حوارات

الكاتب والمخرج نزار الحراري : السيرة العامرية كانت جسرا يقود التاريخ

الطيوب : حاوره / مهنّد سليمان

الكاتب والمخرج “نزار الحراري”

مما لاريب فيه أن جيلا جديدا من الموهوبين الليبيين قد شرع يُشمّر عن سواعده ويُميط اللثام عن ترسانة أفكاره برباطة جأش وبقدر لا يخلو من الإبداع والجرأة وهؤلاء سواء أكانوا شعراء أو روائيون أو صحفيون لاغرو بأنهم استطاعوا تمزيق حواجز الخوف وتجاوز محطات الإرتباك والقفز نحو آفاق بعيدة متحصنين بأقلام يقطر يراعها صدقا وحرية، والمتابع والمهتم يلمس بوضوح النقلة النوعية للدراما الليبية وما شهدته شاشاتنا المحلية من زخم وتنافس فبتنا نرى أعمالا تلفزيونية تُحدث ما تُحدث من الجدل والنقاش والتباين في التقييم ووجهات النظر ولعهدنا أنه معطى مهم ومؤشر مضيء يُمكّننا من حتمية الرهان على ما هو آت حتى بعض تلك الأعمال ذات الجودة الضعيفة والرديئة أحيانا وجودها ضروري كي يتحقق التوازن المطلوب، فإنما الزمن كفيلة بالغربلة فضلا عن كونها تعبر عن واقع راهن تُفسّخت فيه الأخلاقيات العامة وإنحدرت منزلة الذائقة للحضيض، وخلال شهر رمضان المبارك لعام 2022م عُرضت (السيرة العامرية) وهو مسلسل استدرج المشاهد من أولى حلقاته لدوامة من الشجن أثرى بها حنايا الوجدان وأعاد ثقة المشاهد للعمل الدرامي الليبي، ولعلها من المناسبات النادرة أن يعكس عملا ما هموم الإنسان الليبي على مرآة الشاشة لكيتشف المتلقي حجم هُويته الممزقة على شاشة التلفزيون، ولاغرو بأن خلف هذا المنتوج الدرامي الفذ بصيرة واعدة شكلتها رؤية الكاتب والمخرج الشاب “نزار الحراري” فقد أفلح هذا الطبيب وإلى حد ملموس في وضع مشرطه على مواطن الجرح وتقحياته المزمنة، نزار الحراري تجربة امتلكت خصوصيتها وفرادتها مبكرا، وها هو ذا يبرهن على أنه ابن أصيل لبيئته بكل تعقيداتها وتاريخها الملتبس بالضباب، فهو القارئ النهم الذي درس علوم الطب ومارس العمل الصحفي يُعلن عن ولادته الحقيقية والناضجة في مسلسل (السيرة العامرية)، وعبر هذا الحوار حاولنا فهم ملامح تجربته الإخراجية والكتابية…نزار الحراري يكتب المقالة الأدبية والقصة والسيناريو، نشر نتاجه الأدبي والصحفي في عدة صحف ودوريات ومجلات محلية وعربية، أشرف لفترة على إدارة تحرير صحيفة الكتاب، حصل على جائزة أفضل كاتب ليبي لعام 2013م وعلى جائزة صحيفة الحياة اللندنية عام 2014م، وقبل أيام كرّمه بيت شباب الزاوية، قام بكتابة وتأليف وإخراج باقة من الأعمال والمسلسلات التلفزيونية منها : (كيخ لاند)، (فيه ما ينقال) بجزئيه الأول والثاني، (هدرزة)، بالإضافة لمجموعة من الأفلام الوثائقية، وأخيرا عُرض له (السيرة العامرية).

