حوار صدى المستقبل مع الشاعر والقاص جمعة الفاخري.
حوارات

صدى المستقبل وحوار مع: جمعة الفاخري الشاعر والقاص والناقد والرجل المسئول

أجرته: د. نادية الأزمي Nadia El Azami – طنجة.

عندما تواجه جمعة الفاخري سرعان ما يتسرَّب إليك شعور بحزن يملأ وجهه، وإذا نظرت في عينيه فإنك لن تجد إلا التحدِّي والإصرار على الحياة، يحمل في الوجه والعينين والقلب حكاية أجدابيا التي ولد فيها، وحكاية ليبيا التي ما زالت جرحًا نازفًا في قصائده وقصصه وفي يومياته التي يبثها هنا وهناك.. بين يدي الشاعر والقاص والناقد جمعة الفاخري ألقينا أسئلتنا ورحنا مع القراء ننتظر إجابة تطلُّ علينا في اللقاء التالي:

حوار صدى المستقبل مع الشاعر والقاص جمعة الفاخري.
حوار صدى المستقبل مع الشاعر والقاص جمعة الفاخري.

1 – أستاذ جمعة الفاخري: تطلّ أجدابيا وليبيا من قصائدك، وتشاغبان القارئ بحضورهما. ماذا تعنيان لك: الوطن؟ الهوية؟ نبع الشعر والموسيقى والإبداع؟ 

– وهلِ الوطنُ إلاَّ الهُوِيَّةُ ..؟ وهل ثمَّةَ ما يثيرُ فينا الإبداعَ سِواهُ ..!؟ فالوطنُ هو القيمةُ الأغلى في حياتي؛ الاسمُ الحركيُّ للوجودِ، التفسيرُ العقلانيُّ للعشقِ المباحِ، الوطنُ أنشودةٌ لا تهدأ، أغنيةٌ لا تخفت ولا تبهت، ولا تذبل .. مهما تنكَّرَت لنا أفعالُ مغتصبيهِ الطارئين، فإننا نتمسَّك فيه .. نتمسَّك به .. كيانًا وعنوانًا وإنسانًا .. تاريخًا وجغرافيا .. وجودًا وخلودًا .. هُوِيَّةً نفيسةً، ونهرَ إبداعٍ لا يتوقَّف، معجمَ جمالٍ لا يبيدُ، قاموسَ محبَّةٍ لا يضيقُ، فويلٌ لمن لا وطنَ لَهُ ! ويلٌ لمن يُضِيِّعُ وطنَهُ..!

الأوفياءُ والأنقياءُ والأصفياءُ هم يحملونَ أوطانهم في قلوبهم؛ لا في جوازات سفرٍ تنتهي صلاحيَّتها، تسقط وتبهت وتتلف، وتُلغى وتُرمى، أما الوطنُ فيبقى .. تنتهي صلاحيَّةُ خائنيهِ وخادعيهِ وخاذليهِ، ولا تنتهي صلاحيَّتُهُ السَّرمديَّةُ .. لا تنتهي صلاحيَّةُ أهليَّتِهِ للحُبِّ المقدَّسِ، وللوفاءِ الواجِبِ، وللتضحيَّةِ الشَّرَفِ، وللشَّهَادَةِ الِجنانِ. الوطنُ هُوِيَّةُ لا تُمنحُ، ولا تُهدى، الوطنُ هُدًى لا ضَلالَ بعدَهُ، وقربٌ لا بعدَ بعدَهُ . فإن كانَ الوطنُ يتوغَّل فينا .. يتغلغلُ في مسامِّنا، يسافرُ في دمنا، هل بقيَ مسوِّغٌ للسُّؤالِ عنِ الإبداعِ ..؟ إنه الوطنُ يا سيِّدتي، الوطنُ استوطنَ إبداعي الذي يبتدعُ جمالَ وطني، فأنا أبحث بإبداعي عن وجودي في وطني، وأبحثُ لوطني عن وجودٍ دائمٍ في إبداعيِّ.. كلاهما سيمنحُ للآخرِ وجَهَهُ، وعطرَهُ وسحرَهُ .. سيهبُهُ وجودَهُ وخلودَهُ، فتلمَّسِيني وجودًا في كليهما، واشكري ليبيا الوطنَ الجميلَ الذي يَهِبُني الإبداعَ، ويعدُني بالخلودِ .. سائِلِي قصيدتي العاشقَةَ ذائعَةَ الصِّيْتِ (هِيَ لِيبِيَا) تخبرْكِ عنِّي :
هِيَ لِيبِيَا؛ صَحْوِي وَنَشْوَةُ كَاسِي ** وَتَدَافُعُ النَّبَضَاتِ فِي أَنْفَاسِي

