من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
طيوب النص

هل الموت إمراة أم رجل؟

هل الموت إمراة أم رجل؟ اسأل سوسو تحت ضوء القمر هل الموت ذكر أم انثى ؟ هل له شارب أم نهد ؟ تقول سوسو مقاطعة اغنيتها الرقيقة ” اسأل الذين ماتوا في الحمام ” و تستأنف الغناء بصوتها الرخامي الناعم و فيما تكمل تفريط حبات العنب في فمي اغمض عيني و اتخيل أنني اموت بهدوء في منتصف الليل و في منتصف طرابلس…

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

و بعد نذهب إلى المقبرة و نبحث عن قبور الذين ماتوا في الحمام ، نسأل حارس الجبانة عن قبر إمراة ماتت تحت الدوش أو قبر رجل مات فوق طاولة المرايا ، أو قبر طفل مات فوق مركبه الورقي في بانيو الحمام ، عن قبر أي احد مات ميتة رومانسية خاصة ، يقول لنا الحارس أن هؤلاء الموتى جميعًا ماتوا في حمام الشعب العمومي ، انزلقوا بصابونة واحدة و سقطوا في مرحاض واحد ، ماتوا بصورة شيوعية مزرية ، مثل زمرة من الاسماك ماتوا في شبكة واحدة ، مثل سرب من النوارس اصطدموا جميعًا بسفينة واحدة ، و لا احد منهم رأى موته ، لا احد منهم حصل على ميتته الشاعرية الخلابة…

إذا كانت الحقيقة حكاية الإنسان مع الارض فإن الخيال حكاية الانسان مع السماء ، و إذ ذاك جميع الناس اعطوا الموت اتجاهًا خياليًا مغرقًا في الفنتازيا و اللياقة الاسطورية ، المراة العشرينية تتخيل أن موتها رجل اسمر تشرب العصافير من ضوء عينيه ، و المراة الخمسينية تتخيل أن موتها خادم فيكتوري وسيم يرتدي قبعة بيضاء و يغمز بعينه ، و الرجل يتخيل أن موته عاهرة كسولة تبرد اظافرها في ملل و تتسلى بنزع شعر انفها بالملقط و تنتظره ريثما يقرر الانتحار ، و رجل آخر يتخيل أن موته مثل عشيقة ذكية تسقيه النبيذ بالنقطة و تخلع ثيابها بالقطعة ، و الطفل يتخيل أن موته سحابة بنفسجية يهرب إليها ساعة الدوام المدرسي و يعود إلى امه حين تمطر السماء…

جميع هؤلاء الموتى حلموا أن يحظوا بموت خاص و معقد ، موت روائي و مثير ، موت يصدر من الحياة نفسها مثل موت الماء في موسيقى النوافير ، و مثل موت شعاع الشمس على زجاج النوافذ ، و مثل موت الكلمة في السطر و مثل موت الفيروزة في العقد ، موت حساس و مبتكر و لا يحمل فرصته في أن يكون موتًا تافهًا و سخيفًا و مبتذلًا ، لكن لا احد في هذه المقبرة مات في حمامه الخاص ، جميعهم ماتوا في حمام الشعب العمومي ، ماتوا بالجدري و بالسل و الفقر و القهر و بالهزيمة و الخوف و القمع و البارود و بالعقد النفسية ، جميعهم ماتوا بنفس السبب و دفنوا في نفس المقبرة و حملوا في طفولتهم نفس الاحلام ، لكن خزي حين لا ترى وجه حياتك و لا ترى وجه موتك ، خزي يقول حارس الجبانة و يبصق على الارض و يعصر عينيه بيديه و يهرع الى حمامه الخاص في بوابة المقبرة…

مقالات ذات علاقة

مهرجان السينما الاسبانية.. على مسرح المعهد العالي لتقنيات الفنون

المشرف العام

العربيّة .. لغة أم سلاح؟

أنيس فوزي

خربشات ملونة 09

محمد ناجي

اترك تعليق