مغامرة ومجازفة تكاد تكون محفوفة بالفشل أن يقوم فنان بافتتاح معرض شخصي يوم الجمعة حيث الناس لا تفكر إلا بالاسترخاء والتفرغ للزيارات الأجتماعية , غير أن النحات عبدالله سعيد القادم من أقصي الشرق الليبي من مدينة شحات تحديدا أقدم على هذه الخطوة وعرض منحوتاته يوم الجمعة بدار حسن الفقيه حسن بطرابلس ورغم أن الحضور كان محدودا إلا أن المعروضات عوضت عن قلة الحاضرين لناحية جمالها , حيث قام الفنان بعرض عدد ” ثمانية عشر ” عمل من أعماله المنحوتة من مادة الخشب التي بدت هنا طيعة ومستسلمة لأنامل الفنان الذي أفلح وإلى حد بعيد في تطويعها لخدمة فكرته الفنية والجمالية كما لو أنها مادة هشة عندما يشرع الفنان في التعامل معها بحيث تتشكل تماما كما يريد أو كما هو مخططا له , هذا مع احتساب مفاجآت الصُدف أثناء العمل , فالخشب هنا ينثني بسلاسة ويتلوى وينساب بهدوء وينعطف طبقا لإرادة الفنان وامتثالا للشكل النهائي ذو الأبعاد الثلاثة وهي الميزة التي تُحسب للأعمال النحتية كون المتلقي يستطيع التطلع إليها من اكثر من جانب بعكس الرسم على الأسطح المستوية أو الأعمال ذات البعد الواحد .
والأعمال من الدقة والرهافة بحيث انك بينك وبين نفسك وأنت تتفرس في التواءاتها وانثناءاتها ونقوشها وانحناءاتها قد تنبهر بمهارة الفنان التي حفظتها من الأنكسار والتحطم أثناء العمل عليها .
وتحُس وأنت تنظر هنا وهناك للمنحوتات بأنها ليست من مادة الخشب الصلبة إلى حد ما بل من ورق أو ما شابه حين تبدو للناظر كقطعة إسفنج بثقوبها أو كأنها كائن بحري بأطرافها الدائرية المتموجة وكأنها في حالة حركة وليست ساكنة , ثم أن الفنان خيرا فعل حين ترك أغلب الأعمال على طبيعتها بعد أن تعهدها بالصنفرة والصقل لتبدو في ليونة ونعومة وجنة طفل ولم يقوم بتغطيتها بالطلاء الشفاف واللماع ” الورنيش ” أو أي طلاء آخر قد يقلل من جمالياتها , هذا إذا ما استثنينا أعمال قليلة جدا تم دهنها بالطلاء اللماع .
ومؤكد أن للمنحوتات إضافة إلى قيمتها الجمالية قيمة تعبيرية وإلا بما سنُؤوِّل منحوتة الكرسي الذي يضع قدما فوق قدم ويقف فوق غابة محترقة أو بماذا سنُفسر منحوتة القلب أو أية دلالات سنسبغها على تلك المنحوتة التي تشبه الأُذن البشرية وتحتوي على ما يحاكي القوقعة , خلاصة القول أن الأعمال المعروضة قادرة على مشاكسة ذائقة المتلقي وحثه على التعاطي معها وفقا لثقافته وطبقا لمخزونه البصري , سوى أن ما ينقص المعرض هو عدم وجود قائمة بأسماء المنحوتات سيما وأنها مُرقمة ولكن يبدو ان هذه الأرقام وُضِعت للأستعانة بها عند البيع , إذ هذا ما فهمته من صاحبها , ولستُ متأكداً من أن عدم وجود قائمة الأسماء يعد نقيصة لأنها قد توجه المتلقي إلى ناحية معينة إذا ما وًجِدت , ولكن في ظل عدم وجودها للمتلقي كامل الحرية في التعاطي مع الأعمال وتأويلها بالأستناد إلى خياله وثقافته دون تدخل خارجي ودون املاءات , خاصة وأن المنحوتات لديها ما تقوله بخلاف شكلها الجميل .
وبعكس اللوحات التي يمكن تذوقها فقط بمجرد النظر إليها وارتشاف جمالياتها , لا تكتمل متعة مشاهدة المنحوتات دون لمسها وتحسسها أو حتى استنشاق رائحها واستحضار الغابة التي تقف وراءها , واللمس هي الرغبة والأشتهاءة التي ظلت تراودني وأنا أتنقل من منحوتة إلى أخرى , غير أنهُ تقديرا لإرادة الفنان – وأنا فنان وأُدرك هذا الأمر – في عدم لمس الأعمال لأنها حسَّاسة والأكتفاء بالمشاهدة عن بُعد , لم ألمس الأعمال وتعويضا عن ذلك أطلت النظر إليها والدوران حولها حتى لا يفوتني منها شيء , أو هذا ما تراءى لي .
حضرت المعرض بهدف الأستمتاع بمشاهدة المعروضات واستثمار هذه الفرصة لممارسة رياضة السير على الأقدام حيث قمت بركن سيارتي في جنان النوار وتوجهت إلى طرف المدينة الشمالي حيثُ دار حسن الفقيه حسن أين عُرِضت الأعمال مشيا على الأقدام ولم يخطر ببالي أنني سأتناول المعرض بالكتابة ولكن ودون وعي وجدتني أؤلف الجُمل وأتمعن في سمات التجربة طوال وجودي في المعرض وفي طريق العودة , حتى إذا ما وصلت السيارة وجلست على كرسي القيادة وامتشقت القلم والتقطت الورقة كان المقال شبه مكتمل في الذهن ولم يتبقى إلا أن انقله إلى الورقة ومن ثم طباعته ونشره وساعدني ذاك المساء , مساء نهاية الأسبوع وأنا أجلس داخل السيارة في شارع الوادي أن حركة المشاة والسيارات كانت ضعيفة , ومع اكتمال تدوين المقال التفت إلى المقهى القريب داخل الحديقة لأجد ازدحاما على غير المعتاد إذ انطلقت مباراة بلجيكا والبرازيل وكانت فرصة جميلة لحضورها كاملة حتى خروج البرازيل من منافسات كأس العالم .
يُذكر انَّ المعرض الذي أشرفت على تنظيمه مؤسسة ورق التي تعني بالفنون التشكيلية , لا سيما الأتجاهات الحديثة منها , حمل عنوان ” وِصال ” ويستمر حتى يوم الاثنين القادم .