الأدِيبُ والْكَاتِبُ عَبْدُ الرّحْمَن جَمَاعَة:
عِنْدَمَا أسّسْتُ مُنْتدَى الْمُنَاضِل بَشِير السّعْدَاوِيّ كَانَ حُلُمِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلّ شَارِعٍ مُنْتدًى ثَقَافِيّ
كباقة زهر بري ينثر عبد الرحمن جماعة الكاتب والقاص مقالاته حولنا فتصيب إحداها العين وتقع الأخرى في القلب وتستقر الثالثة على جرح عميق يسمى وطنا وتستفز الرابعة الفكر فتستحوذ على بنات العقل ، نغفو فيستدرجنا لضفاف المستحيل ليميط عنه غول الرهبة والتردد فيكتب مقال الحلم و ( اكتب يا ولدي ! ) و ( سيارتك كم ماشية ؟ ) كان هذا جزءا من قراءة أعدت عن مقالات الكاتب والأديب والصحفي والفيلسوف عبد الرحمن جماعة ، فتحنا حينا حاورناه كل الأبواب الموصدة ، وقلبنا معظم الصفحات المطوية من ذاكرة الوطن والزمن والأدب ، ورغم العتمة إلا أنه أبى إلا أن ينير بمطلق الأمل أحاديثنا.
عبد الرحمن جماعة الكاتب المحترف في محارب ذاته من أنت ؟
هل تعلمي أن هذا أصعب سؤال يمكن طرحه في حقيقة الأمر لماذا ؟
لأن إشكالية الأمة بأسرها متمثلة في تحديد من أنتم ، كل هذه الإشكاليات التي نسبح وسطها الوطن العربي بالكامل ليبيا ، الشعوب المتخلفة ، ترتكز على نقطة أساسية وهي أننا لم نحدد إجابة السؤال من أنتم ، حتى سؤال معمر القذافي كان سؤالا وجيها بغض النظر عن النوايا التي لا نعلم بها ، لكن هذا السؤال هو الذي يجب أن نبحث له عن إجابة وأن نحدد من أنا مثلا؟ الطبيب حدد مهنته وموقفه من الناس ومواعيده وحياته لكن تبقى إشكالية أمة بحالها تدور في فلك سؤال وحيد من نحن وإذا أجبنا عن هذه السؤال فإننا سنكون حددنا كل شيء .
وأضاف : أما فيما يخصني أنا فأنا إنسان تائه هذا ما يمكنني الإجابة به فلا إجابة مناسبة غير ذلك.
هذه إجابة فلسفية وكنت أدرك أنك ستجيب بها؟
أجاب جماعة : ليست فلسفة بقدر ما هي حقيقية ، حقيقة أن الإنسان أصل في هذا الخضم غير المحدد سيكون الأمر صعبا للغاية ، على سبيل المثال حتى الالتزام بالمواعيد بدقة ، وتحديد أوقات للعمل ستجد فيها صعوبة ، ففي أي لحظة توقع أن يأتيك ضيف بلا موعد فيقلب كل تراتيب موازينك وخططك ، وهذه طبيعة حياتنا وبيئتنا ، وقد تصادفك مشكلة في غير محلها فتضطر إلى تغيير خطتك بالكامل ، والسبب أن البيئة من حولك لم تحدد ملامحها وأنا فرد في هذه البيئة ، وقشة في هذا التيار ، ومن الطبيعي جدا أن لا أحدد ملامحي . وأعود للبحث عن إجابة ، فأنا أريد نفسي سياسيا ولم أجد نفسي في السياسة وأود أن أكون كاتبا وأديبا فلم أجد نفسي في هذا المجال ، ولم أجد حتى اللحظة ما أبحث عنه لذلك أنا شخص تائه بالمختصر المفيد وبكل معنى الكلمة.
ألا تتفق معي في أنك لو وجدت ذاتك لانتهى كل شيء ؟
نعم أتفق معك تماما إن وجدت ذاتي انتهى كل شيء ووجد الإنسان منا ضالته ، تحديد هذه الإجابة يعني بداية الطريق ونهاية كل التساؤلات سيتم تحديد وظيفتك وهدفك ولا يمكن للإنسان أن يسير بلا هدف ، وحتى في نفس المهنة تختلف الأهداف من شخص لآخر .
