د.أحمد إبراهيم الفقيه:
كل أعمالي أراها مسودة لما أتمنى أن اكتبه في المستقبل
نحن رسل للقيم الحضارية ولا ضير من التعامل مع الآخر مادام يعلي هذه القيم
الرواية هي التي تكتبنا ولسنا من نكتبها…
لست يوسف إدريس القصة الليبية لكن البعض يعتقد أني أبو الرواية الليبية
حاورته: انشراح سعدي – موقع الهدهد
الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه صاحب أطول عمل في تاريخ الأدب لا ينافسه على ذلك الانجاز إلا الأديب الروسي الراحل سولجنستين مؤلف “أرخبيل الغولاغ ” ومع إن للفقيه أكثر من ثلاثين كتابا فانه ما يزال يعتبرها مسودات لما سيكتبه في المستقبل وبرفقة هذا التواضع وتحت ظله لا يخجل أن يسمي نفسه استنادا إلى احد النقاد الليبيين “أبو الرواية الليبية” فما الذي يقف خلف هذه الشخصية الملتحفة بالريادة وما هي هذه التجربة الممتدة في الزمن وفي الجغرافيا حيث تنقل صاحبها في أماكن عدة وقضى معظم وقته في مصر وبريطانيا وليس في ليبيا، مراسلة صحيفة”الهدهد الدولية ” التق في هذا الحوار الذي يكشف بعض جوانب شخصيته وإبداعه الأدبي.
صاحب كتابات تجاوزت الثلاثين عنوانا بين القصة والرواية والمسرح منها “نار الشرق العاشقة”، “نفق تضيئه امرأة واحدة”، “زائر المساء”، “سأهبك مدينة”، “هذه تخوم مملكتي”، “فئران بلا جحور”، “صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئا”، وآخرها “خرائط الروح”رواية من اثني عشر جزء تعتبر أطول عمل أدبي في التاريخ، يتحدث عن الاغتراب، والحداثة، والرواية الليبية وما حققته من نجاحات، يتحدث عما كتب ونقف معه عند محطات فارقة في مسيرته الإبداعية معنا الروائي الليبي احمد إبراهيم الفقيه في هذا الحوار:
* هناك من انتهى إلى وصف اغترابك بالسلبية أمثال الدكتور رمضان عبد الحكيم، وهناك من وصفه باغتراب مرضي- اغتراب فني- تحياه في شخوص رواياتك، وهذا ما يفرق بين اغترابك واغتراب كافكا؟ كافكا تحكمه الرغبة وأنت يحكمك الخيال، ما تعليقك؟
– هذه تكاد تكون قراءة للنص أكثر منها تعليق على نظرتي إلى الحياة أو أسلوبي في التعامل مع الحياة، هذه أيضا أسئلة تطرح على النصوص أكثر ما تطرح على المؤلفين، فالمؤلف ربما يكون هو أكثر الناس تصورا لبعض الأفكار التي قد يصل إليها القارئ، أو الباحث، والاغتراب كقضية وجودية، اعتقد معني بها الأدب في أي مكان أو أي زمان، وربما أنا تكلمت على هذا النوع من الاغتراب ليس في أعمال روائية أو قصصية ومسرحية وهي كثيرة كتبتها عن وجود إنسان خارج وطنه وإنما كتبتها عن عمل ما مثلا يعنى بحياة إنسان داخل وطن أو في عمق هذا الوطن مثل، رواية “حقول الرماد”، التي هي أساسا عن غربة الجمال المتمثل في فتاة اسمها جميلة في تلك البيئة القاحلة الرعوية البدوية الصحراوية المحاطة بالجبال الصخرية والأرض المجدبة، والبيئة القاسية، فإذا هذه القضايا يتعامل معها الأدب وأسئلة تطرح على النصوص – وستجدين مثلما عملت مقارنات مع كافا- ستجدين توافقا وتناظرا وتواصلا وتراكما بين نصوص الكتاب قديما وحديثا.
