كريم ترام
.
لعل الرواية الليبية قد شاع اسمها وانتشرت عربيا وعالميا بفضل القاص والروائي إبراهيم الكوني صاحب .. التبر، الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة، الدنيا أيام ثلاثة، اذ نقش حروفها بطابع المحلية، حيث يحتفي في رواياته بخصوصية المكان الصحراوي الشاسع ،بتقاليده وأعرافه ولهجاته.هذا ما بوأ مبدع نزيف الحجر منزلة رفيعة في المشهد السردي العربي ووقع إجماع بالجودة على أعماله من قبل النقاد العرب.
ولأن أرض ليبيا معطاء، فقد أنجبت اسما لا يقل موهبة عن الكوني،هو محمد الأصفر الذي وصلت سفينته الى بحر الكتابة في سن السابعة والثلاثين، بعد أن بدأ لاعب كرة القدم في نوادي مدينته الحبيبة بنغازي، ثم تحول إلى مجال التجارة،متنقلا بين المدن والبلدان، مجربا منطق الربح والخسارة، متعرفا على طبائع الناس ومعاملاتهم وأصنافهم؛ لكن غواية الكتابة وسحر ها وألق حروفها وبهاء عباراتها اجتذبه ،فقرر الاخلاص لها والتضحية من أجلها، فبدأ بالقصة ،مستبطنا شخوصها و أفضيتها ورؤاها المتعددة ، فأخرج إلى حيز الوجود مجموعتين قصصيتين نديتين.
بيد أنه لم يطل المقام في حضرتها طويلا ، إذ لم ترق الى طموحاته الكبيرة ،فارتمى في أحضان الرواية ربما ؛لأنه وعى أن الزمن الذي يعيش فيه هو زمن الرواية بعبارة الناقد العربي القدير الدكتور جابر عصفور.لذلك جرب الكتابة الرواية فأبدع…فرحة، ملح، المداسة، شكشوكة، شرمولة، عسل الناس، نواح الريق، تقودني نجمة…
في أعماله الروائية احتفاء مخصوص بالفضاء بشكل لافت للنظر، حيث يتبدى للمطلع عليها …فضاءات بنغازي التي يقطنها ، طبرق، درنة، مصراتة، والعاصمة طرابلس…
وفي أعماله -ايضا-اهتمام بمشاكل الإنسان الليبي البسيط، المقهور ، المظلوم، المسلوب الارادة؛حيث إنه عاش في ظل نظام دكتاتوري ومتغول لا يعترف إلا بالمقولة البسماركية النار والحديد.
وفي أعماله تنبؤ بالثورات ،فالقارئ لروايته ملح والمفتض لبكارة أسطرها سيتكشف له بوضوح ذلك.. تحكي الرواية عن فرقة موسيقية تتكون من 1200 من العازفين، جابت الأقطار لكي تقدم عروضها الموسيقية ،لكنها فشلت في مبتغاها ،فدخلت أرض ليبيا ، وسمح لها بتقديم عرضها في حديقة الملح ببنغازي أ صدر قائدها صراخا حادا فاستجابت له باقي المدن الليبية.
وفي ذلك إشارة ذكية إلى مذبحة سجناء أبو سليم سنة 1996،حيث احتج 1200 من السجناء الليبيين على أوضاعم السيئة وظروفهم اللاإنسانية .فكان جواب معمر القذافي أن اتاهم بالمرتزقة لاقبار صوتهم جميعا ،دون أن تحرك الدول العظمى ساكنا ، نظرا لتقاطع مصالحها مع مصالح الدكتاتور وعصابته.هذا الحدث الأليم ترك جراحا لم تندمل في نفس الأصفر ،رغم تعاقب الزمن.
