حوارات

الشاعر الشارف الترهونى: يروى ذكرياته وأحلامه

الشاعر الليبي “الشارف الترهونى”: يروى ذكرياته وأحلامه

الصلوات فهي ليست طريق الخرفين والخرفات

صراع الأجيال حقيقة حياتية، وتواصل بمعنى خليقي من الخليقة

حاوره: جميل حمادة

الشاعر: الشارف الترهوني

هو شاعر مديني (طرابلسي) -ربما بكل ما تعنيه الكلمة- فهو عاش منذ مراهقة مبكرة في طرابلس وعمل وقتا طويلا في شركة نفطية وتنقل بين عواصم عربية وأوروبية كثيرة ، لذا نراه واكب حركات التجديد والحداثة الشعرية بكل جديدها وضجيجها، وخاصة عندما تأجج لهيبها في منتصف السبعينات، حيث أصدر في ذلك الوقت مجموعة شعرية متمردة، أثارت عاصفة في الأوساط الثقافية الليبية حين ذاك، وكنا نحن ما نزال شعراء شبابا، نتابع هذه الحركات المتمردة بشغف شديد وروح متوقدة ولهفة لا تنئ تبحث عن المعرفة والثقافة والقصيدة، وكذلك عن كل جديد ومختلف. وكان عنوان مجموعة الشارف الجديدة تلك “خمائل الصمت” طبع دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بيروت، 1975.

ثم كالعادة خفتت ثورة الشعر المتمرد رويدا.. وكأنه يمنح للعقل والحكمة فرصة أخرى لكي يثبتا وجودهما، فقد يتجاوز الشاعر طيش قصيدة المراهقة وفوره الشباب.. وهشاشة اللغة أحيانا. لكن أوار الشعر في القلب لا يخبو أبدا. يظل من وقت لآخر يتجدد مثل موج البحر، وكأنه يقول لن استسلم للصمت والموات.. فهل وفق فعلا الشارف الترهونى في استعادة روح الشعر من جديد.. وهذا الهياج بداخله الآن؛ هل يشبه فورة السبعينات. حين صدرت مجموعته المتمردة تلك، سارعت صحيفة (الأسبوع الثقافي) التي كانت تصدر في طرابلس في ذلك الوقت إلى قراءتها قراءة بينت أنها لفتت انتباهها، وبنفس السرعة بادرت زميلتها الأسبوعية مجلة (كل الفنون) وقدمت المجموعة الشعرية تقديم إعجاب وإشادة، وبعد سنة من صدور (خمائل الصمت) عادت مجلة (الأسبوع الثقافي) وأجرت لقاء مع الشاعر. وفى 24/10/1989 أي بعد أربعة عشر عاما، قامت صحيفة (العـرب) بإجراء مقابلة معه وقد حملت عنوان (رحلة هروب غير مجد من الكلمة) ويمكن أن نقول إنها كانت مقابلة فريدة من نوعها.

بعد ذلك بأربع سنوات، أجرت مجلة (الكفاح العربي) معه حوارا علمنا من خلاله أن الشارف الترهونى كان مناضلا أيضا إلى جانب كونه شاعرا، فقد تعرض للسجن أيام الحكم البائد. سوف نحاول أن نستقرئ هل ما زال لدى الشارف الترهونى الشاعر نفس وجهات نظره السابقة أم أن الزمان غيره.

أصدر الشارف الترهونى ثلاث مجموعات هي: خمائل الصمت، بيــروت 1975/ للشعر طعم جديد، طرابلس 1976/ خواطر للثورة، وتضم مجموعة المقالات والخواطر التي نشرت في أكثر من جريدة محلية في مرحلة ما قبل الشعر، ومجموعات لم نرها مطبوعة مثل: (الشعر وليال عشر)، و(سر القصيدة) مجموعة قصائد غزلية. ترى ماذا يقول الشاعر الذي هو الآن في منتصف عقدة الثامن.. وماذا يقول بعد هذه الرحلة الطويلة… والمتقطعة – مع الكلمة والخلق والحياة؟

القصيدة الأولي

– يطيب لي أن أسألك بداية.. هل تذكر أول قصيدة كتبتها، ومتى كان ذلك وأين؟

– نعم؛ أذكر أول قصيدة كتبتها، كانت قبل قيام الثورة بوقت قليل، قصيدة مكتبية، كنت يومها سكرتير مجلس الإدارة للمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي. قصيدة مكتبية، ظهر فيها على السطح ما يحتمل في داخلي حتى الفيضان وهى موثقة في سيرتي الذاتية. فقلت:

الشتاء زمهرير./وأسناني تصطك من البرد؟/في مكتب المدير./كان يوما قرب مكتب المدير./أنتقل مكتب المدير./لمن نشكو؟/لنائب المدير؟/شكونا، أنذرنا./لم ينفع النذير./الأستاذ مختار لا يعرف الشتاء./في مكتبه موقد من الحطب والفحم الغزير./ليتني أثير نائب المدير/ليتني أثير نوحيته/التي قل ما تثور../لو يثور/لصار في مكتبي نأو نور…

– أنت قلت في حوار قديم مع (الكفاح العربي)، بأنك لم تكتب الشعر العمودي، ولم تتعامل مع بحور الشعر، فكيف تقيم إذن ما كنت تكتبه شعرا.. إذا خلا من الإيقاع والموسيقي؟!

