من أعمال المصورة التونسية سلوى الجوادي
قصة

صاحبة الفولكس

كانت باريس تغتسل ذلك الصباح رغم قشعريرة برودة تسري في أوصال طرقاتها الفسيحة، أما أزقتها فقد احتمت بالشرفات ومظلات الدكاكين، وتدفأت برائحة الكرواسن المتسللة من ثقوب المخابز.

 لم تكن حجرتي المطلة على الفناء الداخلي للعمارة تسمح بمعرفة أحوال الطقس. يحجز الفناء الذي يبدو كالصندوق حجرتي عن  شارع “لزانفاليد” العريض بالحي السابع، المرصعة أرضيته بحجارة البازلت التي تنزلق عليها السيارات، وعن المارة على قلتهم. يبدأ الشارع بمقبرة نابليون وينتهي بالمدرسة العسكرية، لا يوجد به سوى محطتي مترو، أقربهما إلى سكني المحطة المقابلة للكاتدرائية. الصوت الوحيد الذي يصل إلى حجرتي هو أجراسها، عدا ذلك، يمكن أن تكون حجرتي في أي بقعة من العالم.

تطرق “أني” باب غرفتي كل صباح طرقتين سريعتين وهي مارة بسرعة في إتجاه المطبخ، وتطلق تحية الصباح ” بونجور”، لولاهما لما كان بالإمكان تلمس النهار. كان الإفطار نصف خبز “باجيت” محمص ومملس بالزبدة ومربى الفراولة…

  • “أني” هل لديك مربى البرتقال؟
  • –           لا، لكن ما أن يفرغ هذا الإناء سأشتري البرتقال.. أتحبينه؟ به بعض المرارة.. لا أعلم فيما إذا كان الأولاد سيستسيغونه.
  • لا بأس “أني”.. أنا أحب الفراولة أيضا.

البرتقال يعني لي أن أشتم وأتذوق قطعة من الوطن… “الليم” المُطرح تحت الأشجار…المعبأ في الصناديق البلاستيكية الملونة. كان شوقي بشساعة حقول البرتقال التي تمتد على طول البلاد… لكن رغبة شديدة انغرست في داخلي أن أتعرف على هذه المدينة.

كانت باريس أنيقة.. سيدة أرسطقراطية، جميلة، بجسد نحيل، وشعر طويل مجعد، وعينين واسعتان، وابتسامة باهتة، تتكاسل كل فجر على مراكب السين، تجلس على الكرسي المعدني في حديقة اللكسمبورج، تدخن سيجارتها على درجات مبنى الأوبرا، تفلت ضحكاتها المغنجة في مقاهي سان ميشيل، تغضب في ساحة الكونكورد، تتسوق في ميدان فاندوم، وتسهر في “الطاحونة الحمراء”… تتوه في أروقة اللوفر، تتأمل لوحة “الجيوكندا” بلامبالاة، تلج محطات المترو تنتقل بين مقطوراته، تعتلي الدرجات لتخرج إلى النور وتستحم به.  

دفعت بكتفي الباب الخشبي الكبير في قوة بعد الضغط على الزر الكهربائي الذي سرت رعشاته في الباب، ما أن استقبلني النور حتى تساقطت حبيبات باردة على رأسي…المطر..

“مطر.. مطر…مطر/ أتعلمين أي حزن يبعث المطر/ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر/ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع/ بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع/ كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر”

صدح السياب في نفسي حتى غمرني كنهار ذلك اليوم الباريسي الذي أطل عليّ خجولا يتدثر بالمطر… اصطحبني ديوان السياب الأحمر الأنيق من غرفتي الواسعة المطلة على البحر إلى غرفتي الصغيرة المطلة على الفناء.

لوهلة، فكرت في التراجع والصعود إلى غرفتي لاصطحاب مظلتي، لكن المطر كان خفيفا ومنعشا فقررت المضي قدما بإتجاه الكاتدرائية المجاورة ثم  قطع الطريق باتجاه محطة “المترو”.