ويضيف عبد الرحمن ، أنا إنسان سجنت 11 سنة وكان سجني بلا محكمة بلا معرفة للأسباب ، لم أعرف ماهو ذنبي ماهي جريمتي ، وقد أتفق مع سجاني ، في كوني أستحق هذا العقاب ، وبعد 11 سنة يقول لك تم الإفراج عنك ، بلا اعتذار ، سجن بلا محكمة ، بلا أسباب ، بلا قاض ، بدون محام ، لا أنت ولا أهلك تعرفون أسباب سجنك ، وحرمانك من حريتك . وبمرار يستطرد عبد الرحمن : بعد خروجك تجد أن والدك قد فارق الحياة ، وأن أمك فاقدة للبصر ، وإخوتك الصغار صاروا كبارا ، وعندما يأتون لتحيتك تسألهم من أنتم؟ !
كانت مرحلة سجني في فترة العشرينات من عمري ، الفترة المثمرة في حياة أي شاب فترة الإنجازات والعمل قضيت كل هذه السنوات من عمري بين جدران الاعتقال من 21 سنة إلى 32 سنة هذه أخصب وأنسب وأجمل فترة في العمر فترة الشباب والتدفق والعطاء وهي مرحلة البناء والعطاء كما تعرفون .
هل تأتيك القصائد والكتابات فجأة كما الضيوف في هذا البلد ؟
الأفكار هي من تأتي على حين غفلة وبلا موعد سابق لتختمر في الفكرة ، تستبيح كل الأوقات وكل الأماكن في العمل والطرقات ، من مواقف عابرة قد لا تعني شيئا للآخرين ، أذكر أن حبلا مقطوعا يتدلى لا أدري ما الشيء الذي ربط فيه كان محورا لإحدى قصصي ، لقصة آنسنه ،وهي من قصصي الضائعة التي لم أجدها حتى الآن ، الكاتب في أحيان كثيرة لا يتقيد بالأحداث الكبيرة كما يعتقد البعض ، لكن ما تؤدي إليه الكتابة يجب أن يكون حدثا عظيما ، الكتابة يفترض أن تؤدي إلى معان، يفترض أن تغير شيئا يفترض أن تكون موجهة إلى كل الناس ، ويجب أن يقرأها الكل وهذا ما أحاول فعله ولا أدعي أنني وصلت إلى هذه المرحلة لكن أسعى للوصول إلى كل قارئي ، وأن تكون كتاباتي متعددة المستويات ، وهذا ما أحلم به ، أن يقرأ كتاباتي المثقف الكبير والإنسان البسيط وأن يجد كل منهما بغيته فيها .
متى استهوتك الأحرف وكيف وجدت المحبرة والقلم ؟
لا يمكن أن يحدد الكاتب بداية معينة ، الكتابة كاللغة يصعب علينا تحديد أول كلمة نطقنا بها متى وأين وكيف وربما حصة التعبير في الفصل إحدى مراحل الكتابة لكل إنسان ولكن لنتجاوز كل ذلك ، فأنا أعتبر بدايتي الفعلية كانت في السجن ، وكنت أكتب مقالات ذات صبغة دينية باعتبار أن الوسط أغلبيته دينية ، وبدأت حتى في كتابة القصة وكان هناك من يقرأ لي وكانت الإمكانيات جدا محدودة ، كنا نكتب على ورقة وتوزع على الجميع لقراءتها، ورقة واحدة فقط .. ونوه : حتى الأوراق لم تكن موجودة ، كنا نكتب على أوراق الصابون ، هناك بين القضبان اكتشفت أنني سأكتب يوماً ، وكان ذلك نتيجة تشجيع رفاق السجن وثنائهم على ما أكتب ، هذا التشجيع هو ما زرع في نفسي شجاعة أن أطرق باب الكتابة .