– الشعر إحساس وفيض وجدان، أي هو نبع، هو مصدر النبع والقدرة على التعبير بلغة ذات جاذبية وجمال ترفرف بأجنحة الشعر وتزهو بزهوه متفادية تراكم الكلمات في صدر وعجز طويلين يضطر الشاعر لملئهما بكلمات أسيرة للقافية، أسيرة للرنين.

– يا صديقي… لا تنس أن هناك ما اسمه السجع!؟

– السجع هو القافية، هو الرنين الذي أشرت إليه سابقا والذي تخطاه الشعر الحر إلى حدائق ذات بهجة، وتبقى اللغة دائما والقدرة على الوصف والتعبير هي المحك.

– هل تعتقد أن عقد السبعينات كان العقد الذهبي للشعر والثقافة العربية..؟

– لا أعتقد ذلك، لسبب بسيط؛ لأن عمالقة الشعر والثقافة ممن سبقونا وهم في أعمار الآباء وعلى الأكثر الأجداد نقصرهم طولا وظلا!؟

– أخي الشارف الترهوني.. في كثير من الأحيان نرى في قصائد لك مباشرة وتقريرية واضحة، رغم أنها ليست قصائد سياسية منبرية.. فما هو تعليقك؟

– أحسب للمتلقي ألف حساب، وأحاول ما استطعت أن أشركه الخطي، وما لم يفهمني سيتخلى عنى من النظرة الأولي، سأحاول ما استطعت أن اشد انتباهه وفى نفس الوقت أبتعد ما استطعت عن المباشرة والتقريرية رديفاهما فقد التواصل بين الملقى والمتلقي، لمتاهات يعجز المتلقي عن تحديد الرؤية فيها. ولا يزال يشدني السؤال الذكي، فبعد المباشر التقريري يقع المسئول في قفص “سياسية منبرية” ويرد على المساءلة بأن الخطاب وارد دائما، في المقالة، في الخاطرة، في الشعر، وهو الوصول إلى القارئ.

لقب الشاعر

– هل كان لقب “شاعر” واحد من بين أحلام شبابك الأولي؟

– بدأت القراءة مبكرا، أي قراءة الجريدة أو المجلة في البداية ثم الكتاب بعد ذلك، بدأت القراءة عام 1947 أي قبل 58 عاما. هذه القراءة المبكرة جعلتني أتجاوز الحلم بلقب شاعر بعينه، لكنها مكنتني من رؤية طوابير لأحد لها من الشعراء بدءا بسوق عكاظ وانتهاء بالوصول إلى القمر والمشي على سهولها ومنحدراتها، ذلك الملهم ولا يزال.. في قصيدة لي وهى إحدى مجموعة (خمائل الصمت) تحدثت فيها إلى شعراء العصور الغابرة ويرد فيها ذكر ليلة نزول الإنسان على القمر وختمتها بما يصلح ردا على سؤالك الجميل يا جميل؛ حيث قلت:

أيها الشعراء/أخاطبكم على بعد/أتحدث من عصر الفضاء/إذا انقطع صوتي/فلا تيأسوا/أنصتوا قليلا/سيتجدد اللقاء

وختمتها: إنما أغرقني شاعر منكم/في قطرة ماء… وهو للشاعر عمر الخيام؛

– كيف تنظر إلى علاقة اللوحة بالقصيدة.. وكلاهما فن جمالي رفيع؟!

– أخي “جميل”، أنت شاعر وذلك يساعدك أن تضع يدك على الجرح.. العلاقة بينهما جد وطيدة.. وكلاهما فن جمالي رفيع.. هذه المرة سأغيظ القصيدة بشكل ربما لا قبل لها على احتماله: قصيدة “قدر” إحدى قصائد المجموعة الشعرية الثانية “للشعر طعم جديد” في تلك الفترة وصل مستوى الطبع جريدة ومجلة إلى مرتبة عاليات، طبعا وتنسيقا وإخراجا، تقرأ القصيدة فنجد أمامك الشعر والشاعر وتجد اللوحة التعبيرية حيث يشارك الرسام الشاعر في الموضوع بلوحة تعبيرية غاية في الرونق والإبداع.. نشرت “قدر” وإذا بالرسام يقرأها بلغته ويرسمها بريشته فإذا بها لوحة تعبيرية غاية التعبير.