كيف ولدت فكرة نص السيرة العامرية ؟
نص السيرة العامرية كان بالأساس قصة سبق وأن نُشرت في مسابقة عربية حيث نال الترتيب الأول برفقة مجموعة نصوص أخرى قمت بكتابتها عام 2014م، فمنذ بدايتي في الكتابة لطالما خالجني طموح وهو أن أتصدى لكتابة عمل درامي يلخص الحياة المعاصرة في ليبيا والتاريخ المعاصر بشكل روائي بعيدا عن المباشرة والسطحية في الطرح لتتفتق فكرة السيرة العامرية التي تدور كل أحداثها تقريبا وشخوصها مستوحاة من خيال الكاتب انطلقت بها كقصة ثم عملت على تحويلها إلى نص درامي كسيناريو مُقسّم على أكثر من جزء، ونأمل أن نكون قد وفقنا في إيصال الهدف الرئيس من هذه القصة المتمثل في طرح التاريخ الليبي المعاصر في إطار درامي وبصري ثري يُوصل رسالة أو فكرة معينة للأجيال الجديدة سواء في ليبيا أو لغير الليبيين للحياة الاجتماعية في فترة الخمسينيات والستينيات ومدى إرتباطها بالواقع المعاصر، فعبر عشرات العقود ظهرت الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها بعد ما جعلنا بالتالي ضحايا لهذه الأسئلة.

ما هي الرؤية التي ارتكزت عليها أثناء كتابتك للعمل ؟
الرؤية الأساسية كانت صناعة قصة تحتوي على عملية الإبهار البصري تتضمن حبكة مغرية تدفع المشاهد لتتبع أحداث وحلقات العمل، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية حاولت أثناء ذلك أن أمرر في الخلفية المحطات التاريخية الكبرى في التاريخ الليبي المعاصر كمرحلة الاستقلال وأحداث إنتخابات فبراير عام 1952م وما جرّته من تداعياتها بدءا بنفي الزعيم الراحل “بشير السعداوي” بالإضافة لبعض الأحداث الأخرى مثل اكتشاف النفط وأثره على التركيبة المجتمعية وصولا لأحداث الأول من سبتمبر عام 1969م ومن خلال هذا التتبع المطرد للوقائع حاولت أن أُصيِّر من الدراما جسرا يقود التاريخ وليس العكس، فالأولوية كانت دائما لعملية الحبكة الدرامية حرصا منا على أن يظل المشاهد في حالة شغف وتشوق مستمرين لمتابعة الحلقات اللاحقة وأتمنى أن أكون قد نجحت في تمرير هذه التركيبة وهي بالمناسبة ليست تركيبة تقليدية حتى على صعيد الدراما العربية كأن يكون بها عُقدة مبكرة تُسيِّر الأحداث ثم ينطلق الكاتب لفك هذه العقدة ووضع حلول لها بالتدريج، فقد تبنيت خطين متوازين ما بين الماضي والحاضر واللعب بينهما وصناعة النقلات لم يكن سهلا أبدا، وأتمنى أن تكون رؤيتي ككاتب وصلت للمشاهدين بأتم صورة وحجر الزاوية الذي انطلقت منه لكتابة هذا السيناريو يركز على أن الدراما هي الأساس لكن في الخلفية ثمة أحداث تاريخية مهمة لابد من تمريرها وإيصالها للأجيال الجديدة وللمشاهدين بوجه عام.


كان العامل التاريخي ثيمة مؤثرة في سير الأحداث، هل لجؤك للماضي كان بهدف توجيه رسالة ما للحاضر ؟
نعم للحدث التاريخي تأثيروبقوة مع الأسف على معطيات ونتائج الحاضر وذكرتها على لسان شخصية الراوي “السيفاو بن عامر”، الماضي يتحكم في الحاضر والمستقبل في ليبيا، ونحن عجزنا عن التخلص من عبء الماضي بجميع تركيباته التاريخية والاجتماعية حتى الاقتصادية منها، للآن بلد كليبيا لازال تحت عبء اكتشاف النفط وتحت عبء التركيبات الاجتماعية المعقدة والتركيبات الجهوية والقبلية التي بدأت بالتشكل في أوائل ومنتصف القرن المنصرم، ولذلك أعتقد بأن التاريخ لازال يُسيّر الحاضر الليبي كل ما أتمنى ألا يُسيّر المستقبل.