هل كانت تجربة السجن مظلمة بالمطلق أم أنها وعلى قسوتها فتحت آفاقا مضيئة أمامك ؟
لا شك أن لكل مصيبة وجه آخر مفرح في كل جوانب الحياة نجد هذه القاعدة حتى عندما تفقد إنسانا عزيز عليك ، قد يكون لهذا الفقد وجه آخر جميلا ، مثل قصة من طرد من عمله فأنجز مشروعا فغدا من أكبر رجال الأعمال ، نعم هناك في تجربة السجن وجه حسن ولا يمكن أن تقول إنه حسن بمعنى الحسن لأن السجن كل ما فيه سيء ، ولا يمكن أن يكون حسنا ، لكن الوجه الحسن بالنسبة لي هو التفرغ للقراءة ، وقرأت كل ما دخل للسجن ، وكان أغلب ما قرأت في الجانب الديني وليس انتقادا للجانب الديني لكنني أنصح بتنوع القراءة في كل الجوانب .
وأضاف : كانت تدخل أيضا روايات أذكر أنني قرأت روايات عالمية مثل البؤساء ، قرأت للمنفلوطي ، قرأت للعقاد ولكثيرين ، بالإضافة إلى دراسة اللغة في السجن، كان بعض الرفاق لديهم لغات إيطالية وإنجليزية وألمانية ممن كانوا في المهجر ، فكان من لديه لغة يقوم بتعليم الآخرين تلك اللغة ، فدرست اللغة الإنجليزية ، وخصصت جزءا من وقتي لقراءتها ، فالقراءة كانت متنوعة ، وكانت تهرب للسجن أعداد كبيرة من المجلات لأن أي مطبوعة كانت ممنوعة ، كانت تأتينا مجلة العرب وأعداد من مجلة لا ، كانت تأتينا في السجن بعد إصدارها بعشر سنوات ، فنقرؤها وكأنها صدرت اليوم ، لأننا في عزلة تامة عن العالم ، أي شيء كان مصدر اهتمام بالنسبة لنا حتى الأشياء القديمة ، عن حرب لبنان مثلا التي مر عليها 15 سنة قرأناها وكأنها اللحظة ، كنا نقرأ البحوث والمقالات المتعددة ، لذلك كانت القراءة متنوعة إلى حد كبير لكن الجانب الديني كان الطاغي ، فقرأنا الفقه والعقيدة ، والسير ، بالإضافة إلى كتب التاريخ .
في فوضى الكتابة الحالية أين يجد الكاتب الحقيقي نفسه هل تراه منسجما أم هو تائه أم أن هذا المناخ يناسبه ؟
الكاتب لا ينتظر وضعا طبيعيا لكي يكتب ، وهذه هي الحقيقة ، بعض الكتاب يقولون لك إن هذا الجو ليس جو كتابة ، والظروف لا تسمح بالكتابة ، وكأنه لا ينام ولا يأكل ولا يشرب ، الكتابة فعل من أفعال الحياة ، مثل أي فعل آخر ، لا يتوقف على أحداث ، لا يتوقف على محن ، ولست مقتنعا أن الكتابة تنبع من المعاناة كما يحاول البعض تسويق ذلك ، الكتابة هي فعل في الحياة ، وهي إحدى طقوس الحياة .
لماذا أنت متوقف عن ممارسة هذا الفعل هذه الأيام إذن ؟ لست متوقفا بشكل نهائي ، أو بسبب الظروف ، لكن الحياة مثل الرسم البياني ، وأي شخص تجد طاقته تزيد وتنقص ، حسب الظروف النفسية ، وحسب ظروف عمله ولكن ليس بسبب الظرف الراهن وأستطيع أن أقول إن معظم كتاباتي أنجزتها منذ العام 2011 فما فوق يعني في ظروف التوتر العام للوطن ، أي أن توقفي ليس بسبب الظروف إنما هو بسبب ظرف شخصي وسرعان ما سيمضي وأعود مجددا .
أنت قاص وشاعر وكاتب مقال قصصي وفلسفي لكن أين أنت بالضبط ؟
أنا أكثر الناس كرها وكفرا بالتصنيفات في الكتابة ، لأنه من الصعب على الكاتب تصنيف نفسه ، وأنا رغم كل هذه الألوان أرتاح في المقالة ، لأنها ذات براح واسع ، أما القصة فإنها في كثير الأحيان تتقيد بشروط معينة ، ومعايير دقيقة جدا ، ومع ذلك أكتب القصة ولا أقيم نفسي لكني ولحد ما وفقت في كتاباتها .