* هل الانتماء إلى التراث الغربي يخلف اغترابا جديدا في الإبداع العربي؟
– هذا لا يسمى انتماء، نحن تفاعلنا مع المجتمعات التي ذهبنا إليها وعشنا فيها ودرسنا في جامعاتها، في حالتي أنا مع بريطانيا، في حالة كتاب آخرين درسوا في أمريكا أو فرنسا أو في روسيا، أو أي بلد آخر، الرحيل غالبا لطلب العلم أو لمهمات عملية، فانا ذهبت طالبا وذهبت دبلوماسيا وذهبت حتى للراحة والإقامة في بلد مريح، فكانت تطول إقامتي هناك فقط لأكتب وحصل أن هناك كتاب عاشوا في بلدان فقط ليكتبوا، عبد الرحمن منيف على سبيل المثال لا الحصر، بقى فترة طويلة في باريس لمجرد أن يكتب رواياته العربية ولا علاقة له بالانتماء.
* وماذا عن التواصل مع هذه الثقافة الغربية؟
– نعم تواصلنا معها على كل المستويات، لقد تواصلنا معها حتى ونحن صبية في قرانا، لما تقرأ روبنس كروزو أنت في قريتك تواصلت بشكل أو بآخر مع ثقافة مغايرة، هذا التواصل تحقق بصفة أكثر قوة وديناميكية عندما ذهبنا وأقمنا في هذه البلدان بالضرورة كان فيه تأثير كبير، وربما تبادلا في التأثير وفي التفاعل، عندما ذهبت إلى بريطانيا –إذا أردت أن تكون تجربتي الشخصية مقياسا- في فترة للدراسة وفترة للعمل، في فترة كنت أحرر مجلة تعنى بتقديم الوجه الحضاري والإبداعي والثقافي للوطن العربي للغرب، فنشرت قصصا وأشعارا وتكلمت عن الموسيقى والرسم، وتكلمت عن المسرح والقيم الحضارية وعن التاريخ، وقدمتها للقارئ الأجنبي في بريطانيا، لم أكن متلقيا فقط وإنما كنت أداة فاعلة، ولم تكن العلاقة كما يقول الانجليز مجرد خط واحد للاستقبال وإنما اخذ وعطاء فالعملية تمشي في اتجاهين، اتجاه لمعرفة ما لديهم واتجاه لتقديم ما لدينا، ومن خلال هذا كله نصل إلى حالة وهي التي تتحقق عن طريق الأدباء والكتاب ولكن يفسدها السياسيون والعسكريون وتفسدها المغامرات التي تبحث عن المصالح وعن الهيمنة وعن الاستغلال، وهذا ما أنتج الظاهرة الاستعمارية والظاهرة الامبريالية، والرأس مالية خارج بلادها وفي الوجه البشع التي هي عليه، فالأديب دائما يسعى إلى المشاركة والمساهمة لتعميق القيم النبيلة في الحياة، فنحن رسل لهذه القيم الحضارية وعندما نلتقي بالغرب نلتقي معه في هذه القيم الحضارية، ويكون تعاملي مثلا مع أمريكا مع ارنست همنغواي ووالت ويتمنن مع الإرث الثقافي الأدبي الأمريكي الذي يعلي قيم الحرية وقيم الحق وقيم الجمال والمحبة وقيم السلام، فلا ضير من التعامل مع الآخر مادام يعلي هذه القيم وأكون معارضا ومعبرا عن سخطي على ظاهرة من ظواهر الهيمنة والاستعمار والاستعلاء وهذا يفعله البنتاغون والبيت الأبيض من سياسات تضر بأهلنا وبشعبنا وبالشعب الأمريكي نفسه.
* أطلق عليك لقب يوسف إدريس القصة الليبية، هل ترى انك تستحق هذا اللقب وأنت قد صنفت من أدباء المرحلة الثالثة المسماة مرحلة الازدهار، بمن تأثرت لتصل إلى هذا الأنموذج المكتمل في القصة القصيرة ؟
– هذه تسميات صحفية، لست يوسف إدريس القصة الليبية، هذا أطلق علي في بداياتي، ربطتني علاقة قوية بيوسف إدريس، كنت معجبا بيوسف إدريس، ثم تجاوزت وتطورت وحصل ما حصل ليوسف إدريس نفسه، فيوسف إدريس بدأ في طريقة للكتابة انتقل إلى طريقة أخرى أكثر نضجا والى أخرى، وهكذا حصل معي، واتخذت بذلك غير اتجاه يوسف إدريس، وان كانت بداياتي قريبة من يوسف إدريس واعترف أيضا بفضله على القصة المصرية والقصة العربية واعترف أيضا بفضله علي شخصيا لما لقيته منه من ود ومن حب وتواصل مع أعمالي الأدبية التي كان أول من كتب عنها أشاد بها.