مَا فِي الْوُجُودِ كَسِحْرِهَا وَجَمَالِهَا ** مِنْ دِفْءِ أَصْبَاحٍ وَطِيبِ أَمَاسِي

فِي حُبِّهَا تَهْمِي الْمَشَاعِرُ عَذْبَةً ** عِطْرًا تَقَاطَرَ من شِفَاهِ الآسِ

وَعَلَى اِسْمِها تَبْنِي الْقَصِيدَةُ حُلْمَهَا ** دَلًا تَتِيهُ بِقَدِّهَا الْمَيَّاسِ

مِنْ وَجْهِهَا قَبَسَ الشُّعَاعُ بَرِيقَهُ ** من ضِحْكِهَا، يَا زَهْوَةَ الأَقْبَاسِ

وستوشوشُكِ بالبيتِ الأخيرِ من قصيدتي (وَطَنِي):

إِنِّي أُحِبُّكَ سَيِّدًا يَا مَوَطَنِي ** فَلَقَدْ خُلِقْتَ لِكَي تَكُونَ السَّيِّدَا

وسائِلي اجدابيا عنِّي يُجبْكِ قلبُها بلسَانِ قصيدتي (اجْدَابِيَا) :

تِلْكَ الَّتِي قَدْ أَوْجَعُوهَا مُهْجَتِي ** وَجِرَاحُهَا مَوصُولَةٌ بِجِرَاحِي

وَدُمُوعُهَا مِنْ نَبْعِ عَيْنِيَ إِنَّهَا ** تَبْكِي بِدَمْعِي، تُفْتَدَى بِنُوَاحِي

هَذِي مَحَارِيبِي، وَسَجْدَةُ خَافِقِي ** مَعْنَى تَشَاوِيقِي، وَنَشْوَةُ رَاحِي

هَذِي دَوَاوِينِي، وَصَبْوَةُ كِلْمَتِي ** وَمِدَادُ رُوحِي، وَانْطِلاقُ سَرَاحِي

هَذِي بَسَاتِينِي، وَحَقْلُ طُفُولَتِي ** وَمَلاعِبُ الأَمْسِ النَّقِيِّ الضَّاحِي

فِيهَا نَسَجْتُ قَصِيدَتِي وَعَشِقْتُهَا ** وَحَفِظْتُ قُرْآنًا عَلَى الأَلْوَاحِ

وَمَضَيْتُ أَنْشُرُ فِي الْمَدَائِنِ حَبَّهَا ** بِالشِّعْرِ أو بِاللَّحْنِ رِيقِ الرَّاحِ

فِي كُلِّ دَرْبٍ كُنْتُ أَزْرَعُ صَبْوَتِي ** وَبَذَرْتُ أَشْوَاقِي، وَصِدْتُ مِلاحِي

وَرَسَمْتُ صُورَتَهَا مَلاكًا سَاحِرًا ** عُصْفُورَةً تَغْدُو بِغَيْرِ جَنَاحِ

2 – عملت في كثير من المفاصل الثقافية الرسمية في ليبيا. هل تعتقد أن المؤسَّسات الرسميَّة العربيَّة تقوم بواجبها تجاه المبدعين؟

– بجوابٍ جدِّ مقتضبٍ منجزٍ ( لا )؛ فكثيرٌ من المؤسَّساتِ لا تعي دورَها،
فهي لا تقومُ بشيءٍ غيرِ طمسِ الإبداعِ، ووأدِ المبدعين.

3 – كتبت الشعر، وقدَّمت للمكتبة العربية كثيرًا من الدواوين، وحافظت فيها على جمال الموسيقى وكثافة الصورة وجمال اللغة. ماذا يعني الشعر بالنسبة لك؟

– أرى الشعرَ وجودًا حقيقيًّا، فضاءً مخمليًّا للجمالِ، براحًا ساحرًا للحلمِ والتَّجلِّي، عالمًا منَ الفرحِ المهرَّبِ، وكونًا منَ الدَّهشةِ النادرةِ، هل فاجأتِ صغيرًا بلعبةٍ ..؟ حبيبًا بهديَّةٍ ..؟ أمًّا باحتضانٍ ..؟ أبًا عزيزًا بقبلةٍ ..؟ ذلكَ – ضبطًا – ما تفعلُهُ القصيدةُ بنا .. هي كلُّ هذهِ الاندهاشاتِ معًا .. أنا لا أتصوَّر عالمًا بلا شعرٍ. . ولا حياةً بلا قصائدَ .. ولا وجودًا بلا موسيقَا وأغنياتٍ .. إننا بهذا نحكمُ على الكونِ بالخرابِ الشَّنيعِ، وعلينا قتلاً بالرَّتابةِ الفظيعةِ، بالصَّمتِ الثخينِ، بالسَّأمِ الأَبلهِ اللَّعِينِ .. قلبُ الحياةِ قصيدةٌ، وروحُ الوجودِ الشعرُ..