للمترو نكهة خاصة في باريس، كنكهة فنجان القهوة الصغير في صباحات باريس الذي يُتناول على عجل، كالتهام قطعة كرواسون بالزبدة تحت المطر، كصوت “إديث بياف” الشجي في ميدان مونمارتر أو رقصات “داليدا” السريعة. مترو باريس هو المزاج الباريسي الذي لا يتغير، مقصوراته الرمادية ومقاعده البرتقالية وصراخ مكابحه وهوائه الساخن وموسيقى متسوليه، هو الاشتراكية الباريسية حيث يجلس الجميع على ذات المقاعد في رحلات مشتركة عامة.

كنت قد نلت الماجستير وفي طريقي لتسجيل الدكتوراه في جامعة السوربون. تقع مكاتب التسجيل في حي لا أعرفه يسمى ” دو تولبياك” يقع على  مشارف الحي الصيني. كان المطر ما يزال محتشما، بدا لي وكأن السماء ترعاني في خطواتي المترددة التي تعكس ما في رأسي، لم أعد راغبة في مواصلة الدراسة الأكاديمية، في أن اقضي أيامي بين الجدران الباردة في مكتبة ” كيجاس”.. أتخيل تمثاله وهو يرتدي الروب والقبعة، ينظر إليّ من علٍ يراقب دخولي وخروجي وينفخ في ضميري كلما هجرت المكتبة إلى الشوارع المكتظة والمقاهي الحية والمشاة المستعجلين، والحدائق ودور الكتب التي تعرض الكتب والاسطوانات في صناديق خشبية على عتباتها، أنزل الشارع حيث ميدان سان ميشيل تنهمر المياه من نافورة عالية في صحن خزفي كبير يقف أمامها العشاق في مواعيد الانتظار، ثم أنزل نحو ضفة نهر “السين” حيث سفن “البينيش” المسطحة الراسية المستسلمة لضربات أمواج النهر, تحركها أمواج سفن “الباتو موش” الممتلئة بالسياح وهم يحيّون المشاة على الضفتين. هل ستنغلق باريس عند مكتبة العجوز “كيجاس” وتتكدس الكتب في رأسي، أم ستغزل خيوط النور والصور والحركة أفكاري؟  كانت قدماي تقوداني لكن أفكاري تهرب مني.

 ازداد وقع زخات المطر وكنت قد وصلت إلى مبنى التسجيل ، صعدت الدرج على أمل أن يخف أو أن تبقى مختبئة بين رغوة السحاب.

بعد أن أتممت التسجيل، خرجت مسرعة لكنني فوجئت بسيل الأمطار كخيط بلا نهاية فتراجعت لخطوات, وقبل أن أعود للمبنى توقف المطر فجأة، رفعت رأسي نحو السماء فلم أرها، وجدت مظلة واسعة سوداء تحميني،  ويد تمسك يدها بقوة، أدرت رأسي أبحث عن صاحب اليد الرحيمة، وقبل أن أتكلم، قالت لي:

  • سأخذك حيث تريدين.. هيا معي.
  • أه شكرا جزيلا…

لا أعرف وجهتها، ولم تعرف وجهتي، كانت خطواتها واسعة ونشطة وكان عليّ أن ألحق بها. قبل أن أبين لها وجهتي وهو محطة المترو، أشارت بيدها وقالت..

  • هناك سيارتي.. أين وجهتك.
  • مترو دو تولبياك.
  • آه، سأخذك بالسيارة إلى هناك.

اقتربنا من سيارة فولكس واجن خضراء داكنة من الموديل القديم، بدت في شكل سلحفاة تنحشر بين سيارات أخرى.

  • سيارتي قديمة وبها فوضى كبيرة…

ضحكت وأردفت.. “لكنها فعالة والأهم إنني أحبها..”

توقفت أمام الباب، فتحته وهي ماتزال ممسكة بمقبض المظلة الأسود، كنا محشورتين تحتها.. وكنت أحاول جمع الاوراق المبعثرة او على الأقل ازاحتها جانبا كي أجلس..

  • ارمي بها الى الكرسي الخلفي.. لم أعد بحاجة إليها.

