.
سالم الكبتي
.
سيدة ليبية عاشقة للوطن، تتدفق حماساً وحيوية وإنسانية، وتتوهج -إلى حد رأسها- بحب الآخرين والعطاء الذي لاينتهي.. فيما كانت تلوح -مع تقادم الأعوام- كأنها في “ربيع العمر” متجلية بموهبتها الكبيرة في العمل والتضحية والإيثار.
حميدة محمد طوخان.. واحدة من رائدات العمل النسائي والتطوعي في ليبيا، ومن السبَّاقات لنشر التنوير والتعليم والوعي مع زميلاتها الرائدات: بديعة سرور، وجميلة الإزمرلي، ثم خديجة الجهمي (وهي تلميذتها)، وغيرهن اللواتي اكتوين بالجراح مبكراً، وحملن مشقة التأسيس لنهضة نسائية ليبية.
قبيل الغزو الإيطالي سنة 1911، درست في تركيا ونالت شهادة من هناك، وعندما عادت إلى الوطن، الذي احتل بكامله ولَّت وجهها إلى نوع آخر من الجهاد، انصرفت بكل وقتها وحبات عرقها إلى تدريس البنات ففتحت سنة 1917 مدرسة في بيتها في بنغازي لتعليمهن مبادىء القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وكذا تعليم الحياكة والتطريز وأشغال الإبرة إضافة -وهو الأساس- إلى تهجي حروف مضيئة طوال النهار تكوّن عنواناً اسمه “ليبيا”.
بهذا الجهد الإنساني بهذا الصبر المتناهي استطاعت وغيرها أن تحمي الكثيرات من أنياب الجوع الكافر.. فأغلبهن تشردت أسرهن جراء الحرب وربما سيواجهن الضياع والمذّلة وتنحدر أوضاعهن إلى ماهو أفضع.إذا لم يجدن “الملاذ الآمن “.
وكانت الإمكانات والوسائل بسيطة متواضعة لكن العزيمة من فولاذ.. والحماس ظل يزداد اشتعالاً مثل نار أزلية لاتنطفيء مضيئة الطرقات عبر سواد “الإظلام” الكريه.
في فترة لاحقة من تلك السنوات اشتهرت “الخوجة حميدة ” باسم “حميدة العنيزي” عقب زواجها من “عبد الجليل العنيزي” الضابط الليبي سابقاً في الجيش التركي والمتوفى ببنغازي سنة 1948 الذي لم تنجب منه، غير أن هذا اللقب سيغلب عليها إلى وفاتها.. وسيبقى لصيقاً بنضالها الدؤوب من أجل قضية المرأة في تلك الفترة من الزمن الصعب.
في سنة 1920 ومابعدها قامت بالتدريس في مدرسة (بن عيسى) وغيرها من مدارس وأدارت بعضها باقتدار، وأدت دوراً تربوياً وتعليمياً كبيراً في مجتمع دروبه في بعض الأحيان عوج وتقاليده شائكة.. ووجود الرجال طاغياً، والأمية والعادات الموسومة بثقافة متأخرة تضرب بجذورها في العمق.
كان العمل صعباً للغاية، وعوامل الاقناع والفهم ليست سهلة أو متيسرة كان الوطن كله يطفح بالجهل أو (التجهيل) لظروف الاحتلال وكان دور “الخوجة حميدة ” مهماً فتصدت بكل مسؤولية مع زميلاتها لأداء هذا الدور عن طيب خاطر وهو مايحسب لها ولهن على الدوام.
وفي جانب آخر على الضفة الأخرى كانت الأحلام والأماني (كـباراً) ثم ظلت تكبر وتتسع وتحلَّق على مدى الأفق كله، فهزمت اليأس والإحباط ببضع حبات عرق مباركة.. ونظرات تتجه إلى المستقبل.. تصنع الأمل.