ألا تفكر في إهدائنا إصدارا لك ؟
هذا السؤال كان السبب في كتابة مقال بعنوان ” مواقع الحروف ” يؤسفني أنني أحيانا أشتري كتابا ، وأقرؤه ثم لا أجد فيه شيئا ، لدي هاجس بأن القارئ سوف يلعنني مع نهاية آخر صفحة ، وهذا الهاجس يخيفني جدا ، لأن القارئ عندما يدفع ثمن كتاب ، لابد أنه يرجو ويبتغي أن يتحصل على فائدة من هذا الكتاب ، فما هي الفائدة التي سأقدمها للقارئ؟ على أقل تقدير فيما يخص الأدب يكون الحصول على متعة المطالعة ، وأن يجد نفسه بعد القراءة قد أمضى وقتا جميلا ، تماما كلحظة مشاهدته فيلم سينمائي أو مسلسل درامي ، أو أن يقرأ قصة أو نصا أدبيا جميلا ، لكن هل أنا قادر على توفير ذلك للقارئ ؟
أم أنني سأجد السخط واللعن من القارئ ، هذا الهاجس يخيفني جدا جدا ، بدرجة كبيرة جدا وصلت لحد أن التفكير في إصدار كتاب بالنسبة لي مرعب للغاية ، ولعل الذي يطلع على مقالة مواقع الحروف سوف يعرف ذلك ، هذا بالإضافة إلى أن لدي نصوصا كتبت منذ عشر أو خمس سنوات أستحي أن يطلع عليها الناس ، مع أنها نشرت في أويا وقورينا ، وصحيفة الجماهيرية والصحف المحلية في سبها مثل صحيفة الشرارة ، وصحيفة وادي الشاطئ ،لكن أتمنى أن لا تخرج للقارئ ولو خرجت أتمنى أن أتبرأ منها . وأكد : النص حسب تصوري مثل المولود الجديد الذي يصبح بعد زمن ابنا عاقا ، تفرح به في البداية وتحتفي بحضوره ، وتشعر أن الدنيا لا تسعك به ، وبعد أن يتحول لابن عاق تتمنى لو أنك لم تنجبه فدائما ما أشعر أن نصوصي هي أبنائي العاقين .
هذا الحديث يجرنا لسؤالك هل تفكر في خوض تجربة النقد ؟
ربما لو درسته فيما سبق ، فالنقد العلمي والشخص الذي يمتلك أدوات النقد يمكن أن يقوم بالنقد لكنني لا أمتلك أدوات النقد وليس بالضرورة أن يكون كل شاعر ناقدا للشعر وكل كاتب ناقدا لما يكتب ، أو كل روائي ناقدا للرواية … الخ لأن للنقد أدواته ومجاله ، فحكم المباراة لا يمكن أن يكون لاعبا ، وهذا المثال يتضح جلياً في مسألة الكتابة ،فكثير الكتاب يظنون أنهم نقاد والحقيقة هي أنه لا يوجد ناقد أدبي في ليبيا على الإطلاق ، وكل ما يكتب هو نقد انطباعي ناتج عن ذوق الكاتب أما كنقد مبني على أسس علمية فلا يوجد لدينا .
إذن كيف ترى الكاتب الليبي من وجهة نظرك الشخصية ؟ الكاتب الليبي مظلوم ، ففي ليبيا لدينا عدد كبير من الكتاب ،لكن لدينا إشكالية المؤسسات والمنتديات التي تحتوي الكتاب وتأخذ بأيدهم، لا يمكن أن تكون كاتبا في بيئة لا تعترف بالكتابة أصلا يجب أن تكون هناك منابر تهتم بالكتاب وتحتفي بهم ، يجب أن تكون هناك مجلات بها هامش كبير من الحرية لينشر الكاتب إبداعه بها بالإضافة إلى الجوائز التشجيعية للكتاب والمبدعين لكي يحدث تنافس في الكتابة ، وجهات تتولى سفرياتهم ورحلاتهم ودور نشر تهتم بهم وتطبع ما يكتبون الآن الكاتب يستجدي مائة دار نشر لتنشر له .
