الملحمة الإبراهيمية التي نقرأها في الآيات من ( 75 الى 79 ) من سورة الانعام ، ليست فقط قصة نبي من أنبياء الله ترد في القران لنعتبر بمعاناته ونعرف مدى قوة يقينه وايمانه ، ولنقتدي به ، بل هي تتجاوز ذلك لتلقي ضوءا على الواقع الراهن وعلى كثير مما نعايشه ونعيشه من اشكاليات وازمات .
انها ترينا بداية ، الكيفية التي اكتشف بها ابو الأنبياء حجر زاوية الدين واساس الايمان ، فبتطلعه .. مدفوعا بنزوع فطري عميق واصيل متجذر في نفس كل إنسان .. في مكونات عالمه باحثا عما يمكنه ان يرضي ذلك النزوع ومايطرحه من تساؤلات ، وهو بحث كما تخبرنا الآيات الكريمة سار بخطوات تأملية عقلانية ، انتهى به الى تقليب ناظريه في السماء .. وما نتج عنه من اخفاق مارآه فيما هو قريب منه في طمأنة نزوعه ذاك ، يتطلع الى الاجرام السماوية ملاحظا حركتها في تزامنها مع تحرك الوقت فمن اول الليل وظهور الكواكب بينة في السماء الى انكسافها بسبب ظهور القمر وتوسطه قلب السماء وانتهاءا بانسحاب القمر بدوره مفسحا الطريق للشمس لتتربع في سماء النهار .. ليثبت له اخفاق تلك الاجرام هي الاخرى في ان ترضي دافعه العميق ، وأفضى به ذلك الى مايعتور تلك الاجرام من نقص ، يجعلها أدنى من ان ترضي نزوعه ، والى حاجتها لقوة تتجاوزها وتسمو عليها وتكون بالضرورة سببا لوجودها ، وقادرة في نفس الوقت على طمأنة نزوعه الفطري ذاك والاجابة على ما يطرحه ذلك النزوع من تساؤلات ، ليصل في النهاية الى اكتشاف أسمى المبادئ على الإطلاق .. مبدأ التوحيد .. الذي تصوغه عبارة .. لاإله الا الله .. وكان ذلك المبدأ وحده قادرًا على الاستجابة لذلك النزوع الفطري الى التجاوز والسمو الى مايعلو على واقع .. الان وهنا .. وكل ماهو متاح ومتداول في إطار ذلك الواقع .
ولا تتوقف فاعلية ذلك المبدأ عند هذا الحد ، بل هو الاصلح من كل المبادئ ليبنى عليه الانتماء البشري ويتأسس الاجتماع الإنساني ، فهو الذي يحدد معنى ذلك الانتماء ويضفي القيمة عليه ، وذلك ما نراه بوضوح اذا ما واصلنا التامل في سيرة ابي الأنبياء عليهم السلام .
فقصة التضحية وصدوع ابراهيم واسماعيل عليهما السلام بأمر الله بها ، يلقي ضوءا يُرينا مايعنيه الانتماء وكيف يقوم الاجتماع البشري على أسس إيمانية توافق مبدأ التوحيد ، فقبول ابراهيم التضحية ببكره وصدوع اسماعيل بالأمر الالهي الذي ابلغه إياه والده يظهرنا انه لامعنى ولاقيمة للأبوة والبنوة .. وهما أقوى وأوثق روابط الرحم بين البشر .. الا بتاسسهما على مبدأ التوحيد وهو ما ينطبق على كل الروابط التي تقوم بين الأفراد والجماعات في كل اجتماع بشري ، الى ذلك فان افتداء الخالق لإسماعيل بكبش إنما هو تاكيد لتكريم الانسان من قبل خالقه وتبيان للمكانة التي خلق لها في مراتب الوجود والتي تليق به دون غيره من كائنات عالمه ، وهي مكانة لا يفقده إياها الا انحرافه عن ذلك المبدأ العظيم وعن منظومة القيم الاخلاقية والحقوقية المؤسسة عليه والمؤهلة اكثر من غيرها من المنظومات القيمية لتنظيم حياته وعلاقاته الاجتماعية ، كما ان ذلك الفداء يعلمنا ان لاشيء يستحق ان يضحى بالانسان من اجله او ان يضحي الانسان بنفسه ، الا اذا كان أسمى من الانسان ، وليس ذلك سوى الخالق تعالى وما اراده للإنسان من روابط إيمانية به تعالى ورحمية مع أخيه الانسان شرط ان تتأسس على مبدأ التوحيد ، والذي عليه ايضا تتأسس علاقة الانسان ببقية موجودات المسخرة له معرفيا ومعاشيا ( الله الذي خلق السماوات والأرض وانزل من السماء ماءا فاخرج به من الثمرات رزقا لكم . وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره . وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين . وسخر لكم الليل والنهار ) … ابراهيم 32 , 33 … ( الم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأَسْبَغ عليكم نعمه ظاهرة وبَاطِنَة ….. ) لقمان 20 ( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) … الجاثية – 12 و 13.
إيمان ابراهيم الذي تأكد عمليا من خلال تلك الملحمة الإيمانية وما أكملها من قصة التضحية والفداء ،أهله للوعد الالهي له ولنسله من بعده بتوريثهم ماسمي بأرض الميعاد ، وذلك مايجعل من ذلك الوعد تكليفا والزاما لهم بزرع بذرة التوحيد في الارض الممتدة بين اقدم حضارتين في التاريخ ( حضارة مابين النهرين في العراق وحضارة النيل في ) اللتين تزامنتا مع زمن ابراهيم ، وكانتا وثنيتين وتلك حقيقة تجعل من ذلك الوعد متوقفا على العزم والسعي من اجل زرع بذرة التوحيد في ارض الميعاد ، ولم ذلك الوعد محاباة من الخالق .. جل وعلا .. باعتبارهم شعبه المختار كما يزعمون بصفاقة .
