أحمد فضل شبلول
منذ أن وَطِئتْ قدماه الأراضي الليبية والشاعر العراقي عذاب الركابي يتفاعل مع الحركة الأدبية بالجماهيرية، فيقرأ لكتابها ومبدعيها: شعراء وروائيين وقصاصين ونقادا، ويكتب عنهم وعن أعمالهم ويحاورهم ويتداخل إبداعيا وثقافيا معهم، وينشر آراءه وكتاباته في الصحف والمجلات الليبية والعربية الأخرى، وفي هذا يقول “أكتب عنهم وأحاورهم من خلال نصوصهم لأنني منهم، أشبههم كثيرا، ويشبهونني، ولهم طعم دموعي ولون أمنياتي.”
وقد تهيأت ظروف النشر مؤخرا لجمع ما كتبه الركابي عن الأدباء والكتاب الليبيين في كتاب صدر مؤخرا عن منشورات المؤتمر التي تعنى بتقديم نماذج من الإبداع الليبي الحديث والمعاصر، وصدر الكتاب بعنوان “كيمياء الكتابة ـ تأملات في الأدب الليبي المعاصر” وجاء في 160 صفحة.
يبدأ الركابي بالشعر فيكتب عن الشاعر الراحل علي الفزاني من خلال ديوانه “فضاءات اليمامة العذراء” وحالة عشق بين الحلم والواقع فتلتقي الكلمات المندلقة من روحه بعاصفة من الرقة والدهشة، فتساقط سماء الشاعر العاشق مواعيد وقصائد وشموعا.
أما الشاعر جيلاني طريبشان فهو شاعر موهوب، محترق حتى العظم، متعطش للحب والحياة واستقامة العالم، تورق على أصابعه النحيلة ورود المحبة وينبض في قلبه الخير للإنسانية، ويظهر هذا في ديوانه “كوابيس الليلة الأخيرة”.
أما الشاعر مفتاح العماري فيمتاز شعره بالبساطة والعمق معا، ويدفع قارئه إلى الإصغاء بكل حواسه، وهو في ديوانه “منازل للريح” يتمثل تجارب الآخرين ولكن بذكاء وحنكة دون أن يلوك تجربة أحد، أما عن لغته فهي لا تبتعد عن فوضى جراحه وصخب همومه وأحزانه.
ومن الشعر إلى القصة لنلتقي بسالم العبار الذي يؤسس من خلال مجموعته “خديجار” لقصة ليبية جديدة، ربما تتفوق في لغتها وموضوعها ودلالاتها وجديتها على العديد من النماذج القصصية “التي قرأناها وعشنا أسيري فعلها وأسئلتها لفترة طويلة على امتداد الساحة الثقافية في وطننا العربي، وهو يعتمد على الخيال كثيرا للتخلص من عثرات وإحباطات واقع غامض مريب ومفزع.”
أما القصة لدى محمد علي الشويهدي، من خلال مجموعته “أحزان اليوم الواحد” فهي نتاج حلم إنساني دافئ “تلتحم كقارئ في نسيجه لتكون جزءا منه، وأحيانا تجبر البطل، أو شريكه، في الحلم الممتد إلى أقاصي الروح والذاكرة.”
خليفة أحواس تكشف مجموعته “الظل الثالث” عن موهبة وقدرة على الانغماس في الواقع وإضاءة دهاليزه بالكلمات، يسمو بها خيال فني جامح وأصابع شابه واثقة تختزن الكثير دون أن ترتعش أو تتخاذل مهما عظم الحدث ومهما كانت مداهمة الشخصيات قوية أو كان الواقع المعاش مرا.
زياد علي في مجموعته “الطائر الذي نسي ريشه” يعتمد على لغة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، تقابلها سهولة وتلقائية في التناول والمعالجة، إنه يوظف شذرات التراث الحكائية توظيفا مقنعا “أعطى للقصص هذا الجمال الهادئ وهذه القوة في الجذب والمتعة أيضا.”
“شهوة السكين” لسالم الأوجلي تؤسس لحلم شفاف لا ينتهي، فهو قاص موهوب تسير قصصه في أكثر من خط وأكثر من لون وأكثر من شكل، (فالشكل في الفن ـ حسب تعبير ميلان كونديرا ـ هو دوما أكثر من مجرد شكل) والقاص “يمزج تارة بين الواقع والحلم، لخلق نوع من التشويق، وتارة يعالج واقعه بل يتخلص منه بالرحيل على جناحي الحلم الأسطوريين.”
في مجال الرواية، يتوقف الركابي عند رواية “التبر” لإبراهيم الكوني التي تعد المفتاح الذهبي لأبواب عالم هائل غامض مجهول وعظيم هو الصحراء، وهو يرى أن “التبر” حالة عشق صوفية للصحراء، “ربما لأنها العالم الذي لا يعرف التلوث، بل من الصعب تلويثه وتغيير معالمه، أو العبث بتفاصيله ومصادر أحلامه ومنابع الإلهام والأصالة فيه، وفي “التبر” نجد صراعا بين نقيضين لكل منهما أسلحته الخفية والظاهرة، بين المادة (الذهب) الزائلة، وبين القيم الخالدة الباقية.”