قلت إن الكاتب الليبي مظلوم هل توافقني أن ذلك لا ينفي وجوده ؟
نعم لدينا كتاب كثر ، بل لدينا كتاب من أفضل الكتاب في الوطن العربي ، خاصة في أوساط الشباب ، فمن خلال تجربة منتدى السعداوي الذي أسسته اكتشفت عجائب ما يمكن أن يخطه القلم وينسجه الفكر المبدع ، فبعض الشباب يكتبون ما قد يعجز عنه الكتاب الكبار الذين يدعون أنهم كتاب كبار ، لكن الإشكالية في ليبيا أن الكاتب مظلوم فلا توجد مؤسسة تتكفل بالكاتب وتبرزه لا توجد إحصائيات دقيقة للكتاب ، ولو لم تكن بالوسط الثقافي ستقول إن ليبيا لا يوجد بها كتاب أصلا ، لكن لأنني قريب من الوسط فأنا أعرف الكتاب ، وأن منهم من لديه قدرات عالية جدا ، لكن ليس هناك من هو مهتم بهم ، حتى أن الكتاب يذهبون لتونس ولمصر ولغيرها من الدول للنشر بمصاريفهم الخاصة وأحيانا لا يكون هناك مكسب مادي من الكتابة ، بينما الكتابة في الدول الأخرى لها مكسب مادي ، والكتاب على كثرتهم في ليبيا إلا أنهم شتات ، وكما تعلمون فإن التنافس الحقيقي يحدث عندما تكون هناك مؤسسات وعندما يكون للكاتب منبر
الكاتب الجنوبي أين هو مما ذكرت ؟
الكاتب في المجمل ليس سوبرمان لكي يواجه هذا الوضع المتردي ويدخل أحيانا في نزاعات قبلية ويخسر أناسا ، الكاتب ليس كبش فداء ، صحيح مطلوب من الكاتب التوضيح ولكن ليس لدرجة دخول المحرقة ليثبت أنه كاتب فالناس قدرات ، والكتابة لا يمكن أن يكون لها سلطة في بيئة تنفر من القراءة ، علينا الحديث عن إشكالية القارئ قبل الكاتب ، لا يوجد من يقرأ من يشتري جريدة ، دائما الناس يبحثون عن الأخبار السريعة ، حتى وإن كانت كاذبة ، لا أحد يريد البحث والتحري ، أو يقرأ الكتاب من الجلدة للجلدة ، فإشكالية الكاتب هي إشكالية القارئ فلا يمكن أن يكون هناك شاعر في بيئة لا تستسيغ الشعر ولا يمكن وجود عازف في بيئة لا تتقبل الموسيقى ، وجود كتاب في الجنوب دليل على كفاحهم في بيئة ضحلة ومشكلة الجنوب هي مشكلة ليبيا كلها لكن الأمر يختلف في العاصمة عن الجنوب .
ويضيف عبد الرحمن وجود نقد يشجع الكتاب على الإنتاج الأدبي فعندما يقول ناقد محترف عن نص إنه سيء يشجع الأمر الكاتب لكتابة نص مختلف وجيد .
لا يوجد قارئ إذن ما هو الحل ؟
الدول هي من تتبنى مثل هذه الحلول ، لكن هذا لا يعني أن ننتظر الدول بل علينا تبني فكرة المنتديات وأن يكون في كل منطقة منتدى ، يجمع المثقفين ، ويتبنى المواهب الجديدة ويرحب بكبار الكتاب ويحفظ لكل من فيه مقامه ، الآن في كل شارع محل للمواد الغذائية لماذا لا يكون في كل حي ناد ثقافي؟ الأمر لا يحتاج لميزانيات ضخمة من خلال تجربتي في منتدى بشير السعداوي الثقافي .
