شخصيات

تراث الأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر.. أكبر مصادر ومراجع تاريخ ليبيا

سلسلة روّاد الإصلاح في ليبيا – 1

أسامة علي بن هامل*

مسجد سيدي عبدالسلام الأسمر بمدينة زليتن (الصورة: عن الشبكة)
مسجد سيدي عبدالسلام الأسمر بمدينة زليتن (الصورة: عن الشبكة)

تعاني ليبيا نقصاً كبيراً في مصادر ومراجع تاريخها المكتوب؛ فأقدمها على حداثتها “التذكار” للشيخ محمد بن غلبون (من رجال القرن 12 هــ 18 ميلادي)، و”المنهل العذب” و”نفحات النسرين والريحان” للشيخ أحمد النائب (ت 1336 هــ 1918م)، و”اليوميات” للشيخ حسن الفقيه حسن (ت 1248 هــ 1832م)، وما جاء بعدها كان عالة عليها أو على مصادر ومراجع كتبتها أقلام من خارج البلاد.

لكن بلادنا في المقابل غنية حد الثراء بمصدر يعد من أعلى المصادر ثقة، وأقصد به التراث الشفوي للأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر، رضي الله عنه، بما فيه من تفاصيل وأحداث وأسماء أعلام ليبيين، وتوثيق لأنماط العيش والحياة الاجتماعية والثقافية من زوايا أهملتها المدونات التاريخية المكتوبة.

فمن خلال 700 قصيدة باللغة العربية الفصحى، و400 قصيدة باللهجة العامية، و800 على أوزان الششتري، و500 على أوزان الجعراني، وعدد لا يحصي من الأشعار الملحونة، يعد سيدي عبد السلام في مقدمة من أرخوا للبلاد، وللدلالة على ممارسته للتأريخ بطريقته الخاصة أنك قلما تجد ليبياً لا يحفظ شيئاً من قصائده ما يعطينا دافعاً لدراسة منهجه الخاص في التأريخ.

منذ سبعينات القرن الماضي تراجعت سيطرة مدرسة النص والوثيقة في مناهج البحث التاريخي لصالح مدرسة قراءات المصادر البديلة وعلى رأسها التاريخ الشفوي، وعاد الاهتمام بشكل كثيف بالأراشيف القديمة والتفكير في تطويرها والبدء في تسجيل شهادات الحاضر ليستمر رصيدها ويقويها كمادة مصدرية للبحث، وتأسست تبعاً لذلك نظريات فرعت علوماً جديدة كعلم اجتماع المعرفة والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار، بدأت جزراً منفصلة وها هي اليوم، لديهم، تتكامل لنتج معارف يؤسسون عليها مستقبلهم، أما نحن فلا دور لنا سوى الاجترار والتقليد وترك ما بينا يدينا من نفائس وكنوز.

كل العالم اليوم بات يعرف “حي الشيخ جراح” في القدس الشريف، وكيف استطاع أهل القدس تحويل ضريحه وزاويته الى وثيقة تاريخية صدت محاولات الاستيطان الصهيوني والتهويد، وكيف انبرت الذاكرة المحلية، المزدحمة بالمرويات الشفوية طيلة 900 سنة عنه، لتفرض اسم “الشيخ حسام الدين بن عيسى الجراح”، تلميذ القطب الأعظم سيدي عبد القادر الجيلاني، قيمة وطنية في خطابات الساسة والقادة حول العالم ومحل اهتمام نشرات الأخبار، أحبطت كل أشكال ومحاولات تحويل الحي على مستوطنة، وهو أدركه الصهاينة عندما سعوا لاستهداف ضريحه وزاويته القادرية.

مئات القصص والأخبار طالعها العالم عن الشيخ الجراح، لم يكن مصدرها سوى الذاكرة المحلية بما تحمله من مرويات شفوية، ولو بحثت في مصادر التاريخ المكتوبة لما عثرت على أكثر من ستة أسطر في ترجمته الخالية من أي حديث عن الزاوية الجراحية ودورها، لكنك ستجد مئات الروايات التي يتناقلها أهل القدس حولها ومن حل فيها ودرس وتخرج، ولا أدل على دورها العظيم من بقاءها حتى اليوم رغم مرور تسعة قرون على تأسيسها.

لقد خطى جيراننا، في أقطار إسلامية وغربية مجاورة، خطوات مهمة لحفظ تاريخهم الشفوي غير المكتوب، فتجد بعضها بادر إلى تسجيله منذ أن أعلنت منظمة اليونيسكو عن قائمة التراث اللامادي العالمي، كما فعلت الجزائر، إذ سجلت الزاوية الشيخية وما حولها من تراث غير مكتوب، وركب أولاد سيدي الشيخ، وكذلك المغرب ومصر وغيرها، أما نحن فقد رأيتم مندوب بلادنا لدى اليونيسكو أقام الدنيا وما أقعدها لأنه لم يستطع تسجيل “طبق الكسكسي” في تلك القائمة، بل واحتج على البرلمان والحكومة لعدم ردهم على مراسلته لحماية “الكسكسي”.