لقد نهضت برسالتها وهي في كل حال ظلت عنواناً للمرأة الصبور الواعية التي تعمل وكأنها تنسج عباءة.. أو تغزل صوفاً.. أو تنشد قصيدة من الشعر الجميل.
في العدد الصادر من مجلة البيت في فبراير (النوار) 1936 وكانت المشرفة على تحرير صفحة (الجنس اللطيف) تكتب مقالاً عنوانه (إلى بناتي الليبيات العزيزات)، وتقول في إحدى فقراته:
(هذا صوت كاد يخنقني من مدة بعيدة أردت أن أزعق به ولكن السكوت القائم حولي كان يمنعني من رفع الصوت، المرأة هي الشطر الأهم في إنتاج الذرية، فينبغي أن تكون معلوماتها أكثر من الشطر الآخر فهي قوام الهيئة الاجتماعية وعماد تقدم الأمم، وبكلمة واحدة هي أول وآخر مربي للإنسان، بهذه الاعتبارات يجب أن ننظر إلى المرأة، بل بهذا التقدير والاعتماد على النفس يجب أن تنظر المرأة إلى نفسها فتعمل لتحقيق ماتتطلبه من الإصلاح والرقي، لذلك أوجه كلمتي اليوم إلى كل بنات ليبيا داعية إياهن للإقبال على دور العلم لتوسيع دائرة معارفهن، فالعلوم والآداب هي الثروة التي لا تنفذ وتبقى أبد الدهر. وأنتم أيها الآباء أناشدكم الله تدبروا في مستقبل بناتكم فلا تكونوا من المتعصبين الذين يحولون دون تعليم بناتهم، فيقضون بحرمانهن من أهم أسباب الحياة في هذا العص،ر ويحكمون عليهن بالتعاسة والشقاء الأبدي. وأنتن أيتها البنات العزيزات انفضن عنكن غبار الكسل والخمول، واقبلن على دور التعليم، فإلى الأمام أيتها النساء، لنسر إلى جانب الرجال خطوة خطوة ).
خلال هذه الفترة أيضاً ستتعهد “خديجة الجهمي” بالحدب والرعاية وتهتم بها، وتشجعها وتنشر لها ارهاصاتها الأولى في الكتابة في تلك الصفحة من (ليبيا المصورة) كما تدفع بأخريات في الاتجاه عنه في سنوات تالية.
سنة 1954 تؤسس “حميدة العنيزي” جمعية (النهضة النسائية) في بنغازي وتعمل مع زميلاتها الليبيات والعربيات في المدينة لإقامة الأنشطة الخيرية والمساهمة في الأعمال التطوعية، بمساعدة الأسر الفقيرة ورعاية الأطفال الأيتام والرفع من مستوى العائلات المنتجة بتسويق إنتاجها، وجمع التبرعات لصالح نزلاء المستشفيات والملاجىء، والمساعدة في نصرة القضايا الملتهبة في الجزائر وفلسطين، وتصدر مجلة سنوية هي (رسالة الجمعية) وتنتج سنة 1963 مدرسة تطوعية ليلية بإشرافها وبمساعدة العديد من المتطوعات لتعليم النساء، ضمت فصولاً من الخامسة الابتدائية إلى الثالثة الثانوية، وكثيرات عبرها دخلن الجامعة، كما شكلت أول اتحاد نسائي ليبي سنة 1965 وشاركت في العديد من المؤتمرات والأنشطة النسائية العربية والدولية، وفي شهر يوليو (ناصر) 1970 حضرت المؤتمر النسائي الوطني بمسرح الكشاف في طرابلس.
في 12/8/1982، توفيت ودفنت ببنغازي، السيدة التي عشقت رسالتها وتجلت بموهبتها وإنسانيتها، وطوال أعوام عديدة حملت عزيمة من فولاذ لا تلين.
تعليق واحد
[…] حميدة العنيزي: موقع بلد الطيوب […]