ماذا عن تجربتك في الصحافة ؟
الحقيقة لا يمكنني أن أسميها تجربة فحينها كان مجبرا أخاك لا بطل ، وجدت نفسي في موقف يستوجب علي إصدار صحيفة فأصدرنا صحيفة سبها الحرة مع انطلاقة ثورة 17 فبراير ، كانت تجربة استمرت لأكثر من عشرة أشهر ، لكنها ليست تجربة تؤهل الشخص للادعاء بأنه صحفي ، وكانت تجربة ممتعة جعلتني أكتشف أشياء في الصحافة لم أكن أعرفها معاناة ، أستغرب كيف يتحملها الصحفي ولسنوات طويلة ، أستغرب كيف يتحمل الصحفي تجربة البحث عن الخبر ، كانت حتى الصورة تمثل إشكالية كبيرة ، طبعا لا أتحدث عن الجانب الأمني ، إنما حتى ثقافة الناس وتقبلهم للأمر ، البعض كان يسألني لماذا تلتقط الصور هنا ، مصادر الخبر أيضا كانت شحيحة ، على صعوبة الأمر كان العمل الصحفي ممتعا رغم المعاناة والتعب، كان يخالجني شعور أنني قدمت شيئا ما مميز جدا .
طبعنا صحيفة سبها الحرة التي خرجت في فترة الثورة كان معي الزميل محمد الأطرش ، وشباب آخرون ، كنا نطبع في العدد 500 نسخة وكان يوزع منها بالآلاف لأنها كانت تصور وترسل لمختلف المدن ، انتشرت انتشارا رهيبا جدا وكان لها تأثير لم نتوقعه أبدا ، كانت هذه هي تجربتي الوحيدة مع العمل الصحفي .
هل تفكر في تكرار التجربة ؟
الحقيقة لا أفكر في تكرارها لأنني لا أمتلك خبرة الصحفيين الكافية ، أعتقد أن هذا المجال ليس لي ، يمكن أن أتعاون مع الصحفيين ، والحقيقة كنت أتمنى لو أنني خضت هذا المجال في وقت مبكر لكن الآن يصعب علي ذلك ، لكن الكاتب بطبيعة الحال في تقاطع مع الصحافة .
لك تجربة جميلة في تأسيس منتدى بشير السعداوي الثقافي فأنت المؤسس وصاحب الفكرة كما نعلم جميعاً حدثنا عن هذه التجربة؟
بالنسبة لمنتدى بشير السعداوي لم تكن التجربة الأولى ، لأنني قبله خرجت من منتدى ، وهو منتدى اليونسكو في سبها ، التحقت بمجموعة الأربعاء في مكتبة اليونسكو بسبها في الأمسية الأربعين وتركتهم في الأمسية المائة وذهبنا في رحلات ثقافية لمنطقة سمنو والشاطئ بالجنوب الليبي ، وما عشته في مجموعة الأربعاء الثقافية ، مع كتاب لهم وزن في الكتابة وباع طويل مثل أستاذنا الكبير حمادي المدربي ، إبراهيم بشير زايد ، علي الهاشمي الزين ، الشاعر أحمد قرين ، المهدي جاتو ، محمد الصغير العباسي كثير من الأدباء والكتاب التقيت بهم ، واستفدت منهم استفادة كبيرة جدا وكنا نلتقي وننتقد في جو أخوي ، أبدا لم يكن هناك حرج في النقد بل كانت فكرة المنتدى قائمة على النقد ، بمعنى أن يقرأ أحدنا نصا ، ويعطي الحاضرين رؤيته في النص ليس بمعنى التعديل أو الشطب أو الإلغاء بل بمعنى أن يثني على الجوانب المضيئة في النص ، هذه التجربة كانت أسرية ، وبمجرد وصولي لطرابلس وحصولي على بعض الإمكانيات فكرت في إنشاء منتدى ثقافي .
في إنشاء منتدى ثقافي وتحصلت على داعمين وجمعت بعض الشباب في البداية واجهتني بعض العراقيل ، وكان هناك تشكيك من بعض الناس لأنني استعرت مكانا لحزب ، مع أن المكان ليس له علاقة بالعمل الحزبي ولا حتى المنتدى في حد ذاته لأنه ثقافي بحث ، لكن بعد حضور المشككين للأمسيات الثقافية واستمروا في التردد على المنتدى اكتشفوا الحقيقة وهي أنه ليس للمنتدى علاقة بالعمل السياسي . وببهجة أشار عبد الرحمن جماعة نجحت تجربة منتدى بشير السعداوي بشكل لم أتوقعه مطلقا ، مع أنني أطمح لنجاح من نوع آخر وهو ما كنت آمل تحقيقه وهو أن تقلد هذه الفكرة في كل الأحياء والمناطق والمدن ، أن تصيب عدوى المنتديات الثقافية جميع الأركان بلا استثناء في هذا البلد . مثل ما قلدت أنا فكرة منتدى الأربعاء عند تأسيسي لمنتدى السعداوي .