مسلسل (السيرة العامرية) إنتاج عام 2022م


مشاركتك في كتابة أعمالك مؤخرا كمخرج هل يُعزى لمسألة غياب كتاب دراما متخصصين ؟
بهذا الخصوص لا أستطيع القول جازما بأنه لا يوجد كُتاب ليبيين متخصصين في كتابة الدراما وأعتقد أنه قول مجحف وغير عادل، على العكس هنالك الكثير من الكتّاب اللذين ربما ينتظرون توفر الفرصة المناسبة، فعلى سبيل المثال نص (السيرة العامرية) انتظر ما يقارب من 7 إلى 8 سنوات تقريبا حتى اكتمل نضوجه وفق الصورة النهائية التي خرجت للمشاهدين، وبالتالي أعتقد يوجد العديد من النصوص حبيسة الأدراج والكثير أيضا من الأفكار حبيسة عقول كتّابها وربما أتجه ككاتب ومخرج في معظم أعمالي لكون أن الرؤية الشخصية لدي ناضجة بالنسبة للأفكار التي أتناولها، ولدينا الكثير من المشاريع حاليا مع كتّاب متميزين إن شاء الله لنا الفرصة لنقوم بإنتاجها قريبا، لكن من خلال التجارب الأخيرة أعتقد أن توجهي كما قلت آنفا ككاتب ومخرج مرده لوضوح الرؤية بالنسبة لي فأثناء كتابة السيناريو دائما ما تعتريني تلك الصورة البصرية ما يؤهلني لأكون أجدر بغيري لتحويلها لصورة إخراجية أو مادة درامية متلفزة للمشاهدين فنضج تجربتي الكتابية والإخراجية أعتقد أنها وصلت لدرجة جيدة ولكن في المقابل أتمنى وبشدة القيام بإخراج العديد من الأعمال لكتّاب آخرين.


خلال السنوات الأخيرة بتنا إزاء زخم كبير من الأعمال الدرامية أتجد بأن الدراما في ليبيا بدأت تأخذ مسارها السليم ؟
إن الحالة الزخم الحاصلة مؤخرا في الدراما الليبية لعلها خطوات مبشرة جدا والدراما الليبية تملك هامشا واسعا للتطور وهو مرتبط بخروج واكتشاف كتاب ومخرجين جدد ينافسون على الساحة المحلية وبمقدورهم المنافسة حتى على الساحة العربية، أعتقد بأن دور الدولة في مسألة النهوض بالإنتاج الدرامي غائب ورغم أن الإنتاجات الخاصة تحاول تحقيق المعادل الموضوعي وتعويض ذاك الغياب لكن حتى الآن العملية ليست كافية فالسوق الليبي لازال بحاجة مخرجين آخرين ولكتاب وممثلين جدد، ومؤكد بأن الاحتكار وتوفر لون واحد من الدراما أو مخرج أو كاتب واحد ليس بالكافي وغير مفيد للمجال الثقافي والفني الليبي بوجه عام، إن بلورة رؤية درامية ليبية تصبح لها بصمة خاصة عربيا وعالميا تحتاج إلى درجة أعلى من التنافس وعدد أكبر من الإنتاجات السنوية وخاصة أن الإنتاجات خارج الموسم الرمضاني الذي يُكبل المشاهد ويضعه في حيرة بين متابعة عمل أو اثنين على الأكثر.


هل طغت اللغة البصرية والأدوات التقنية الهائلة على جودة ما يُقدم من مسلسلات على الشاشة ؟
مسألة طغيان الصورة البصرية على غيرها من العناصر تتعلق في المقام الأول بوجود أزمة نص وربما هذه العبارة تحولت لكلشيه متكرر بيد أنها مع الأسف حقيقة مُرّة، والعالم ككل وإستديوهات العالم الكبرى والمنصات وشركات الكبرى وحتى لا نقول عجز لدينا فقر كبير في الكتابات الإبداعية حتى في مصر الصناعة العربية الكبرى والدار الأم لهذه الصناعة نشاهد سنويا أعمال بمجرد إنتهاء عرضها سرعان ما ينساها المشاهد ليس كما في السابق مثل أعمال أسامة أنور عكاشة ومصطفى محرم ووحيد حامد وبشير الديك وغيرهم من الكتاب التي نعود إليها اليوم كأعمال عظيمة وهو نوع من النستولوجيا بينما أثناء فترة عرضها لم تلقى ذلك النجاح الخيالي الذي يعتقده المشاهد الآن، لذا تبقى الأزمة بالأساسية وحجر الزاوية هي النص، ونحن في ليبيا أزمتنا مضاعفة ربما تتمثل في عدم وجود معاهد متخصصة وورش عمل تقوم بالعناية بالكتاب وتوجيههم التوجيه الصحيح لكيفية كتابة سيناريو به إيقاع سليم وبه حبكة صحيحة وكيفية صناعة العُقدة الدرامية، ومع الأسف أشاهد بعض الأعمال والمحاولات الشبابية يفتقرون لأبسط أبجديات الكتابة الدرامية فيتبين الكثير من العجز، وأدعو وزارة الثقافة والمؤسسات المعنية بهذا المجال لضرورة التوجه بالأخص للكتاب بالدرجة الأولى، إن عمل جيد بنص جيد ممكن أما عمل جيد بأدوات جيدة ونص سيء أعتقد أمر غير ممكن.


