هل الموت إمراة أم رجل؟ اسأل سوسو تحت ضوء القمر هل الموت ذكر أم انثى ؟ هل له شارب أم نهد ؟ تقول سوسو مقاطعة اغنيتها الرقيقة ” اسأل الذين ماتوا في الحمام ” و تستأنف الغناء بصوتها الرخامي الناعم و فيما تكمل تفريط حبات العنب في فمي اغمض عيني و اتخيل أنني اموت بهدوء في منتصف الليل و في منتصف طرابلس…
و بعد نذهب إلى المقبرة و نبحث عن قبور الذين ماتوا في الحمام ، نسأل حارس الجبانة عن قبر إمراة ماتت تحت الدوش أو قبر رجل مات فوق طاولة المرايا ، أو قبر طفل مات فوق مركبه الورقي في بانيو الحمام ، عن قبر أي احد مات ميتة رومانسية خاصة ، يقول لنا الحارس أن هؤلاء الموتى جميعًا ماتوا في حمام الشعب العمومي ، انزلقوا بصابونة واحدة و سقطوا في مرحاض واحد ، ماتوا بصورة شيوعية مزرية ، مثل زمرة من الاسماك ماتوا في شبكة واحدة ، مثل سرب من النوارس اصطدموا جميعًا بسفينة واحدة ، و لا احد منهم رأى موته ، لا احد منهم حصل على ميتته الشاعرية الخلابة…
إذا كانت الحقيقة حكاية الإنسان مع الارض فإن الخيال حكاية الانسان مع السماء ، و إذ ذاك جميع الناس اعطوا الموت اتجاهًا خياليًا مغرقًا في الفنتازيا و اللياقة الاسطورية ، المراة العشرينية تتخيل أن موتها رجل اسمر تشرب العصافير من ضوء عينيه ، و المراة الخمسينية تتخيل أن موتها خادم فيكتوري وسيم يرتدي قبعة بيضاء و يغمز بعينه ، و الرجل يتخيل أن موته عاهرة كسولة تبرد اظافرها في ملل و تتسلى بنزع شعر انفها بالملقط و تنتظره ريثما يقرر الانتحار ، و رجل آخر يتخيل أن موته مثل عشيقة ذكية تسقيه النبيذ بالنقطة و تخلع ثيابها بالقطعة ، و الطفل يتخيل أن موته سحابة بنفسجية يهرب إليها ساعة الدوام المدرسي و يعود إلى امه حين تمطر السماء…
جميع هؤلاء الموتى حلموا أن يحظوا بموت خاص و معقد ، موت روائي و مثير ، موت يصدر من الحياة نفسها مثل موت الماء في موسيقى النوافير ، و مثل موت شعاع الشمس على زجاج النوافذ ، و مثل موت الكلمة في السطر و مثل موت الفيروزة في العقد ، موت حساس و مبتكر و لا يحمل فرصته في أن يكون موتًا تافهًا و سخيفًا و مبتذلًا ، لكن لا احد في هذه المقبرة مات في حمامه الخاص ، جميعهم ماتوا في حمام الشعب العمومي ، ماتوا بالجدري و بالسل و الفقر و القهر و بالهزيمة و الخوف و القمع و البارود و بالعقد النفسية ، جميعهم ماتوا بنفس السبب و دفنوا في نفس المقبرة و حملوا في طفولتهم نفس الاحلام ، لكن خزي حين لا ترى وجه حياتك و لا ترى وجه موتك ، خزي يقول حارس الجبانة و يبصق على الارض و يعصر عينيه بيديه و يهرع الى حمامه الخاص في بوابة المقبرة…