* قال سلام هابيل في عدد من أعداد مجلة فصول: “يختلف الدارسون في حقيقة وجود الرواية الليبية أصلا ويختلفون أيضا في نسبة الريادة لمؤلف أو رواية ….الرواية الليبية لم تولد بعد، هذا المقال نشر سنة 1999 ما تعليقك؟
– يقهقه، الرواية الليبية لم تولد بعد، إذا لم يطلع على شيء، فهو كالذي يجلس في الصحراء لم تكتشف الكهرباء بالنسبة إليه، الرواية اللبيبة حققت فتوحات قوية جدا جدا، حققت اعترافا عربيا وعالميا، وفي فترة من الفترات منحت أفضل عمل إبداعي في العالم العربي، وفي بلد غير بلدي وكان ذلك في بيروت وهي الثلاثية، استلمتها من رئيس وزراء لبنان عمر كرامي، فماذا تسمين هذا، ربما يكون يقصد الكم، فهي لم تصنع تراثا، فليبيا ليست مصر ولا الجزائر ولا المغرب ولا حتى تونس، لان فعلا الرواية الليبية تأخرت عن الظهور، الذي فلح فيه الليبيون وقدموا فيه عطاء متميزا في سنوات الثلاثينيات الأربعينيات والخمسينيات وربما حتى السبعينيات، كان هو القصة القصيرة، بعد السبعينيات ويؤرخ الدكتور علي فهمي خشيم بروايتي “حقول الرماد “ويعتبر هذه الرواية مرحلة نضج الرواية الليبية، والرواية صدرت في 1985ويعتبرها بداية، وقال إن احمد إبراهيم الفقيه أبو الرواية الليبية دون إغفال لجهود كانت موجودة ولإرهاصات ولتجارب رائدة لا احد يبخسها حقها من التنويه والشكر، ثم لجهود بعدي صنعت تراثا للرواية العربية، زميلنا خليفة حسين مصطفى، وزميلنا إبراهيم الكوني، لكي لا أثقل المقابلة بالأسماء اكتفي بهذين الاسمين باعتبارهما قدوا أعمالا ناضجة كما وكيفا، وأيضا صالح الصروصي.
* هل الحداثة في الإبداع رهينة الحرية السياسية، أم رهينة حرية الخيال والإصغاء لصوت الرغبة والدم، والشهوة ومجرى الحلم والجسد والايدولوجيا؟
– جميل، بارك الله فيك، لخصلت الموضوع أكثر مما استطيع أن أتكلم عنه، ما يمكن أن أضيف لهذا الكلام، بالتأكيد عناصر كثيرة تدخل فيما نسميه الحداثة، الزمان بالضرورة هو العامل الأول فعملية الحداثة هي عملية تراكم يحدث معه تجاوزا، والمكان باعتبار ضرورة وجود ظروف عامة موضوعية والعنصر الثالث هو الكاتب نفسه وقدرته على استيعاب المنجز الإبداعي والثقافي والحضاري في عصره، ومنها ينطلق إلى استيعاب الحداثة وتمثلها والمساهمة فيها بعمق لأنه في الغالب التعامل مع الحداثة هو تعامل مع أفكار طرحت تقدم فيها، ولا يستطيع احد أن يقول إنه كريستوفر كلومبوس الحداثة، فالعملية تنضج عن طريق جهود مبدعين كثر وخبرات وتجارب إلى تصل إلى هذه الحالة التي قد تجد فيها تلوينات وتباينات من مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة إلى بيئة ومن ظرف إلى ظرف، وهي كما قلت تكاد تكون حالة حضارية إنسانية قد تشمل الأدب والإبداع والثقافة وتصل إلى مناحي الحياة الأخرى في التعليم، في الصحة، في البناء، في تخطيط المنفي الحرية في الديمقراطية في خروج الحياة إلى العمل، هذا ما نريد تحقيقه من خلال الحداثة.