ومن يحتج على قيمة وأهمية التراث الشفوي، فله أن يتذكر أن أهم مصادر ومراجع التاريخ الإنساني كتبت من واقع روايات شفوية، وأولها وأشهرها تاريخ هيرودوت الذي وثق تاريخ أقطار وبلدان بعيدة لم يزرها من خلال مسموعاته عمن رآها وزارها، وأهم منه أن أغلب المعارف والعلوم الإسلامية وصلت لمدونيها، من أسلافنا الكرام، بواسطة الرواية عبر سلاسل الإسناد، وتطورت حولها علوم جليلة تعكس اهتمامهم بها؛ كعلم الجرح والتعديل وعلوم الرجال بمختلف فروعها.

لقد توفرت في إرث سيدي عبد السلام كل شروط الاهتمام به كمؤرخ ليبي بارز، فتجد فيه عملية النقل والتحقيق والتحليل والمقارنة، كما أنه إمام أجمعت الأمة على إمامته، يقول العالم الحجازي سيدي عبد الرحمن بن علي الشريف المكي، في كتابه الصغير، عن سيدي عبد السلام (ولوعاش بعد ذلك لاتخذه المشارقة والمغاربة مذهبا لعلو ذوقه).

وتزيد أهمية التراث الشفوي لسيدي عبد السلام إذا عرفنا أنه غطى قرناً من الزمان؛ إذ ولد رضي الله عنه عام 880 هــ 1475م وتوفي عام 981 هــ 1574م، وبذا فقد عاصر نهاية الفترة الحفصية، ثم الاحتلال الاسباني ومنظمة فرسان القديس يوحنا والفترة العثمانية الأولى، وغطى تراثه الشفوي كل تلك الفترات.

بل وكل حياة الأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر لا تزال تحتاج بحوثاً عميقة تتجاوز مخلفات طريقة تفكير العقول المستوردة في الفترات الماضية – سواء العقول التي صاغت المناهج الغربية الحداثية طريقة تفكيرها عبر مئات الموفدين على الجامعات الغربية أو العقول التي حجرتها الوهابية وأوقفت عملها في حدود منتجات القرون الموغلة في القدم – وعلى سبيل المثال لا الحصر:

– المدرسة الفنية الليبية الخالصة والفريدة التي أرسى معالمها سيدي عبد السلام الأسمر، فلم يُسبق إلى هذا النمط في فنون قريض الشعر، واستخدمه لآلة “الدف” بشكل متقدم وفريد.

– ويمكن التفريع من المثال السابق بحوثاً عن طريقة تقديم سيدي عبد السلام لرأيه في المسائل الخلافية بشكل عملي تطبيقي، مثلاً حول مسألة الفنون والموسيقى المختلف حولها بين فقهاء الإسلام، والأمثلة كثيرة في هذا الجانب.

– الكم الكبير من المناظرات التي احتواها التراث الشفوي لسيدي عبد السلام مع عدد لا يحصى من علماء البلاد وخارجها، وطريقة مناظرته التي أرسى فيها قواعد خاصة في البحث والمناظرة وأخلاقياتها، بدلاً من استحضار النصوص وبحث أدلتها وتوجيهها والأخذ والرد.

– قضية “الدف”، لوحدها تحتاج غوصاً وعمقاً، فليس من المنطقي أن يسافر إمام المالكية في الأزهر سالم السنهوري من القاهرة، والشيخ الحطاب من مكة، والعاقب بن أقيت من تنبكتو من أقصى مجاهل أفريقيا، كلهم وغيرهم إلى زليتن، في تلك الظروف القاسية حيث يضطر الواحد منهم لقضاء الشهور مسافراً، فقط ليناظروا سيدي عبد السلام حول شرعية ضرب “البندير” وإنكاره عليه، وقبلهم والي طرابلس وقاضيها يقدم على نفيه ثم يلاحقه بجيش لجب لحصاره في منفاه في قلعة سوف الجين فقط لأنه يضرب البندير!، فالأمر يستدعي دراسة أعمق وأوسع حول قضية “الدف” الذي صار علماً عليه رضي الله عنه، وقد نبه شيخنا العلامة الليبي د. أحمد القطعاني، رحمات الله تترى عليه، إلى بعض الجوانب المتعلقة بهذه القضية في مقال له عنوانه ( وانتصر بندير سيدي الشيخ عبد السلام الأسمر وقصائده وموسيقاه على ترانيم الكنيسة) ، وكان آخر مقال له في سلسلة ( مقالات أهل الحق ) التي كان يكتبها يوم 23 / 8 من كل عام.

هذه أمثلة من عشرات غيرها، وقبل أن أغادر مكتوبي هذا، أرجو منكم قراءة ما كتبه شيخنا العلامة القطعاني بوعي ومسؤولية تجاه موروث سيدي عبد السلام الأسمر وقصائده فتح فيه آفاقا للبحث منبهاً الى أنه محور هوية الليبيين، في مقال عنونه بــ (هويتنا في فكر الشيخ عبد السلام الأسمر) ص 6 من كتاب “سري للغاية”، على هذا الرابط (هـــنــــا).


* رئيس مركز العلامة الليبي أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الصوفية

طرابلس – ليبيا / 23 / 8 / 2021م

مقالات ذات علاقة

في مثل هذا اليوم رحل عنا الدكتور محمد عبد الكريم الوافي

محمد عقيلة العمامي

محمد الشلطامي وتحديث النص الشعري

المشرف العام

يوسف الشريف يواجه محنة الإهمال

مهنّد سليمان

اترك تعليق