنون والآداب بالمثل، فهي مخترعات لإشباع حاجات.

والحاجة ترتبط بالرغبة. إذ “تتجلى الطبيعة الديناميكية للحياة في صورة ‘‘رغبة‘‘. فدائما يكون هناك شيء نريده، حتى لو كان ما نريده هو التحرر من قيود الرغبة”1.
نريد أن نختم هذا المقال بعبارة شمس الدين التبريزي: “رأس مال المرء هو الحاجة”2.

____________________________
1- شون كارول، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، الصورة الكبرى: عن أصل الحياة والمعنى والكون ذاته، التنوير، بيروت – لبنان 2018 ص 403.
2- أنا والرومي: السيرة الذاتية بقلم شمس الدين التبريزي، ترجمها ومهدَّ وذيل لها وليام س. شيتيك، ترجمة: د. محمد ياسر حسكي، منال الخطيب. دار الخيال، بيروت- لبنان 2018.

مقالات ذات علاقة

ألوانٌ من الأدب

المشرف العام

عن الشعر والفلسفة

المشرف العام

ثمانون أمين مازن

المشرف العام

اترك تعليق