ميدل ايست أونلاين
من أحمد مروان
يضم هذا الكتاب “حكايات” مجموعتين قصصيتين جمعهما خورخي لويس بورخيس في مجلد واحد عام 1944، وقام بالترجمة والتقديم المترجم عبدالسلام الباشا. صدرت المجموعة الأولى في هذا الكتاب عام 1942 في بوينوس أيرس، تحت عنوان “حديقة الطرق المتشعبة”، والمجموعة الثانية بعنوان “إحتيالات” وصدرت عام 1944.
يستهل بورخيس مقدمة مجموعته “حديقة الطرق المتشعبة” بهذه الكلمات المثيرة قائلا: ”نصوص هذا الكتاب لا تختلف عن نصوص الكتاب السابق، رغم أنها أقل رداءة”.
بورخيس الذي يتوجه للقارئ أكثر من مرة في نصوص هذا الكتاب، سواء بصيغة المخاطب، أو متحدثا عنه بضمير الغائب، يقوم بمداعبة أو تحدي القارئ أحيانا، هذا وتحفل السيرة الذاتية لبورخيس بإشارات عديدة لنصوص هذا الكتاب تحديدا والظروف أو الدوافع التي أدت لكتابتها.
• بورخيس والإشارات المختلقة
في مذكراته يقول بورخيس: “في حياة مكرسة للأدب قرأت روايات قليلة للغاية، في أغلب الحالات وصلت إلى الصفحة الأخيرة بدافع الواجب فقط”.
ويشير في المقدمة إلى انحيازه للنصوص القصيرة ونفوره من الكتب الضخمة، طارحا البديل وهو كتابة ملخصات أو تعليقات على الكتب.
ولعله من المعروف اقتران الإشارة لبورخيس وأعماله بفكرة شائعة حول غموض أسلوبه، واختلاقه لمعظم الإحالات والإشارات، لكن بورخيس يقر فعلا أنه ليس أول أو أكثر من استخدم الإشارات المختلقة، سواء لأسماء شخصيات أو كتب أو بلدان، ويمكن لقارئ قصة “طلين، أوقبار أوربيس تيرتيوس”، أن يتحقق عبر الهوامش من أن معظم إحالات بورخيس وإشاراته ليست مختلفة، وإنما منتقاة بعناية وبتعمد شديد وبنسق محكم. وكل هذه الإشارات تخدم غرضا واحدا: إلقاء الضوء على عالم بورخيس واهتماماته.
في هذا الكتاب – كما في كتابة بورخس عموما – نجد أن مفاهيم مثل: الزمن، اللغة، الكون، التاريخ، هي بعض هواجس واهتمامات الكاتب، كما أن كل الكتب والمؤلفين والفلاسفة الحقيقيين الذين ذكرهم في هذا النص يمتلكون علاقة وطيدة بعالمه وهواجسه؛ فمنهم من حاول اختراع لغة عالمية، ومنهم من قام بتطوير فلسفة ما، لكن من المؤكد أيضا أن ثمة إشارات وإحالات مخترعة ومتخيلة، سواء في هذا النص أو في نصوص بورخس أخرى.
• عوالم بورخيس
في كتابة بورخيس ثمة تكرار لكلمات بعينها مثل: عوالم، هواجس، إهتمامات، يمكن لهذه الكلمات أن تكون مفتاحا للإقتراب من عالم هذا الكاتب، ومن حياته ككل. كانت حياة بورخيس حياة منزلية محورها المكتبة يقول في مذكراته: “كانت تعيش في حي باليرمو عائلات طيبة وأخرى ليست بالتي ينصح بمعاشرتها، كما كان هناك أيضا باليرمو الأشرار المشهورين بمشاجرات المدي، أما أنا فلم أكن واعيا بوجود الأشرار، لأنني لم أكن أغادر المنزل”.