4 – أنتَ واحدٌ من أعلام القصة القصيرة جدًّا في الوطن العربي. هل تظن أن مستقبلًا مشرقًا ينتظر هذا النوع الأدبي؟

– القصَّةُ القصيرةُ جِدًّا تعيشُ الآنَ عصرَها الذهبيَّ المزدهرَ، الفضاءُ الإلكترونيُّ المباحُ هَيَّأَ لها أن ترى وجهَهَا جميلاً مشرقًا كما تراهُ، كما يتشَّهَاهُ مرتكبوها الأفذاذُ، ومقترفوها المقتدِرونَ، القصَّةُ القصيرةُ جِدًّا تزدهي بثقةٍ كبيرةٍ، سلي عنها دمشقَ وحلبَ والنَّاظور والإسكندريَّة وغيرها، والقادم – بإذن الله- أحلى وأطلى وأبهى.

5- ألاحظ أنك تميل إلى جعل عنوان القصة القصيرة جدًّا كلمة واحدة (اسم ـ مصدر)، ولا يمكن أن يكون ذلك محض صدفة. هل ثمة فلسفة تدعوك إلى ذلك؟

– أجل، وراء ذلكَ قصدٌ ؛ فالنكرةُ تفيدُ العمومَ، وتغري أكثرَ بإسقاطِ المتلقِّي في حبائلِها بدفعِهِ لتتبُّعِ أسرارِها، وكشفِ غموضِها. أما المعرفة فهي تتعرَّى مبكِّرًا لمراوديها، تبوح لهم بأسرارِها سريعًا .. وإن كانتِ القصَّةُ القصيرةُ جِدًّا تتغيَّا الاختزالَ والإيجازَ، إذن فلا أليقَ لعنوانِهَا من نكرةٍ دالَّةٍ، عصيَّةِ الفهمِ، تختزلُ تفاصيلَ نصٍّ مقتضبٍ هيَ جزءٌ منه، ولا تشي بخباياهُ.

6- أتظنُّ أن القصة القصيرة جدًّا لقيت ما تستحق من المرافقة النقدية التي تؤسِّس لنظريتها، أم أنَّها ما زالت تصنع لنفسها قوانينها بعيدًا عن النقاد؟

– ثمَّة وعيٌ كبيرٌ الآنَ على السَّاحةِ الأدبيَّةِ العربيَّةِ بأهميَّةِ هذا الفنِّ الإبداعيِّ الوليدِ، وقد صاحبَ هذا الوعيَ استنفارٌ نقديٌّ للقصَّةِ القصيرةِ جِدًّا، وقد قدَّم النقَّادُ والمؤصِّلونَ المعنيُّونَ بها عددًا وافرًا منَ الكتبِ المؤصِّلةِ لهذا الفنِّ، فضلاً عن كمٍّ كبيرٍ من الدِّراساتِ والأبحاثِ التي اهتمَّت بالقصَّةِ القصيرةِ جِدًّا، كما نظَّمت لأجلها مؤتمراتٌ وندواتٌ ومهرجاناتٌ كثيرةٌ في مدنٍ وبلدانٍ عربيَةٍ مختلفةٍ.

7 – هل تعتقد أن ثمة علاقةً بين انتعاش القصة القصيرة جدًّا، وشبكة الأنترنت، ثم أليس للنشر غير المضبوط من خطر عليها؟

– لا شكَّ أن الانترنت ساهمَ بشكلٍ كبيرٍ في الترويجِ لهذا الفنِّ الحداثيِّ، وأشهرَ كثيرًا من مبدعيه، ومن روائعه، وفي المقابل كانَ سببًا في الانفلاتِ المهولِ الموجودِ الآنَ نشرًا واستسهالاً، لكنَّ الجيِّدَ وحدَهُ سيبقى، أمَّا زبدُ السَّردِ الردئِ فسيذهبُ جُفاءً للنِّسيانِ والإهمالِ والتجاهلِ.