كان الكرسي الخلفي أشبه ما يكون بسطح مكتب في أيام الامتحانات.. تبعثرت عليه الأوراق التي غطت كتبا مغلقة وأخرى مفتوحة امتلأت اسطرها بخطوط ورسوم وكلمات على هامشها…جلست، وشعرت أن قطرات المطر ستثقب  سطح السيارة، لكنها لم تفعل.. كانت تسيل من السطح المحدودب وتنزلق نحو النوافذ.. تحجب الرؤيا وكأنها لوحة سريالية لسلفادور دالي.

تذكرته، كنت قد اقتنيت كتابا للوحاته وانغمست فيها وحاولت فك شفراتها…

دخلت المرأة بصعوبة إلى كرسي القيادة وهي تحاول إغلاق مظلتها، ها أنا أراها بوضوح.. معتدلة القامة في أوائل عقدها الثالث، شقراء بشعر قصير. وحين التفتت نحوي وهي تنفض شعيراتها من بقايا المطر، رأيت عينين معشوشبتين ضيقتين ودافئتين… وثغر صغير مضموم يكشف عن أسنان متساوية.

  • يا لهذا المطر اليوم؟

ابتسمت وأنا أهز كتفيّ..

  • لدي مشكلة في مساحات السيارة، لكن لايهم.. أنت تريدين محطة المترو أليس كذلك؟
  • نعم
  • لابد وأنها قريبة. ثم أردفت وكأنها تستفسر عن معلومة،
  • هل أتممت تسجيلك في المبنى؟
  • نعم

قالت منتشية وباسمة…

  • آه أنا أوقفت قيدي.
  • آه
  • لم أعد أطيق الدراسة.. كانت تواصل حديثها وهي تدير مفتاح سيارتها وتثير المحرك…
  • اوف.. أمضيت سنة وشهرين محشورة داخل المكتبات المظلمة.. كنت أدرس في المكتبة الوطنية يوميا وأحيانا في كيجاس…

ما أن سمعت اسمه حتى اعتدلت في جلستي… التفتت نحوى تعلمني

  • كيجاس بالحي اللاتيني
  • نعم نعم أعرفها..
  • شعرت بثقل الساعات ثم الأيام ثم الأشهر حتى مضت السنة.. كان كاهلي يتقوس، أعبىء عينيّ بالكلمات ولم أعد أرى صورا ونضب خيالي…اكتشفت أنني لا أتّبع طريق حياتي التي أريد.

شرعت في القيادة والدوران في الأزقة، 

  • المسّاحات لا تعمل لكننا سنصل لا تنزعجي…حين رأيتك تقفين مترددة في الخروج نحو المطر، تذكرت حالي حين أتيت للتسجيل أول مرة..مترددة.. لم أحسم قراري فيما إذا كنت سأتجه نحو الدراسة الاكاديمية أم سأنطلق نحو سوق العمل. 

التفتت نحوي..بعينيها.

  • واصلت الدراسة لأنني لم أعرف ماذا أريد.. كانت أقصر الطرق.أنا سعيدة اليوم! هل تعلمين لماذا؟

شعرت بشيء من القلق…وتوجست…بالكاد أعرف هذه المرأة التي لم تتوقف عن الحديث منذ انطلقت معها تحت سقف المظلة…

كانت طرقات المطر تتواصل على السقف، والنوافذ، والمسّاحات تتحرك ببطء وبشكل متقطع دون جدوى، تستنجد بصوت مخنوق بين الحين والآخر.. أشكال سلفادور دالي تظهر من وراء الزجاج الذي تنزلق عليه المياه.

حين تأخرت في الإجابة، التفتت نحوي وكررت السؤال.. هل تعلمين لماذا أنا فرٍحة اليوم؟

نظرت إليها باهتمام وقد شعرت بأنها لا تنتظر مني إجابة، فاسترسلت..

-لأنني قررت أن أتوقف عن القيام بعمل لا أحبه! لن أواصل شهادتي العليا.

 اشارت بأصبعها نحو مقعدي…

  • في درج السيارة أمامك.. تذكرة سفر إلى الهند، سأزور نيبال أيضا..