* “سأهبك مدينة”، “هذه تخوم مملكتي”، “زائر المساء”، “نار الشرق العاشقة”، نفق تضيئه امرأة واحدة”، “فئران بلا جحور”، ثنائية المكان والزمان متجسدة بشكل واضح في العناوين فالأمكنة في رواياتك جنينية وكما يعرفها غاستون باشلار قائلا”‘إن هذه الأمكنة لها وظيفة تذكيرية “، ماذا تريد أن تتذكر أو بما تريد أن تذكر – المنفى، التهميش…المأساة- ؟
– حلو، بصراحة لا ادري، لأنه ليست هناك قصديه ولا تخطيط مسبق، أنت تعدين رسالة ماجستير، تضعين مخططا هذا لا يحدث في القصائد ولا الروايات ولا المسرحيات في الإبداع عامة، نحن نلقي بأنفسنا في الحالة ونحاول أن نضع أنفسنا في عالم الرواية وشخوصها، لان الرواية هي التي تكتبنا ولسنا من نكتبها، وهذا ليس تنصلا من أي مسؤولية أو تعامل واعي مع الرواية التي نكتب ولكنها فعلا متروكة للقوى الإبداع التي تعلو وتكبر فوق الإرادة الواعية، ولكن يبقى شيء ما في التعامل مع الإرادة الواعية هذه الحالة الأولى والحالة الثانية هي تأمل ما تفعل عندما تنتهي من فعله خاصة مع حياة أدبية لها عقود من الزمن مثلي أنا، تبتعد مع نصوص وتقترب زمنيا من نصوص عندك مساحات لتأمل ما كتبت، النقطة الثالثة هي ما يقال عنك وما يقوله النقاد فانا مثلا كتب عن أعمالي أكثر من 400 ناقد أسهموا في تقيم إبداعي فلابد أن يثيروا في ما يجعلني أقف لأرى هل أرى ما يرون؟، وعندما نأتي لبعض العناصر الأساسية في أدبي وهل جاءت الذكرى تخدمها، أقول إن إحدى الركائز الأساسية هي ركيزة الحرية، وهذا جوهر أساس في إبداعي، البحث عن الحرية في عالم تتضاءل فيه الحرية والدعوة إلى توزيع التخوم التي تتحرك فيها، كيف ترسخ هذه التخوم لتكون فيها الحرية أوسع، طبعا أنا شخصيا شاهد لتحولات مفصلية في الحياة، أساليب حياة عشناها بعد أن عاشت في الحياة مئات ألاف السنين، عشت في البادية حياة عاشها البشر لمئات ألاف السنين، وجدت فيها شخص يحرث الأرض بالمحراث وأمامه بهيمة ورايته يحصد ويرفع الماء ويضيء المكان بطريقة التي أضيئت بها الأماكن منذ ألاف السنيين…..وغيره هذا كله حدث ثم رأينا فجأة الانقلاب الذي حدث في حياة هؤلاء الناس، الخيمة تحولت إلى فيلا، الجمل تحول إلى سيارة….وانعكاس هذا على كل مناحي الحياة وأنت قادم بسيارة لست كالذي يأتي بالجمل، وهذا هو الإحساس بالزمن..
* “صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئا”، هل بعد ما يزيد عن 30مؤلفا، وخرائط الروح من 12 جزء، وهي سابقة في الرواية العربية لم يكتب شيئا أو لم يكتب بعد ما تريد؟
– طبعا، لم اكتب، كل أعمالي أراها مسوداه لما أتمنى أن اكتبه، فلعل الله يعطيني عمرا لأكتب ما هو أفضل وأجمل واعتقد أن كل كاتب يتمنى أن يتجاوز نفسه ويتجاوز ما يكتبه الآخرون ليقدم ما هو أفضل.