– بعد هذا العمر في الشعر والثقافة.. هل تشعر بجدوى ما، بمعنى هل تشعر أنك حققت نفسك. أو حققت أحلاما أو هدفا عظيما ؟!

– لم أحقق نفسي، غايتي نشر ما كتبت وما أكتب..؛ وهذا لم يتحقق..!

– ولماذا لا تنشر ما كتبت؛ حتى ولو على نفقتك الخاصة، كما يفعل العديد من الكتاب والشعراء والروائيين هذه الأيام..؟

– الحقيقة.. ليست لدى إمكانيات طباعة كتبي على نفقتي الخاصة..

المشهد الشعري الليبي

– كيف تقيم المشهد الشعري الليبي الآن، خاصة وأنت مطلع على نتاج بعض الشعراء المحدثين والشعراء الجدد الشبان؟

– الشعر موجود والشعراء موجودون، والشعراء المحدثون، والشعراء الجدد الشباب يتحدثون بلغة الشعر الحديث عن جدارة وكفاءة.. عقبة المشهد الشعري الكأداء في وسيلة النشر ومن ناحية أسوأ في المحسوبية والشللية، فحتى عندما توفرت وسيلة النشر وبقدرة فائقة كان يزيد عدد المحرومين ويتصاعد عدد المحظوظين.

– الشارف الترهونى في بداية حياته الشعرية أقام ثورة.. وبغض النظر عن حجم هذه الثورة فكيف تقيمها.. هل نجحت أم فشلت؛ أم أن الظروف لم تكن مهيأة لتقديمها؟

– المجموعة الشعرية الأولى (خمائل الصمت) كانت محظوظة جدا، صدرت في وقت ارتفع فيه مستوى النشر حيث كانت تصدر في طرابلس مجلتان أسبوعيتان (الأسبوع الثقافي) و(كل الفنون) والأكثر حظا للمجموعة أن المجلتين كان يديرهما شابان من جيل جديد؛ ليس من جيل صاحب المجموعة ولا حتى من الجيل اللاحق مباشرة وإلا لسحقها الحقد ومضغها وتفها الحسد.

استقبلت المجلتان المجموعة بالأحضان، بالإعجاب والاندهاش.. لم يكتف رئيس تحرير (الأسبوع الثقافي) بكتابة صفحتين عنها في العدد الأول؛ فأضاف في عدد آخر نثرية مع صورة للمؤلف بريشة رسام وتأثر بكلمات المقدمة لدرجة استعمال بعض كلمات المقدمة لدرجة استعمال بعض كلمات منها وجمل في مقالة الأسبوعي. أما ما كتبته عنها مجلة “كل الفنون” من تقدير وإعجاب فحدث ولا حرج.

إذن هي محظوظة وهاتان المجلتان هما اللتان سلطتا عليها الضوء حتى رآها القارئ في صورة لافتة للنظر وإلا لما كان لها هذا الصدى الذي لا يزال يدوى إلى الآن وأسمعه من مقدمي في هذه المقابلة.. شاعري الزميل؛ جميل حمادة.

– هناك من الأدباء الكبار من يعانى من عقدة تجاه الأجيال الجديدة.. والعقدة أيضا لدى الشباب الذين يرون أن كل شيء يمنح للشيوخ والكبار من الأدباء.. فكيف تنظر أنت لصراع الأجيال ثقافيا، هل تشكل لك عقدة ما؟

– صراع الأجيال حقيقة حياتية، وتواصل بمعنى خليقي من الخليقة وبالتالي هو ملمح حضاري من ناحية وتخلفي من الناحية الأخرى وفى الحالتين له أثره إيجابا على الأمة المتحضرة الواعية وسلبا على الأمة التي ترفس في أغلال الجهل والتخلف… بالنسبة لي لا يشكل هذا الصراع أي عقدة بسبب تجاوزي لمناخ هذا الصراع أنى أعيش فيه شئت أم أبيت.

– أنت أحد فرسان قصيدة النثر التلقائية زمان.. ولكن ما هو موقفك منها الآن؟

– قصيدة النثر (التلقائية) هي فرسي زمان، وهى فرسي الآن، وآمل أن أكون في مستوى الفارس، والقرار بيد الشعر وبيد شريكه القارئ، آمل أن أكون عند حسن الظن.

– هل تلاشى زمن الإبداع الفعلي الذي تشكلت فيه القصيدة الرصاصة التي كانت توقد الجماهير حماسا ؟

– من مجموعتي الأولى “خمائل الصمت” أطلقت في مديدة العمر حرب فلسطين هذه الرصاصات: “1” إلى فدائي “2” لعبة ميونخ “3” كابودجى “4” المولد الحزين “5” قوس قزح.