وذلك زعم جاء مع غيره من مزاعمهم ، لعدم استساغتهم لذلك ولغيره من المعاني التي اغتنت بها صحف ابراهيم وألواح موسى ودعوتاهما ، والتي تتأسس في مجموعها على مبدأ ، وذلك مافتق عبقرية الشر لديهم على تحوير ماجاءت به الدعويين الكريمتين وتزوير ما انطوت عليه الصحف والألواح ، ودعتهم عنصريتهم وتعصبهم المقيتين الى الاستعاضة عن أسمى المبادئ بمبدأ ذلك الذي قال : – ( أنا خير منه . خلقتني من نار وخلقته من طين ) واختزلوا الدين القويم في ايديولوجيا اقنومية قوامها ( رب الجنود – الشعب المختار – وأرض الميعاد ) جاءت عزفا نشازا على أوتار الفطرة ، وتجسيدا فجًّا لنزوعاتهم الاستحواذية .
بذلك افسد عزرا المسمى بكاتب الوحي وكهنة واحبار اليهود رسالة السماء ، بان حولوها الى ايديولوجية مقفلة ضيقة الأفق كامدة ، ولم يستنكفوا في سياق ذلك الإفساد المدفوع بالنزوعآت الاستحواذية عن ادعاء ان الخالق تعالى ربهم وحدهم دون بقية خلقه ولا عن ادعاء انهم شعبه المختار من بين غيرهم من الأقوام ،لا لشيء الا ليبرروا مايزعمونه من حق في ارض الميعاد التي وعدهم بها وأورثهم إياها .
ولم يكتفوا بذلك ، بل هم ما ان بعث عيسى بن مريم عليه السلام ومناداته بالمحبة والتسامح المؤسسين على مبدأ التوحيد حتى قابله أحبار اليهود وكهنتهم فريسيون وكتبة بالعداء والتكذيب والسخرية والاضطهاد له ولمن أمن بدعوته التي كانت ثورة داخل اليهودية استهدفت تقويمها وإعادتها الى نقاءها الاصلى الذي نزلت به ، لكن ما ان رفع عليه السلام الى السماء حتى استحوذوا على دعوته ، فانبرى الفريسي بولص الذي عرف بشدة عداءه للسيد المسيح ودعوته واضطهاده لاتباعه والمؤمنين به ، وزعم انه رأى السيد المسيح في حلم وانه عليه السلام اصطفاه وحمله مسؤولية الدعوة الى دينه والتبشير بها في كل اصقاع الارض وبين كل شعوبها ، كما ان بولص هو من قيد رسالة عيسى بالصيغة الاقنومية التي تعرف بها ( الأب – الابن – والروح القدس ) التي ليست غير صيغة إضافية لما احدثه عزرا من قبل بالتوراة ، وتحويرا شكليا فيها يجعلها مقبولة لدى غير اليهود ، وذلك ماحدث فعلا فقد تمكنت الأيديولوجية اليهودية الاستحواذية من غزو الشرق الأوسط والتمدد حتى أوروبا عبر روما وفرضت نفسها على الثقافة الغربية ذات الأصول اليونانية الرومانية ، لتعرف من بعد بالرافد الشرقي للثقافة الغربية مجسدا فيما يعرف بالتراث اليهودي .
اما في الشرق مهبط الوحي فقد ظلت تلك الايديولوجيا بصيغتيها .. العزراوية والبولصية .. فاعلة وموثرة ومهيمنة على غرار كل الديانات الأسطورية المعروفة آنذاك ، حتى بعث محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي وانزل عليه الكتاب الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لتكون دعوته هي الاستجابة النهائية لنزوعات الفطرة الانسانية والاجابة عما تطرحه من تساؤلات ، جاء الاسلام ليعيد الانسان الى المبدأ الاسمى وليوثق بذلك بذلك علاقته بخالقه ، وبمنظومة من القيم الاخلاقية والحقوقية السامية قوامها الحياة والحريّة والمساواة والعدالة والكرامة والحكمة والمحبة وتتصدرها جميعا قيمتا المودة والرحمة وذلك لتحديد علاقة الانسان بالانسان .. نفسه والأخر ، ثم يجيء مفهوم .. التسخير .. ليكون الاستجابة لنزعة التملك والاجابة على ما تطرحه من تساولات ومحددا لعلاقة الانسان ببقية المخلوقات التي سخرت له لا ليتسلط عليها مثلما تزعم التوراة المزورة ، ولكن ليتمكن بالتعاطي معها ومعاملتها باحسان وفق ذلك المبدأ السامي والقيم المؤسسة عليه من تحقيق انسانيته وتأكيد خلافته لله في الارض . ووفقا لهذا الفهم لا معنى لأية ايديولوجيا تزعم انها تجسد الاسلام او يُزعم لها ذلك نكوص الى اصطبل عزرا المسيج باقانيمه التي يربط بينها العنصرية والتعصب و النزوعات الاستحواذية .
ويبقى الأمل في ان ما يبدو لنا باهرا ومهيبا مثل تمثال الحرية فيما نلقاه في عالمنا من دعايات ودعاوى ايديولوجية لا يفلح في اخفاء حقيقة انها مثل ذلك التمثال جوفاء وفارغة .