من خضام صاحبة الجلالة والكتابة الصحفية ومن قبلها كطبيب إلى عالم الإخراج التلفزيوني، حدثنا عن هذه الإنتقالات النوعية في مسيرتك ؟
لاريب بأن تجربتي الصحفية كان لها بالغ التأثير على مسيرتي بشكل كبير فهي كانت بوابتي الأولى على عالم الثقافة سواء محليا أو عربيا فعن طريق الصحافة تمكنت من الوصول لأول مشروع مرئي قمت به وهو كتابة سلسلة من الأفلام الوثائقية لصالح قناة الجزيرة، كذلك من خلال الصحافة شاركت في عدة مسابقات ساهمت في إيصال اسمي لعالم الدراما والوثائقيات محليا وعربيا، وفضلا عن أن الصحافة ساعدتني على الكتابة بشكل أكبر منحتني تكنيك الكتابة والمرونة في الكتابة وأعطتني النفس الطويل نوعا ما في الكتابة فمثلا لو بدأت بكتابة السيناريو مباشرة ومن الصفر ربما أصبت ببعض الملل لي كشاب كون أن كتابة السيناريو تحتاج لنفس طويل جدا خاصة في إعادة الكتابة وإعادة الصياغة والتحرير وبالتالي الصحافة أهلتني وسلحتني باللياقة الكتابية ما دفعني للولوج لعالم كتابة السيناريو وأيضا تأثير دارستي للطب وعملي كطبيب والتحلي بالصبر والمثابرة واعتكافي على دراسة الطب جعلني ملازم للمنزل معظم الوقت وقارئ نهم جدا للكتب وهي ربما أحد العوامل المساعدة لوجودي كصحفي وكطبيب.

مسلسل (كيخ لاند) إنتاج عام 2018م

ماذا عن مشاريعك المقبلة في أفق المستقبل ؟
حقيقة حتى الآن لا يوجد مشروع معين تم الإتفاق عليه بشكل نهائي لكي أصرح به لكن لدي أكثر من مشروع في طور التفاوض والنقاش، وأحدها هو مشروع عربي نأمل أن يكتب له النجاح وسأعلن عنه مباشرة إلى جانب أعمال ليبية أخرى.

مسلسل (هدرزة) إنتاج عام 2017م

كلمة أخيرة :- أتمنى العام القادم أن أشاهد الكثير من الأعمال الليبية ذات المستوى الجيد نصا وإخراجا وصورة كما أتمنى من الدولة أن تتوجه أكثر للبراح الثقافي فهو البراح المناسب لتوجيه الشباب عوض تسخيرهم لساحات ومعارك أخرى، والدراما الليبية بدأت تتلمس خطواتها الأولى وما نحتاجه الآن فقط هو التنوع أكثر وعدم وجود احتكار في السوق الليبي وهو الأهم بالنسبة لي، فاللون الواحد والصبغة الواحدة من شأنها أن تقتل أي مشروع درامي، ومسلسل (السيرة العامرية) نحمد الله أنه لاقى نجاحا فاق توقعاتنا فعلى الصعيد العربي جاءتنا أصداء ممتازة قياسا بعمل ليبي ينطوي على جانب تاريخي مغرق في المحلية وهو مؤشر مفرح يدل على أن ليبيا ملآة بالقصص الثرية التي لم تروى بعد، ختاما أتمنى أن أروي كل هذه القصص شيئا فشئيا بصحبة زملائي وإن شاء الله القادم أجمل.

مقالات ذات علاقة

الدكتورة أمينة هدريز: السجن كان تحديًا للأديب،لأن يعبر عن جدل العلاقة بين عنف السجّان وتحدي السجين

مهند سليمان

الباحث عبدالله مليطان: مبروكة ليست أول رواية ليبية مطبوعة

المشرف العام

غالية الذرعاني: الرواية الليبية بخير برغم ظهورها المتأخر.

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق