لمّا كانت القصيدة السردية محفلا عميقًا من اضاءات التجلي في أفلاكِ الأدب الحداثي المستنير، كان حقيقٌ أن تخترق أصداءها شسوع المدى، وحريٌّ بها أن تتفرد بفحولة اللغة وبكثافتها التي تميزها عمّا سواها، ولبلوغِ ذروة الخيال وحتمية التفاعل الحسي، يتوجب عصفًا ذهنيا، لاعتلاء صهوة الضمير الانساني الخلاّق، الطامح للجمال وسحر الطبيعة بعيدا عن منزلقات الخرافة الهشّة، وكذا النأْيُ عن الانحباس المؤدلج الذي عفا عنه الزمن، وبات من أساطير الماضي، في ظلِّ المتغيرات المتجدّدة لأساليب الأدب الحقيقي وتقنياته العصرية، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، تطبيق الممانعة للسرد وظهور مباهج الايحاء الذائق والرمزية العالية المتفردة بمكنونها الأدبي العميق، إن نقل الأحاسيس الابداعية بصورة أرقى إلى قلب المتلقي هي من الصعوبة بمكان، ذلك لأن العقل الانساني هو جوهر الحكمة في التمييز بين الغث والسمين، الانسان بفطرته وتلقائيته ينشد دائما عن مكامن التوظيف الحسي للصورة الشعرية بمهارة لا حدود لوصفها : ( كتلك التي يراها بصفاءِ المرايا وتلاوين الغسق دون مواربة ) حين تنطقها لغة عالية المقام، تتجلى هنالك بدائع السحر والخيال حيث تتفتق الدهشة وينطق الضوء، كأنها فسيفساء شعرية برؤى محتدمة الانسياب الخيالي، ترحل إلى فضاءات التأويل المنطقي إلى حدٍ ما، تلامس شغاف القارئ وحسه الباعث على التحليل والاستنباط لمواقع الدهشة المؤثرة، الآتية من ينابيع وبراكين اللغة المكثفة، هنا تبزغ لحظات من عبق التجلي عبر صورة سردية مكتملة الخصائص الفرضية على هيئة كتلة واحدة، لا شطط يعتريها ولا بهتة تحاديها ..