وفى اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 أطلقت من ساحة حديقة هايدبارك بلندن قصيدة رصاصه سمع فرقعتها حضور عفوي كالعادة متنوع الأجناس ومنهم يهود ثم ذهبت إلى مكتب فلسطين في لندن حيث أودعتها.

– هل كتبت قصائد جديدة مؤخرا حول احتلال المغول الجدد لبغداد ؟

– لا.. لم أكتب، لقد نفد الرصاص وفرغت البندقية وسكتت.. أسكتها اليأس العربي الذي أجاد رمى الرصاص لكنه لم يجد رمى السياسة.. أخذ بالأحضان ومشى مشية العزيز المقتدر، على يمينه قطب وعلى يساره قطب، كان الوسيط يمشى في الوسط بين المتصارعين ورأيناهم يمشون وقد وضع الوسيط يده اليمنى واليسرى على كتفي طرفي النزاع ومشوا إلي؛ كامب ديفيد إلى شرم الشيخ؛ وانتهت المهزلة.. خرج الوسيط من الوسط وضع يده في يد الإسرائيلي كالمعتاد والعربي الذي كان يصول ويجول ويتنقل بالهيلوكبتر صار أسير المحبسين. لنا ولك الله يا فلسطين.

– حركة النقد العربي في تراجع متواصل عن النص الإبداعي بكافة أجناسه، فما هو تعليقك؟

– هو كذلك، تراجع في الإصدار، تراجع في شهية القراءة..!

– هل ما زال للشعر أي دور ثقافي أو نضالي أو فلسفي يقوم به في ظل عولمة أمريكية تريد أن ترسم كل شيء حسب رؤيتها ؟

– لا عولمة أمريكية ولا يحزنون، العكس هو الصحيح، رغم أن أمريكا في مركز القطب الواحد، فإن سياستها خرقاء وقادتها تفهاء.. وقعوا في مستنقع العراق، لم يقع معهم فيه إلا حليف واحد واختلف معهم باقي الشركاء.. وحلف الأطلنطي تمزق كما تمزق قبله حلف وارسو وانتهى خرقة خرقاء!!

حضور المرأة

– يكاد حضور المرأة في شعر الشارف الترهونى قليلا… فلماذا ، وأين هي ؟

– موجودة وبحضور متميز في (خمائل الصمت) في قصائد؛ البدوية، التراب، أحلام الراعي، الصمت، النغم الأخير، عيد الميلاد، مرور الكرام، الموج والسفين.. الخ.

عند مجلس تنمية الإبداع مجموعة غزلية كاملة ومن الغزليات أو الغزالات غزالات إنجليزية وباللغة الإنجليزية وإيطالية بلغة بلادها.

– الشعر ديوان العرب منذ القديم، ولكن الإعلام العربي يتجاهل الشعراء الجادين.. لماذا؟

– خلل إداري سببه عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب..!

– النخب العربية صورة للهشاشة والعجز العربي في أعلى تجلياته.. كيف يبدو لك ذلك؟

– يبدو لي ذلك واضحا..!!

– الحرية.. الوطن.. الكتابة.. المرأة.. الزمن الجميل.. النخلة.. الحرب.. السلام.. ماذا تعنى هذه المفردات للشاعر ؟

– تعنى قاموسه الجميل.

– يقول شاعر عربي: يا جماهير الأمة العربية… شكرا.. مزيدا من الصمت والصلوات.. ماذا تقول أنت؟!

– أقول: لا حياة لمن تنادي، أما الصلوات فهي ليست طريق الخرفين والخرفات.

– ما هو الجديد لديك.. هل هنالك مجموعات جديدة تحت الطبع مثلا ؟

– نعم.. هناك مجموعتان جديدتان لدى مجلس تنمية الإبداع، وهما كما ذكرت لك غزليتان، مثل (سر القصيدة) ومجموعة أخري، بالإضافة إلى ثلاث مجموعات لإعادة طبعها في طبعة ثانية.

* صحيفة العرب (أو لاين) 21/02/2005 05:44:01 م

مقالات ذات علاقة

آية الوشيش: شعرها أبن الرهافة المرهقة وقصتها تعكس وجه الحياة بوضوح !

حنان كابو

سالم العوكلي: ما عدّت أثق في الكلمة

محمد الأصفر

الناقد: أحمد الفيتوري/ إبراهيم الكوني يلخص العملية النقدية في ليبيا

المشرف العام

تعليق واحد

وصال الترهونى 27 فبراير, 2013 at 13:06

الله عليك ياعمى ربي يحفظك ويشفيك كم اشتاق الى كلامك الجميل ادعوله بالشفاء العاجل يارب

رد

اترك تعليق