أما الروائي صالح السنوسي فيعلو في رواياته النبض القومي، ويبرز الهم العروبي بوضوح كبير، بل والرؤيا والنسيج الذي تبنى عليه أعماله الروائية، ويرى الركابي أن “هذه النستولوجيا العالية بكل ما هو عربي، ابتداء من صفحات الجهاد التي سطرها وخلقها الأجداد، وانتهاء بالمشاريع الوحدوية التي قتلت وهي في المهد، هي العصب الحي والشريان النابض الذي يغذي كل أعماله الروائية التي أثارت عند صدورها الكثير من الأسئلة والنقاشات على امتداد الساحة الثقافية العربية.” ومن ثم تجئ روايته “حلق الريح” نابضة بهمه القومي “مستلهمة الموروث بشكل فانتازي ممتع، وهي تعتمد على الرمز الشفاف المثير وتحفر وتفتح الشهية للقراءة دون الشعور بالملل والضجر، وكأن أبطالها وزمنها ومكانها قريبون منا.”
في مجال المقال والسيرة الليبية، يحدثنا الركابي عن سيد قذَّاف الدم في “هوامش على جدار الغربة”، ومحمد علي الشويهدي في “صرخات في زمن الصمت”، ومحمد السنوسي الغزالي وفن المقال. وهو يتوقف طويلا عند كتاب “منابت الريح” الذي كتبه محمد عقيلة العمامي عن الراحل خليفة الفاخري، والكتاب كما يرى الركابي “إضافة هامة للمكتبة الليبية والعربية أيضا، ومعين لدارسي الأدب والمهتمين بالفن القصصي وسبر أغوار حياة الأدباء والكتاب الصادقين الذي تعاملوا مع الحرف حتى الهوس والجنون أمثال خليفة الفاخري.”
في مجال الحوار الأدبي، يحاور الركابي ثلاثة شعراء من ليبيا هم: حسن السوسي، وعلي الفزاني، وفرج العربي.
يرى حسن السوسي أن الشعر “مسيرة في صحراء وأنه صالح لكل الأزمنة، وأن القصيدة هي الأقرب والأقوى، وأن الرواية فن دخيل على الأدب” لذا فإنه لا يتشوق كثيرا لقراءتها، وأن المرأة كائن مثير وجميل ودافئ. والأمر الذي يحير في هذا الحوار أن صاحبه أجراه لمجلة الثقافة العربية ونشر في العدد الثالث ـ فبراير / شباط 1977، غير أن هناك إشارة في حديث السوسي عن جريدة أخبار الأدب التي صدرت بالقاهرة في التسعينيات، إلا إذا كان يقصد “أخبار أدب” أخرى لا نعرف عنها شيئا.
أما الشاعر علي الفزاني فيعترف للركابي أنه “يرفض معظم قصائد أحمد شوقي، وأن الخراب صفة حتمية، وأن الأجناس الأدبية أكذوبة، وأن إبراهيم الكوني عبقرية روائية مخبوءة، وأن شعراءنا وكتابنا يعتمدون على الكتب أكثر من التجربة الحية”، وهو يرى أن الحداثة لفظ خطأ صحته التحديث أو التطوير، وأن الأدب العربي في ليبيا تجاوزته أقلام الباحثين والدارسين لأسباب لا يعرفها، وأخيرا يرى أن بعد عاصفة الصحراء (1991) ستكون العاصفة على الثقافة.
الشاعر فرج العربي يرى أننا أبناء لآباء لا وجود لهم، وأن الشعر ليس له وطن، ويعترف أن القارئ لا يعنيه لحظة الكتابة، وأن القصيدة الجديدة في ليبيا نبتة شيطانية وسط مجتمع محافظ، ويسعى العربي لأن يسمى الأشياء كما يراها هو لا كما يراها غيره، ومن ثم يبتكر لغته بعيدا عن اللعب في اللغة السائدة. أخيرا يعترف العربي أن تجربة الشعر في ليبيا لا تزال مهمشة وغير معروفة عربيا، وأن في ليبيا شعراء أهم بكثير من شعراء لهم أسماء رنانة.
هذه هي خلاصة “كيمياء الكتابة ـ تأملات في الأدب الليبي المعاصر” الذي أفسد متعة قراءته كثرة الأخطاء المطبعية، رغم جودة الورق والإخراج الخارجي والداخلي للكتاب. وعلى الرغم من ذلك فقد جعلنا الركابي نرى، من خلال عدسته وآرائه ونقده الانطباعي، زاوية من زوايا المشهد الأدبي في الجماهيرية العربية الليبية.