تراث

تمييز القصص الإيجابي (2 من 2)

ما نحاول أن نعرض له هنا، ومن خلال الانشغال بصورة المرأة التى تظهر فى القصص الليبى مما جرى رصده وتداوله جمعا وتوثيقا، ومن الشواهد الواقعية بما حملته بعض الإصدارات كما تجربة ميدانية تحققت فى بحثنا فى القصص الشعبى، كل ما سبق مصدرنا الذى سنستند إليه، وأنتج الانتباه لهذه الفرضية والمفهوم الاجتماعى للتمييز الإيجابى للمرأة (والذى له جذوره فى ثقافتنا قبل أن يظهر فى إعلان جون كنيدى 1961) بما يعنى منحها حقوقا مسلوبة، وهبت للطرف الآخر وحُجبت عنها، وسنقارب نماذج لذلك: حقها فى حرية الرأى والتعبير، بل واتخاذ قرراها عند ارتباطها بالطرف الآخر، وحقها فى المعرفة وتعلم كل جديد، وحقها فى العمل أسوة بالرجل.

ففى حكاية «بو سبع فرحات وبو سبع قهاير» وهى إشارة إلى أب لسبع بنات، وأخيه والد السبعة بنين، إذ يُفاخر الأخير بأبنائه ويُعير شقيقه الذى – حسب تصوره – أفقرنه بناته، لكن أب البنات يعرض لاختبار بين أكبر البنين وكُبرى البنات، يكون رحلة إلى سوق المدينة البعيد، ويوافق الشقيق مُرجحا فوز ابنه فى إنجاز المهمة، لكن الحكاية تنتصر للابنة الكبرى، إذ تستثمر الوقت والجهد وتُحسن التصرف تجاه كثير من المواقف التى تطرأ، وإن كانت حديثة العهد بمغادرة مكانها، لتصل وترجع محملة بالكثير مما أُوصيت بإحضاره، فيما يُضيع ابن عمها الوقت بربط حصانه عند الشجرة لأخذ قيلولة، مُؤملا تعطُل رحلة ابنة عمه، كونها فتاة ولا تقدر على اجتياز مصاعب الطريق، ولا التعاطى مع رجال السوق، تنتهى الحكاية بدرس يعطيه أبوالفرحات إلى شقيقه حين يرفض تزويجها لابنه الذى فشل فى المهمة، أما بطلة حكاية «دحية الصُل» فتجد نفسها فى أرض تجهلها إذ يتخلى عنها شقيقها فى اتهام باطل بفقد شرفها، وفى تلك الغابة وحيدة تبحث عن ما يسد رمقها من حليب الغزال والودان، وما إن تستجمع قوتها تنهض باحثة عن مكان تأوى إليه إلى أن تقابل صيادا، فتسرد قصتها له فيثق فى مسلكها، حالما يراقبها نائمة عند شجرة غير بعيدة عنه، ويحصل على موافقتها بالارتباط وقرارها الذهاب معه.

وتُعزز القصص الشعبية فيما تُظهره من أحداث فى متنها صورة المرأة الفاعلة فى علاقتها بالكد والسعى والعمل، فحضورها يبدو أكثر من مجرد المُشاركة وتقاسم أدوار بل يتجاوزه، إذا ما نظرنا إلى تفاصيل ما تنجزه داخل بيتها وخارجه، وكيف تُنظم وقتها بين أرضها زراعة أو رعيا، وبين زوج وأطفال، فلا تخلو قصة من القصص الشعبى من مُفتتح لوصف دأبها ومسئوليتها وحراكها كأُسٍ وعماد للبيت بأفعال: نهضت، زرعت، سقت، غذت وعشت أبنائها، حملت، حصدت.

ولنا أن نُسجل ملاحظتنا فى استقراء تلك النماذج من القصص على مستوى الجغرافية الليبية، لأننا سنتبين الفرق الواضح الذى يخضع للمحيط الجغرافى والبيئى الذى ظهرت فيه صورة تلك المرأة المخالفة للصورة النمطية، فقد حازت نصيبا فائقا من تأكيد حضورها وتأكيد حقها فيما أشرنا إليه من تمييز إيجابى فى بيئة الواحة والمجتمع الزراعى، حتى أن قصصا شعبية جرى توثيقها لواحات بالجنوب الليبى (نموذجا محروقة – محمد سعيد محمد، غات – قاسم يوشع ) تبرز عناوينها حاملة لاسم بطلات تلك القصص: «عيشة، أخضرة، جميلة، ذهيبة، أم الصلولة، زوجة حج»، فيما غابت المرأة صاحبة الدور الرئيس فى أغلب حكايات غرب طرابلس، التى جمعتها اللبنانية هنرييت سكسك فراج (إصدار دار الفرجانى 1976) إذ تقتصر مهمتها برعاية شئون بيتها ولا تغادره، كما يغلبُ على قصصها الانشغال بالزواج كمطلب مجتمعى هاربة من سلطة الأب لاجئة لسلطة الزوج، ولعل مزيدا من الجمع والتوثيق للقصص الشعبى يفتح الأبواب لنتائج تميط اللثام عن أدوار المرأة، ربما غاب رصدها ومثلت قيمًا مُفارقة مُغايرة لما شاع من صور نمطية لها.

مقالات ذات علاقة

خاطري نكتبني

المشرف العام

حكايات جدتى

نورا إبراهيم

خرابين يا وطن

المشرف العام

اترك تعليق