جمال الزائدي
الأولويات في التفكير والانهمام يحددهما الواقع على الارض ..
المنطق يقول ذلك والفطرة السليمة كذلك..
المثقف في انشغالاته يعكس قضايا مجتمعه وهمومه وأسئلته حول الحاضر والمستقبل ..وعدم الالتزام وظيفيا بقوانين هذه العلاقة بين المجتمع والمثقف يضع الاخير خارج دائرة الفاعلية والتأثير بل وخارج نطاق المعقولية والمنطق ، لافرق في ذلك بين المثقف التقليدي أو المثقف العضوي الذي تحدث عنه المفكر الايطالي “أنطونيو غرامشي” في دفاتر السجن وكتابات أخرى..
لايستطيع المثقف أن يكون في قلب اللحظة التاريخية الراهنة ، ليمارس فعل التجاوز بالنقد والتحليل واقتراح الحلول لإشكاليات الواقع دون أن ينطلق من هذا الواقع نفسه وينغمس كلية في تفاصيله وتناقضاته ..
بمباشرة ووضوح أكثر :- ماالذي يستفيده المثقف في الصومال وشعب الصومال من الانشغال والاشتغال على أسئلة “مابعد” الحداثة في الثقافة والفكر الغربي المعاصر مثلا ..بينما الراهن الصومالي يتخبط في أسئلة “ماقبل” الحداثة ويكاد يغرق في مستنقع التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يستولد بوتيرة لاتنقطع مآس وكوارث إنسانية تبدأ من إنتشار الاوبئة والامراض والمجاعات ولاتنتهي بالمذابح القبلية والحروب الاهلية المستمرة منذ مايقرب من ثلاثة عقود..
القياس نفسه ينسحب على المثقف الليبي ومجتمعه وكل مثقف وكل مجتمع على الاطلاق ..بيد أن الأمر – محليا – أكثر إلحاحا لأن المشهد الوطني يغص بالمفارقات على أكثر من صعيد..دولة وكيان مهددان بالانقراض تحت ضغط سنوات من الفوضى غير الخلاقة والتآمر الاقليمي والدولي..نسيج اجتماعي ممزق بين الولاءات القبلية والعرقية البدائية والحزازات التاريخية الطبيعية والمصطنعة ..منظومة قيمية تتراجع انسانيا واخلاقيا حتى توشك على العودة بالجميع إلى عصور الغابة..إنتشار بسرعة المتوالية الهندسية في مساحات الفقر والبؤس المعيشي يكاد يجهز نهائيا على وجود الطبقات الوسطى التي كانت تشكل نسبة عالية من مجموع الليبيين ..إرتفاع مرعب في منسوب التوحش والجريمة التي لم يسلم من دمويتها الشيوخ والنساء والاطفال ولعل مأساة أطفال الشرشاري الاسابيع الماضية لن تكون الاخيرة ..كل هذه الملامح المغرقة في السوداوية والتشاؤم تسد الأفق أمام عقل وخيال رجل الشارع الليبي وتجعل منه لقمة سائغة في أفواه المليشيات الاعلامية التي تحتل الفضاء والهواء بقنوات واذاعات مسموعة وصحف ممولة بالاموال المنهوبة من خزانة الشعب لخدمة أجندات ومشاريع لاعلاقة لها بالقضايا والهوية الوطنية والمشتركات العليا للمجتمع الليبي ..
بإختصار نحن أمام إمتحان تاريخي صعب ، التهاون في التعامل معه بكامل الانتباه والجدية على المستوى الثقافي خصوصا ، قد يفضي بنا إلى الضياع والسقوط من ذاكرة الوجود .. وفي مقابل كل ذلك ماتزال الصفوة من مثقفينا سادرة في سماء نرجسيتها وتهويماتها النخبوية المريضة وتتأفف من الخوض في وحل اليومي المعاش الذي يحيطها من كل جانب ..
المثقف موقف وليس رتبة عسكرية في جيش محترف ..والمثقف حضور وفاعلية وتفاعل وانفعال وليس حالة جمالية ” استاتيكية” يستغرق الاخرون في تأمل تميزها وسحرها ..وإذا كانت كمية المعارف والمعلومات هي المعيار الاساسي للثقافة فليس هناك مثقف أكبر من” الجوجل”..على أن الثقافة في ظني ليست أن تعرف بل ماذا تفعل بما تعرف وكيف ينعكس فعلك هذا في محيطك ومجتمعك وعالمك ..
وياصديقي المثقف – أكنت كبيرا كالجوجل أم صغيرا كحلم شعبنا في الامان ولقمة العيش – من يسقط مرة قد يدمن السقوط فيصبح له عادة وعندها يصير وبائعة المتعة الحرام سواء..
ليس بوسعنا إستنكار أو تحريم إهتمام مثقفينا وكتابنا بمواضيع وقضايا فكرية وأدبية تبدو مترفة وغير ذات جدوى قياسا بالقضايا المصيرية الضاغطة التي تحيط بوجودنا كمجتمع ودولة ووطن .. وكل ما أدعوا إليه ترتيب الأولوية بين المهم والأهم وتأجيل الاهتمام بقضايا ذات طابع جدلي في مقابل الانغماس في مشاغل حيوية مفصلية تمس العصب اليومي لحياة المجتمع ، وهذا لايعني القول ان تلك القضايا الجدلية لاتستحق اهتمام عقول مثقفينا ..الأمر ومافيه أننا يجب ان نهتم بمصائرنا الشخصية والوطنية ونعمل على تأمينها ولا بأس بعد ذلك من مشاركة العقل والحضارة الغربية في اهتماماتها ومشاغلها النظرية مابعد الحداثوية..
______________________