وأردف : نجح منتدى المناضل بشير السعدواي نجاحا باهرا وكبيرا فاق عديد المنتديات التي سبقتنا وهذا ليس ادعاء بل حقيقة ملموسة لكن حلمي كان أن تقلد الفكرة حتى بدون علمي ودرايتي لم أكن أحلم أن يذكر احدهم أنني مؤسس المنتدى فكما تعلمون الفكرة ليست ملكا لأحد ثم أنا لم أبتكرها بل قلدت غيري . والحقيقة سيظل الحلم أن أرى منتدى في تاجوراء وآخر في ترهونة
وأكد : من خلال تجربتي اكتشفت أن المنتدى لا يحتاج لإمكانيات مادية وهنا أتذكر أننا في أمسية الأربعاء وطيلة 100 أمسية ثقافية لم ننفق دينارا واحدا ! الناس تحتاج لمكان فقط لتلتقي فيه لم نكلف أحدا حتى قطرة ماء ولم ننفق درهما على الأمسيات ، فلا حقيقة للعراقيل المادية الموضوعة من قبل أحدهم وخاصة المادية . وحاليا ما أكثر المراكز الثقافية التي يعتليها الغبار والإهمال ، أو استعارة أي صالة اجتماعات من أي مؤسسة لعقد أمسية أو أصبوحة ثقافية ليوم في الأسبوع ولن يرفض أحد ذلك ، الآن كل شيء مجاني والثمار ستكون كبيرة جدا .
هل تعتقد أن هذا الوقت وهذه الحقبة من عمر ليبيا هي مرحلة إنتاج ثقافي أم أن حال الثقافة لا يختلف عن السياسة وغيرها من الأوضاع البائسة للوطن ؟
يقال ما لا يؤخذ كله لا يترك جله الكاتب في النهاية إنسان لا يستطيع أن يقول كل شيء ، مثل ما قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود المجنون فقط من يقول كل سيء وهذا لا يعني أن هذا الوقت ليس وقت كتابة بل وقت كتابة ، ووقت انتقاد للأخطاء ، وهذا لا يعني أن يكون العمل كاملا 100 % لأنه يوجد عمل كامل إنما على الإنسان أن يتحرك بالمتاح ففي الجنوب مثلا انتقاد قبيلة معينة أو منطقة معينة قد يسبب لك حساسية مع أحدهم وقد تزيد المشكلة بدل حلها والإحجام عن بعض الجوانب لا يعني الصمت المطلق .
في نهاية المطاف ماذا ستقو لقراء فسانيا ؟
الحقيقة لدي كلام كثير ، لكن أود أن أقول كلمة وأتمنى أن تصل لكل ليبي هي أن ليبا بلد خير وأن كثيرين يشككون في قدرتنا ، لكن الحروب والإشكاليات مرت بها كل الشعوب ، ولكن أنا أتحدى أي شخص أن يعيش في ظروف مرت بها ليبيا من غياب للدولة وللقانون ومع ذلك الظروف الأمنية ليست بالسوء الذي يقارن بغيرها ونحن في زمن حرب نحن لسنا في وضع طبيعي ، لكن تخيل أن يكون هذا الوضع في إحدى الدول المجاورة ، بالتأكيد لن تستطيع حتى الخروج من بيتك بل لا تستطيع حتى الإقامة في بيتك ، ليبيا بلد معطاءة وهذه الأزمة ستمر وستنهض ليبيا من كبوتها وستكون أفضل من السابق ولا داعي للإحباط والتشكيك والتذمر نحن لم نعش ما عاشه الشعب الأمريكي في حربه ال7اهلية ورواندا البوسنة والهرسك وكان عدد القتلى بالملايين لازال في ليبيا جانب اجتماعي يربط الناس وهذا ما أريد توجيهه للصحفيين والكتاب والأدباء والجميع .