وبنفس الوتيرة ظل الرجل يكتب دون هوادة واسترسال، بالرغم من المضايقات التي تعرض لها والعراقيل التي صادفها.فأعماله الروائية طبعت ونشرت خارج بلده؛ لأنه لم يكن من زمرة أشباه المثقفين ،المسبحين بحمد القذافي وأبنائه،والمطبلين لحماقاته وأوهامه والمقدسين لكتابه الأخضر. إن الأصفر مقت هذه الفئة الانتهازية والوصولية،التي تزحف لتحقيق مصالحها والفوز بدنانير ولي النعمة؛ لا يهمها المبدأ ،ولا تهمها الكرامة.فكثير من هؤلاء تحولوا الى خدام عند الزعيم ، ملك الملوك ، في سفارات ليبيا ، يحرصون أشد الحرص على توفير الظروف الملائمة لأبناء القذافي من خمر وحفلات ماجنة وحسناوات عاهرات ، وهلم خدمات …
وفي عزلته ،ناجى القلم والورق والأفكار ، محققا ذاته ونجاحاته ، فانتشرت كتاباته في الوطن العربي. واختلف النقاد العرب بصددها ، بين مثن ، مطر عليها، وبين متوجس منها ، مدخلا إياها ضمن ما يسمى برواية اللارواية.ولكن يكفي الاصفر فخرا ماقاله الناقد العربي المتميز صبري حافظ عن تجربته”يكتب عن عالم المهمشين في قاع السلم الاجتماعي، ويكشف لنا ما يمور به هذا العالم من ثراء وخصوبة” بعد عامين كاملين من صدورها ؛ أي رواية ملح ،سيحدث ما لم يقع في الحسبان ،حيث ستختلط أوراق الساسة وتخيب تأويلات المنظرين ،وتهب رياح الثورة العربية على تونس في البداية ، ثم انتقلت إلى أرض الفراعنة ،وحطت الرحال بليبيا .وكان الهدف منها تغيير الأنظمة التي شاخت على كراسيها الوثيرة وقلب الطاولة على أحلامها الوردية ،والمتجلية – أساسا – في توريث الأبناء عروش الاباء.
وحيث إنه المجد،والقائد،القابض على عرش حكمه بيد من حديد، فقد خرج إ لى الشعب الليبي بخطابه الشهير، متوعد إياه بالحرق والتصفية وهلم بذاءات …
ومحمد كبقية الليبيين الشرفاء والأحرار،عاش ملحمة بنغازي في أبهى تجلياتها. ومن غريب الصدف أنه كان في سرت، مشاركا في حفل توقيع كتاب، وقفل راجعا الى مدينته فرأى الدخان متصاعدا من أعالي المباني البوليسية والمخابراتية،فأدرك تمام الادراك أنه في قلب الثورة.
ولكي لا يضيع هذه الفرصة التاريخية من حياته ،فإنه سعى الى التفاعل مع مجرياتها يوميا بالكتابة لأنه يعلم علم اليقين تأثير الكتابة في النفوس المتحمسة والمتقدة نضالا وثورة ..
وفي عز الثورة الليبية ،جمع مقالاته عنها في كتاب بعنوان “ثوار ليبيا الصبورون”، الذي كان بمثابة الدعم المعنوي للثوار في ساحات المعارك ضد كتائب القذافي ،التي اندحرت نهائيا بسقوط سرت ومقتل زعيمها معمر وابنه المعتصم والقبض على ما تبقى من أزلامه ومرتزقته.
هكذا تحقق الأمل والرجاء بالتضحية والصبر والنضال والدعوات ، ولاحت في الافق بشائر الحرية والعدالة والكرامة ، التي نشدها الليبيون طويلا ،ومن ضمنهم صاحبنا ، الذي مازال يحمل حقيبته وفيها قلمه و أوراقه ، باحثا عن لحظة مناسبة لمغازلة بياض الصفحات وامتطاء صهوة الكتابة .فمن يدري ؟ قد يفاجئنا بكتابة رواية مستوحاة من وقائع الثورة الليبية.