تراكم وحشد - من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.
سرد

جزء من رواية (الكائنات)

تراكم وحشد - من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.
تراكم وحشد – من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.

على المفترق المترب وقفت ..
أغنية “ذكرى محمد” تراودني على البكاء، لكني أتسلح بعزيمة الرجال الكاذبين وامتنع :
ـــــ حلم والا علم .. والا عيوني ..
جابن اللي لا ريتهم لا روني . 
رحلت قافلة خواطري مع صوت ذكرى القادم من السماء لكن الوجه المتجهم الذي ملأ بصري أفسد درب القافلة المضيء بنظراته المتوثبة.
كان يريد أن يعبر أمامي بسيارته الفاخرة، أفسحتُ له المجال رغم أن أحقية المرور كانت لي، عبر بمركبته المتبجحة دون أن يتكرم بإيماءة شكر، بل أنه حدجني بنظرة ساخط ٍأو لعلها رمية مستخف ٍ محتقر، ومضى وكأنه ملك ملوك الطريق العام بلا منازع.

المئات مثله تكاثروا، تناسلوا وكأنهم بذرة شيطان، وجوه كالحة وجيوب متخمة، وأخلاق فقيرة، ومشاعر من أسمنت مسلح وقلوب لا تخشع إلا لذكر الفساد.

كان الصباح وليداً يتعثر في نبرة البكاء ويتعلم أبجدية الابتسام. قصدت المصرف فوجدته مغلقاً، مررتُ على مخبز فرأيت المشهد المعتاد، طابور من الوجوه الرمادية تنتظر الخبز وتتبادل الأحاديث.
المخابز عندنا أصبحت مؤتمرات مصغرة، تنعقد كل مطلع صباح، ويتم فيها تبادل كل الآراء ، ويدلي فيها رجل الشارع بوجهة نظره في كل المسائل العالقة، من مشكلة انقطاع الكهرباء على شارعه، وظاهرة صغر حجم رغيف الخبز،إلى الاتفاق النووي الايراني مع الغرب مروراً بخفايا تدخل الدب الروسي في سوريا.

كله أصبح مباحاً، يمكنك أن تناقش وأنت على باب المخبز ارتفاع أسعار النفط في العالم، أو الزيادة المشبوهة في رواتب نواب الشعب، ويمكنك أيضاً أن تختار ما يناسبك من ألقابٍ تليق بمعرفتك الواسعة، ناشط سياسي، خبير استراتيجي، عضو مجتمع مدني، يمكنك أيضاً أن توجه السباب لبوتين وهو يقود روسيا إلى النزال مع الغرب، أو تلعن أجداد “ترمب” متغزلا دون خوفٍ في جمال زوجته، يمكنك أن تبصق على كل وزراء الحكومات في دول أوروبا الغربية، يمكنك أن تفعل كل هذا معاً، ولكن، لا يمكنك أبداً أن تتجاوز مكانك في طابور الخبز. لأنك ستجد “رجل شارع” مثلك على استعدادٍ لقتلك إذا لزم الأمر، فللخبز سطوة لا يملكها “ترمب” ولو أدعى الإعلام عكس ذلك.
تجاوزت المخبز، لتوقفني إشارة حمراء، رفعت صوت ذكرى قليلاً لتؤنسني أكثر : 
ـــــ وليش في منامي ريته .. جدي اللي مالضيف عامر بيته .
وليش في منامي ريته .. ميعاد كامل يذكروا في صيته.
بكيت، هكذا، وبلا مقدمات ..
خنت رجولتي المستوردة من بقايا عصر جاهلي موغل في القدم وبكيت.
غدرت بعنترة بن شداد، وبالزير سالم، وبسليك بن السلكة، وبتأبط شراً، وبكل أولئك الأشاوس أرباب أوليمب الشراسة العربي العتيد، غدرت بهم وبكيت .

امتلأت زرقة عيني بدمعٍ جاهدت في مقاومته، وتذكرت أبي الطيب وهو يبتسم لي بكل مودة الدنيا، ويحدثني عن “فتوح البهنسة” وبطولات “خالد بن الوليد”، ثم ينتقل بي إلى صديق شبابه، ذلك الشاعر الكبير “جعفر الحبوني” ليروي لي تفاصيل ولادة قصيدته المذهلة “الحرية”، التي أثارت غضب القصر آنذاك، فتم استدعاءه لكنه عومل معاملة لائقة بقيمته الكبيرة رغم أبيات قصيدته التـــي أمعنت في نقد الواقع السياسي آنذاك :
أيام قبل مانعرف الا الحرية .. معيشة عدالة للعرب جملية. 
مات أبي، أسلم الروح بين ذراعي، وتلمست أخاديد وجهه ورسمت ابتسامته التي طالما غمرتني بالمودة واشعرتني بالأمان.

كنت قد بدأت أسترسل في رحلة الأسى هذه لولا أن صوتاً ساخطاً هدم ما كنت قد بنيته من مملكة حزن صغيرة :
ــــــ لا حول الله، والله مافيه حد اليوم يوقف عند الاشارة الحمرا إلا الشياب ، يا متخلف .
صرخ بها الشاب، ومضى منطلقاً بسيارته كالصاروخ متجاوزاً الحمراء بعين أشد احمراراً منها، وبابتسامةٍ واهنة همست متأملاً سيارة ذلك الشاب :
ـــــ اعتقد أنها سيارة بمحرك قوته 64 حصاناً، لكن حماراً واحداً يقودها الآن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من روايتي الجديدة “الكائنات” .

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (50)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية الفندق الجديد – الفصل الخامس

حسن أبوقباعة المجبري

أيها المعلم…القديس الشيطان !

سراج الدين الورفلي

اترك تعليق