إن هذه الفقرة تكشف بوضوح عن العالم الحقيقي لبورخيس، الذي كان يعيش في حدود المكتبة والعائلة بإمتياز. لكن قصته “الجنوب” التي وصفها في مقدمة مجموعة “إحتيالات” بأنها أفضل ما كتب وأنه يمكن قراءتها كسرد مباشر أو بطريقة أخرى، تكشف أيضا عن توقه للمشاركة في هذا العالم الذي عرفه لاحقا أو في وقت متأخر.
فيما يتعلق بعلاقة بورخيس باللغة فإن علاقته بدأت مع الإنجليزية فالسنوات طويلة ظل بورخيس حبيس منزل عائلته، ذات التقاليد الإنجليزية وتعلم القراءة بالإنجليزية قبل الإسبانية، ثم تعلم الإسبانية، وبعد ذلك بلغات أخرى عديدة، ثم جاء الجهد الذي بذله للكتابة بالإسبانية، ليصبح أحد أهم من أبدعوا بها.
يورد بورخيس أسماء روايات كثيرة قرأها بالإنجليزية مثل ترجمة بيرتون لألف ليلة وليلة، يقول: “أعمال بيرتون كانت تعتبر آنئذ هوسا ممنوعا بالنسبة لي، وكان علي أن أقرأها خفية في السطح، وعندما قرأت دون كيخوتة بعد ذلك في طبعته الأصلية بدت لي ترجمة رديئة”.
إن الاقتراب من أفكار بورخيس أو هواجسه ليس أمرا صعبا، فالتعرف على أفكار أو هواجس بورخيس سهل، لأنه ببساطة يكرر موضوعات محددة ومفردات بعينها، في معظم نصوص هذا الكتاب. فاستخدام مفردات مثل: “لا نهائي، مرئي، خفي، غير محدود، لا نهاية له”، إلى جانب موضوعات “الزمن، اللغة، الكون، الحياة، الموت، القدر، الصدفة” يشي بل ويوضح تماما، ماهية إهتمامات بورخيس، بالإضافة للسخرية والتكرار شبه الهوسي لكلمات ومفردات بعينها.
كما ويكثر بورخيس من استخدام الجمل الإعتراضية بين قوسين كما يكثر من إستخدام الفاصلة، لخلق إيقاع وإشارات مختلفة. وسوف نجد خاصية أخرى لدى بورخيس، وهي إضافة هوامش أسفل الصفحات لإيضاح إشارة ما في متن النص، أو للتعليق عليها. ورغم أن هذه الهوامش ليست غزيرة إلا أنها تطرح أحيانا رؤى مناقضة أو مكملة لمتن النص.
• بورخيس والثقافة العربية
وفي مقدمته للكتاب يوضح المترجم عبدالسلام الباشا أن الكثير من النقاد والأدباء العرب يُسهبون في تضخيم إشارة بورخيس المتكررة لألف ليلة وليلة، باعتباره قد نهل من الثقافة العربية وتشبع بها، ويوضح المترجم أن قراءة نصوص هذا الكتاب خصوصا ونصوص بورخيس عموما، تكشف أن تأثره بالثقافة العربية محدود جدا في مقابل تأثره بالثقافة الغربية، بتياراتها الفلسفية والفكرية، منذ عصر الإغريق حتى القرن العشرين، يقول: “لا يمكن نفي اهتمام بورخيس بالثقافة أو الحضارة العربية، هذا واضح في أعماله، لكن المبالغة والإفراط في هذا الإهتمام، والبحث عن كلمات متفرقة، أو إحالات قليلة، ثم بناء إفتراضات وظنون حولها، أمر يشعر بالأسف.
ففي نصوص هذا الكتاب الستة عشر، جاء ذكر “ألف ليلة وليلة” في قصتين فقط. وقام بورخيس بإستهلال إحدى القصص بآية من سورة البقرة في مقابل هذا، نجد أن بورخيس أشار للكابالا اليهودية كثيرا، وقامت إحدى قصصه أساسا “الموت والبوصلة” على خرافة يهودية وفي القصة الأطول – التي تتصدر الكتاب: “طلين ، أوقبار، أوربين تيرتيوس” – جاء ذكر نهر الفرات وآسيا الصغرى عابرا “. (خدمة وكالة الصحافة العربية).