8 – يبدو أن عدوى القصر الشديد انتقلت من القص إلى الشعر، وأنتجت قصائد قصيرة جدًا. حدثنا عن تجربتك في هذا المجال؟ وهل تعد الهايكو نموذجًا من النماذج التي جاءت نتيجة للاختزال؟

– الهايكو موجودٌ قبلَ القصَّةِ القصيرةِ جِدًّا، هو منتجٌ يابانيٌّ شعريٌّ قديمٌ، ولعلَّ قصيدةَ البيتِ الواحدِ في شعرنا العربيِّ، هي الأسبقُ إلى الإيجازِ والاختزالِ ووحدةِ الموضوعِ، فقصيدةُ النثرِ تتقاطع مع الهايكو ومعَ القصَّةِ القصيرةِ جِدًّا، بينها جميعًا ثمَّةَ خيطٌ حريريٌّ شفيفٌ لا يُدْرِكُ وجودَهُ غيرُ ذوي الدراية والحنكة منَ المبدعين، وكثيرٌ من كتَّابِ هذهِ الفنونِ الثلاثةِ المتشابكةِ يسقطونَ في هوَّةِ الخلطِ بينها لتماهيها ببعضِها بعضًا. وأنا جئتُ للهايكو ( العربيِّ ) أي الذي أكتبه بروحِ شاعرٍ عربيٍّ، وأطوِّعُهُ ليلائمَ وجدانَ المتلقِّي العربيِّ، وطبيعَةِ تفكيرِهِ. وقد جئته من قصيدة النثر أوَّلاً، ثمَّ منَ القصَّةِ القصيرةِ جِدًّا، ولعلَّ ديواني المبكِّرِ ( حدثَ في مثلِ هذا القلب، 2004 ) يشي بهذه الهيوكةِ المبكِّرةِ.

9- لك تجربة واسعة في التعليم والتوجيه والإشراف. هل تجد أنّ تعليم الكتابة الإذاعية وارد؟ وهل كانت لك تجربة في هذا المجال؟

– نعم، وضروريَّةٌ جِدًّا حتَّى للمتخصِّصين والمؤهَّلينَ أكاديميًّا، فهذه الدورات نوعٌ من رفعِ الكفاءَةِ، والتَّنشيطِ المستمرِّ للمبدعِ الإذاعيِّ، وقد أعددْتُ ودرَّسْتُ في دوراتٍ تدريبيَّة لمذيعين ومذيعاتٍ بمدن البيضاء، اجدابيا، جالو، طرابلس

10 – شاركت في كثير من المؤتمرات الأدبية. ماذا تعني لك المؤتمرات، وماذا جنيت منها؟ 

– المؤتمراتُ الأدبيَّةُ فرصةٌ كبيرةٌ للتلاقي والتثاقف والتعارف، وقد شاركتُ في كثيرٍ منها، ولا شكَّ أنها قدَّمتِ لي الإضافة المرجوَّة، والمتعة العلميَّة المشتهاة.

11- قرأت لك شعرًا وقصة، ولكنني، للأسف، لم أطلع على تجربتك النقدية.. هل يمكن أن تعطيني وتعطي القارئ فكرة عنها؟

– أنا لا أُكَرِّسُ نفسي ناقدًا، وما أكتبه من قراءاتٍ انطباعيَّةٍ عجلى لا يعدُّ نقدًا بالمعنى العلميِّ، وإنما هي قراءاتٌ انطباعيَّةٌ، وما يمكن تسميته بـ ( قراءةٌ عاشقةٌ ) وكلُّ ما كتبته في هذا الصَّدِ هو محضُ احتفاءٍ بأعمالٍ إبداعيَّةٍ استفزَّتني إيجابًا، وناوشت ذائقتي، أو هو بطلب من بعض المطبوعاتِ التي تستكتب بعض الأقلامِ في موضوعاتٍ محدَّدةٍ،وقد أكتب مثل هذه القراءات العاشقة تشجيعًا لأقلامٍ شابَّةٍ تنشر للمرَّةِ الأولى .. هذا كلُّ ما في الأمر.

أستاذ جمعة الفاخري.. شكرًا جزيلًا لك.

حوار صدى المستقبل مع الشاعر والقاص جمعة الفاخري.
حوار صدى المستقبل مع الشاعر والقاص جمعة الفاخري.

مقالات ذات علاقة

الروائي الليبي يوسف إبراهيم: الأدب يفضح ما نحاول إخفاءه

خلود الفلاح

أمينة هدريز: النقد في ليبيا منعزل عن المشهد الثقافي

خلود الفلاح

يوسف الحبوش لـ«بوابة الوسط»: «عمر المختار» يصحح المغالطات التاريخية

المشرف العام

اترك تعليق