المقالة

عن الفن والوجه غير المضيء للقمر

بوابة الوسط

في دورة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2013 كانت ليبيا ضيف شرف المعرض لأول مرة وكنت أنا أيضاً لأول مرة ضيفاً مشاركاً ضمن قائمة كبيرة لوفد رسمي ليبي ضم كتابا ومثقفين وفنانين تشكيليين وموسيقيين من الجنسين جاءوا من مختلف مناطق ليبيا. لم يسبق لي من قبل أن زرت معرض القاهرة الدولي للكتاب ولا المشاركة ضمن وفد رسمي ليبي، لذلك تعجلت سفري للقاهرة متشوقا لزيارة القاهرة والاستمتاع برفقة وصحبة أصدقائي من الكتاب الليبين والعرب وانتهاز الفرصة كذلك للتعرف على من لم ألتقه من الكتاب الشباب الجدد الذين ذاعت أسماؤهم وشهرتهم في السنوات الأخيرة.

كان الجناح الليبي الرسمي كبيراً ومنسقا بذوق جميل قام بتصميمه والإشراف على تنفيذه الفنان التشكيلي صديقي عمر جهان وضم معظم الهيئات الثقافية الليبية ذات الصلة بالكتاب وبالثقافة والفن كما ضم الجناح صالة محاضرات صغيرة استضافت العديد من النشاطات واللقاءات وبحضور متميز ومن ضمنها ندوة عن الفن التشكيلي في ليبيا أدارها الفنان التشكيلي الصديق على العباني بمشاركة من فنانين تشكيليين ليبيين من ضمنهم الفنان عمر جهان.

تناول المتحدثون المشاكل التي تتعرض لها الحركة التشكيلية في ليبيا والعراقيل التي تواجهها وخاصة افتقاد الاهتمام بالحركة والفنانين وغياب النقد التشكيلي وغيرها وأذكر أن صديقي الفنان عمر جهان بدأ مساهمته في الندوة بجملة بمثابة بيان: “للأسف الفن لن ينقذ العالم.”
لم أعد أذكر بقية ما قاله عمر لكني أذكر أنه عندما فتح الباب أمام الحاضرين للنقاش طلبت الكلمة وبدأت مداخلتي برد على جملة – بيان عمر جهان سالفة الذكر وأذكر أني وافقت عمر على جملته – بيانه قائلاً صحيح أن الفن لن ينقذ العالم لكن الحياة بدونه لا تطاق وهو ما يجعلنا قادرين على مغالبة أوجاع الحياة والرغبة في مواصلة العيش عبر إغراء المتعة والجمال وبذر الأمل.
ما الذي جعلني أتذكر تلك الواقعة الآن؟ وما الذي يجعلني أفكر في قضية أو قضايا الفن ووظائفه وهي من المواضيع والقضايا التي قتلت نقاشاً وجدالاً وسجالاً وبحثاً خلال معظم سنين النصف الثاني من القرن الماضي وخاض فيها الكتاب والفنانون والمثقفون من كل الأطياف؟
قد لا تصدقون إن أعترفت لكم أن هبوط المركبة الفضائية الصينية صباح الخميس الماضي الموافق 3 يناير 2019 على سطح الجانب المظلم للقمر كان السبب أو المسبب لذلك.
ما العلاقة ياترى بين موضوعة وظيفة الفن ووصول مركبة فضائية صينية إلى سطح جانب مضيء أو مظلم من كوكب القمر؟ سؤال وجيه جداً ومشروع قد يتبادر إلى ذهن القاريء لهذه السطور وللإجابة على ذلك أقول إنني سمعتُ ودرستُ وقرأتُ في مختلف المراحل التعليمية عن الجانب غير المضيء للقمر لكني وهذا اعتراف لم يكن الموضوع ليشغلني آنذاك من بعيد ولا قريب بل كان يملؤني ضجراً ويزيدني مللاً وكنتُ على استعداد لتجاهله أثناء الدروس ونسيانه بعدها وكأنه لم يكن.
الجانب المظلم للقمر أثارني وشد انتباهي وحرك خيالي وأسئلتي والتصق بذاكرتي كغراء طوال هذه السنين حين سمعته في النصف الأول من بداية السبعينيات من القرن الماضي في ألبوم غنائي أبدعته فرقة (Pink Floyd). هنالك، في تلك اللحظة الزمكانية حين كان المغني الأول يصدح: “سأراك في الجانب المظلم للقمر” تلك الجملة – الصرخة أيقظت خلايا عقلي وأفلتت عقد خيالي ليسرح راكضاً خارج مدركاته اليومية ليصل على أنغام الموسيقى وسطوة الفن وسحره لذلك الجانب المظلم ليس فقط من كوكب القمر بل مما تراكم في القلب والروح من هموم الشاب الغض الذي كنته وحرّك في ذاتي تلك الرغبة للتحرر والانفلات من ربقة الألم الذي كان يقتات من طراوة لحم قلبي ويجثم على شمس روحي ككابوس.
لذلك حين تابعتُ نشرات الأخبار العالمية وهي تصف الوصول المفاجيء لتلك المركبة الفضائية الصينية لذلك الجانب المظلم من القمر للمرة الأولى في تاريخ البشرية لم أتذكر ما كان مدرسو الجغرافيا يحاولون جاهدين حشوه في عقلي الضجر من معلومات عن القمر بجزئيه وكأنهم يلقون بها في إناء مثقوب لكني بدأت أسمع في داخلي من جديد ذلك اللحن وتلك الأغنية وتلك الجملة تحديداً وكأن قوى سحرية ضخت في جسدي بدم الشباب من جديد أو كأن روحي وقد نفضت في لحظة ما تراكم فوقها من غبار عبر السنين ورفرفت عالياً كأغنية طليقة في عالم بلا قيود أو حدود أو هموم وأحزان.
قد يكون صحيحاً أن ليس بمقدور الفن إنقاذ العالم لكنه يقيناً قادر على إيقاظ روح الخلق والإبداع وحب الجمال في قلب الإنسان أينما كان وحلّ وزرع بذار الحب المضيئة في أقصى حناياه عتمة والرقي به وتهذيبه ليمارس إنسانيته برقي وذوق ويستطعم بعذوبة ماتقدمه له الحياة – رغم قسوتها- من متع صغيرة وقليلة لكنها بمثابة مؤونة وذخيرة لروحه المتعبة لتواصل سيرها الدائب في سعيها بحثا عن نهار وحياة أفضل ومضيئة بالأمل.
هنئياً للإنسانية بما حققته الصين من فتح علمي مذهل لن يضيء فقط عتمة الجانب المظلم لكوكب القمر بما سيكشفه لها من معلومات بل سيفتح أمامها آفاقا علمية جديدة تشرع الأبواب على مصاريعها أمام الخيال والإبداع البشري لينطلق لفتح مغاليق الكون بأداة العلم وكشف ما يكتنفه من حجب وأسرار.

مقالات ذات علاقة

الأمازيغية وحرية الصحافة في ليبيا

المشرف العام

الجهاد الاسلامي، مسيرة نضال في زمن الخنوع

ميلاد عمر المزوغي

منبت الاٍرهاب

علي عبدالله

اترك تعليق