سرد

جزء من رواية الأورفيدة

من أعمال الفنانة التشكيلية “مريم الصيد”

عقدت العزم على البقاء، والبحث الجاد عن عمل، والتنازل قليلًا عن بعض المبادئ التي كانت السبب الرئيس في طردي من بعض الصيدليات.

نعم يجب علىّ التخلي عنها -ولو بشكل مؤقت– ولكن كيف يمكنني التخلي عنها؟ فالمبادئ لا تتجزأ؛ لأنها جزء من الإنسان، بل هي الإنسان نفسه؟ أنت دائمًا ترفع شعارات كبيرة ناسيًا أن الفقير لا كرامة له. ومن يفقد الكرامة يفقد معها كل شيء. أصبح الكل يلهث خلف المادة، وواجب عليك أن تسير في الركب هذا وإلا ضاعت سناء من بين يديك.

هل كنت مخطئًا عندما رفضت الامتثال لصاحب الصيدلية؟ فهو يسعى للمكسب، ولا يهمه إن كانت المادة الموجودة بالدواء فعالة أم لا، أو أن تاريخ الدواء قد قارب على الانتهاء، أم لا، كلا لن أستطيع التغاضي عن مثل هذه الأمور. 

أنا في حيرة من أمري ماذا أفعل؟ الفتاة الوحيدة التي أحببتها تخرجت، والخٌطّاب يتوافدون على بيتهم، والكل يمني نفسه بالظفر بقلبها. وإن كان والدها قد صبر عليها في السابق بحجة الدراسة، فاليوم باتت كل الأعذار واهية. يجب أن أخطو خطوة للأمام، ويظل السؤال: كيف تكون هذه الخطوة ممكنة؟ يجب عليّ إرسال شخص ما أثق به، ويكون له وزن في المدينة حتى لا يرفض! من هذا الشخص؟

قطع حبل أفكاري دقات الساعة معلنة عن الثامنة مَسَاءً، وهذا يعني انتهاء الدوام، دونت على كل ملف ملاحظاتي؛ ومواعيد الدواء لكل حالة، وأنواع التحاليل المطلوبة، وصور الأشعة، ووقت التغذية الصناعية. وبعد انتهائي من كتابة كل الملاحظات، جلست داخل المكتب الصغير المصنوع من زجاج أنتظر الدكتور المناوب في المكتب المخصص للممرضة المناوبة أثناء الليل؛ وذلك لعدم وجود متر واحد أستطيع الوقوف فيه؛ بسبب أقرباء المرضى من الدرجة الأولى، والثانية، والثالثة، والجيران الماكثين داخل غرفة العناية بحجة الاطمئنان على مرضاهم.

المشكلة هي أنهم يعيقون حركة الكوادر الطبية داخل غرفة العناية، بل ويلوثونها. لكن ما باليد حيله، فلو وقفت لهم بالمرصاد وطردتهم من الغرفة قد تعرض حياتك للخطر؛ فبحركة بهلوانية من أحدهم تجد بندقية، أو مسدسًا فوق رأسك.

ها هيا الممرضة تسير بصعوبة بين المرافقين؛ كي تستطيع إعطاء الحقن، أو قياس الضغط. ومع الساعة التاسعة والنصف جاء الدكتور المناوب يضحك مرتديًا الملابس الخضراء. وقال معتذرًا: أسف جدًا يا دكتور، كنت في وليمة فرح عند ابن خالي، وتأخر العشاء قليلًا. ابتسمت له مجاملًا، وكظمت غيظي، وسلمته الملفات قبل أن أنفجر في وجهه، وخرجت مسرعًا، ووجدت شابين يرتديان ملابسًا لونها أزرق، يبدوا أنهما من الشرطة، إذ كانا يقبضان على مزلاج باب حديد أبيض، والعمل المنوط بهما هو منع الناس من الدخول بعد الساعة الخامسة مساءً، ويتقاضون راتبًا على هذا العمل. لكنهم لا يستطيعون توقيف شخص واحد.

استغربت خلو الفناء الأمامي للمركز من السيارات، فعادة ما يكون مكتظًا في هذا الوقت، فلقد سمعت من الشباب، والكبار الجالسين في الفناء أن بعضهم يتناولون وجبة العشاء في مجموعات تحت الأشجار، وأن هناك أزمة حادة في البنزين.

بالفعل وقفت في الشارع أنتظر تاكسي لنصف ساعة. فكرة دولة تطفو فوق البترول، وتصدره منذ ما يربو على خمسة عقود، ولا تستطيع إقامة مصنع واحد يكرر البترول يستخرج منه مادة البنزين، والكيروسين. أين ضاعت كل تلك المبالغ؟ في شراء السلاح بدلًا من بناء المصانع العملاقة.

أخيرًا وقف تاكسي، لكنه طلب أجرة خمسة دنانير، قلت مستنكرًا: لكن هذا سعر باهظ، فاليوم ركبت في الصباح تاكسي بدينار واحد.

قال غاضبًا: أربع ساعات -وأنا في طابور محطة البنزين-!  وأشار بيده أنا لا أريد كلامًا كثيرًا، إن كنت تريد أن تركب فادفع الخمسة!

فقلت له” شكرًا، فكل ما في جيبي ديناران فقط. تحصلت على تاكسي سائقه يبدو أنه ليس ليبيًا، فطلب مني دينارين ثمنًا لنقلي لحي “أمريرة” واشترط ألا يدخل للحي بسبب الحفر الكثيرة، والشوارع الترابية، والأزقة الضيقة، فقلت: طرق المدينة كلها حفر ومطبات.

فرد قائلًا: إذا وافقت على شرطي هيا بنا.

وصلنا عند مسجد “العباس” ثم سأل هل ندخل من طريق السلخانة، أم أنزلك عند مديرية الأمن؟ قلت له: بل من طريق السلخانة.

وما إن نزلت من السيارة حتى انقطع التيار الكهربائي على الحي. مشيت كالأعمى أتلمس أمامي حتى لا أرتطم بشيء، أو أسقط في بقعة ماء، حتى وصلت البيت مع الساعة العاشرة مساءً، فوجدت أمي في الصالة حاملة بيدها شمعة، وسألتني عن سبب تأخري. جاوبتها بعد أن قبلت رأسها. أنا لست صغيرًا يا أمي، فقد تجاوزت عامي السابع والعشرين.

فردت قائلة: لا بل ستظل في عيناي صغيرًا، حتى ولو بلغت السبعين من عمرك.

مقالات ذات علاقة

ذاكرة مجنون

فهيمة الشريف

الرقة ذات شتاء

محمد الأصفر

السّجان يسّتحى .. عندما تتلبّسه ملامح بانوسيّة***

المشرف العام

اترك تعليق