ضحكت وقلت لها “الهمالايا؟”

  • لا لا.. ليس بعد، هل أنت من تلك المنطقة؟
  • لا أنا من شمال افريقيا..
  • اه سأزورها حتما يوما ما… تابعت
  • أحب المطر.. أحب قطراته، نقراته، طرطشة مياه بركته بقدميّ، لا أرغب في رؤيته باكيا من خلف الزجاج… أريد أن ألمسه وأتذوقه.

أخرجت طرف لسانها وهي تنطق بالكلمة الأخيرة…

  • ثم ماذا؟ سألتها…
  • سأعمل.. قد أدخل امتحان إجازة المحاماة.. أو أي عمل آخر.. المهم أن أعمل شيئا أحبه..

كبحت الفرامل فجأة حتى انتفضت وكدت أن أصطدم بالزجاج

  • باردون.. عفوا

جاوبتها 

– لا بأس…

فتحت الزجاج بسرعة دون أن تأبه بحبات المطر التي هوت نحو الداخل

  • مسيو.. مسيو. أين محطة المترو؟

جاء صوت رجالي متهكم… أنت تقفين أمامها الآن…

تأهبت للخروج…

  • وداعأ
  • رافقتك السلامة في  رحلتك إلى الهند.

نزلت مسرعة… كان وقع المطر على أشده، وكنت حريصة على أوراق تسجيلي التي خبأتها تحت معطفي..

انطلقت الفولكس بسرعة أمامي، تغطس عجلاتها وتدور بقوة في برك المياه وتحيلها إلى نافورات… بينما نزلت سريعا درجات مترو  “تولبياك” أحتمي من المطر بالنفق…

حين عُدت إلى غرفتي لدى “أني” كنت مبللة، استغرقت طوال الطريق في ذاتي. فتحت “أني” الباب وهي تفتح عينيها الزرقاوين الضيقتين

  • “هل أضعت المفتاح”
  • “بلى… في مكان ما في حقيبتي”
  • “لا بأس.. يبدو أن المطر أرهقك…”

لم يرهقني المطر..أرهقتني دقائق في سيارة فولكس واجن… وحين دلفت إلى غرفتي لم أحتمل ذلك الصندوق الذي يجاورها ويجعلها غرفة في أي بقعة من العالم عدا باريس.

لم أعد إلى مبنى تولبياك، ولم أذهب إلى مكتبة كيجاس..حملت كتاباً مصوراً للوحات سلفادور دالي، وأمضيت الساعات في بيت بيكاسو بحي “لوماريه”، وزرت موطن مونيه وجلست في حديقته الشهيرة أتأمل لوحاته فيها…توقفت طويلا أمام أيادي “رودان” المنحوتة في بيته بشارع “مسيو” وجلست في حديقته أمام تمثاله الشهير “المفكر” وهو يطرق برأسه ويتكئ على قبضته..تنزهت في حدائق “توليريه” ومماش “بارك مونصو”، وجبت شارع “لا ريفولي”، واحتسيت الشوكولا الساخنة في “كافيه كلوني ” بالحي اللاتيني وتربعت على بساط مكتبة “لو فناك” بين أرفف الكتب أقرأ…

حين ودعت غرفتي المطلة على الفناء الداخلي بالحي السابع، إلى شقة بالحي الثامن عشر حيث ينشر النهار أشعته ويدغدغ جدرانها ويبلغ المطر عن هطوله، حيث هضبة منمارتر ورساميها وموسيقاها، كنت قد قررت ارتداء روب المحاماة الأسود تتدلى من خلفه قطعة من فراء الأرنب.   

رافقتني هذه المرأة بقية سنوات حياتي…حرصت أن أزور الهند، أن اكتشف معابدها وأسواقها ومدنها وأن يعدو بي حامل “الريكشو” في أزقتها كما فعلت بي ذات يوم في سيارتها الفولكس الخضراء.
____________________________________
باريس 27 نوفمبر 2018

مقالات ذات علاقة

أنا وحذائي والموناليزا…

هدى القرقني

مسعود وأخواته

جود الفويرس

المِخْلاة

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق