هاتف بشبوش
الشعر هو سطوع الضياء من جنّة الكلمات الصامتة والصّارخة بوجه جحيم الطّغاة، الشّعر هو اختراع أصبح ملك الإنسانية جميعا، مثلما اخترع أديسون الضّوء فأصبح ملك البشرية جمعاء، ومثلما ميكو موتو الياباني الذي اخترع اللّؤلؤ وأضاء فيه أعناق النّساء، فهناك أيضا مخترع للشّعر الذي أظهر مفاتنهنّ، الشّعر هو الميراث البوحي القادم من الأزل، هو الميراث الذي لا يُباع ولا يُشترى.
في الشّعر تستطيع الكلمات أن تذرف حروفها اللاّمنتهية على السّطور، الشّعر هو هدير الماء وعليل الهواء المترامي في السماوات، هو إيقاع الكون وطقوس الأزاهير، هو الجَمال المترامي في الأودية والجبال والهضاب والوهاد.
الشّعر ماء العين، دم القلب، هو الذي أطلق لنا مفاهيم الحبّ، هو الرّغبة في حياة بلا موت، وبما أنّه ليس ثمّة حياة أخرى، فالشعر أخبرنا بأنّها حياة رائعة .
في الشّعر نستطيع أن نجد كيف أنّ اللّغة واللّسان هما عضوان فعّالان، إنّه كلام الإنسان النّابع من نهر خياله والذي يصبّ في محكمة العقل، إنّه الاسمي من الأيديولوجية، إنّه الانفعال المنبعث من الرّوح القلقة، إنّه الجنون الإبداعي، إنّه الباكي حرقةً وألمًا على المصير المفقود والضّائع لبني الإنسان.
الشّعر هو الحقيقة والوهم في نفس الوقت، إنّه اللّسان الحذق، واللّبق، والمتدفّق، إنّه لا يحب الحَذر ولا يحب اللجام يدركه الكبار ويذكره الصّغار، الشّعر عابر الحصون والقلاع، يلوّح دائما ويغنّي للعابرين في قطارات العمر اللاّمنتهية، الشّعر له آلاف العيون التي نراها في السّحب والشّمس والأنهر والأثير، وفي كلّ ما هو جميل. لا يُحبّ النّظر إلى القبيح من الأشياء والأفعال، إنّه منشد الأغاني في السّاحات والمدارس والمحافل وحشود الثّورات، إنّه مثير الحماس، حليف موسيقى الرّوح، مسرف في عطائه، هو المديح والهجاء، هو الخمر والغزل، هو الوجوم والغضب السّاطع، هو الوطن الصّاعد فوق أديم الغيم، هو المأثور الشّعبي والأساطير، هو الشّعور واللاّشعورـ هو سلاح لا يحتاج إلى شحذ.
هو العمق التأريخي والتّناقض الدّاخلي، هو مفهوم إيجابي على الدّوام، هو الذي يقوم بإبراز العناصر الثّوريّة، هو الديالكتيك، هو القدرة على الانتصار، هو ذلك البطل المنتمي للمعدمين والجياع، هو الذي يجسّد لنا الأبوّة والأمومة والبنوّة والأخوّة، إنّه القضية التي ترتبط مع العوامل البيئيّة والثقافيّة، هو المقامرة الواعية اللاّمسؤولة، هو الذي يشرح لنا المآسي الضّاغطة على صدور الشّعوب، هو كلّ تلك السّمات والملامح الإنسانية التوّاقة إلى الحياة والحريّة والكرامة.
الشّعر هو ذلك الشّكل الهندسي الذي تشكّلت أبعاده من الشّواطئ التي تنضح بروائحها، ومن المحيط الذي يلعق السّاحل بهدوء رائق، ومن صخور الغرانيت التي تماثلت دعاماتها بألياف الطحالب غير المشذّبة، ومن الموج المتلاطم بعنفوان في مقدّمة البحر المفتوح، ومن الإسفنج بكامل رقّته بين الآجر والحصى المثلومة، ومن المراكب العارية التي تذكّرنا بالسّفر والحدود المشرّعة، ومن البواخر التي تلوح في الأفق البعيد، ومن غفوة النّساء على ياقات الأقمصة المخمليّة للرّجال عند التّضاجع على السّواحل، ومن أصابع النوارس وهي تترك ما يشبه الختم على الرّمل الغافي، ومن كلّ ما هو مرئي وغير مرئي في هذا الكون الفسيح.
الشّعر هو ذلك الجنس الأدبي الذي يرتكز إلى فهم جدلي برّاق للأمميّة والتّراث الايجابي، هو العصارة الكلماتية التي تخرج من عمق مبدعيها وتشكّل الأواصر القويّة مع الجماهير، هو التّجربة الذّاتية للشّاعر بكونه عضوا فعّالاً لا ينفصل عن التّجارب الموضوعيّة للحشود العامّة.
الشّعر هو ذلك الضّرب الفنّي الذي له القدرة على عكس الواقع والخيال في آن واحد.
هو ذلك الممرّ الخرافي الطّويل العريض الذي يفتح آفاقا مستقبليّة عن طريق جماليّة التّوظيف.
هو التّشكيل البوحي اللاّمنهجي الذي يستنهض تواريخ الشّعوب بما يمرّر فيها من صخب واهتزازات وصراعات ولواعج الإنسان الذي عاش مع أزمة حبّ أو غواية ومات كمدا أو جنونا. هو الذي يجعل من الشّخصيات الثّائرة مشجّبا تراجيديا.
الشّعر نستطيع أن نجده في ألسنة السّادة الأحرار والعبيد، حتّى غدا صراعاً بينهم من أجل المساواة. هو الزيّ الخاصّ الذي نستطيع من خلاله التعرّف على حقبة زمنيّة معيّنة وقراءتها واستكشاف ما يدور في بواطنها من تفاصيل دقيقة.
الشّعر في أغلب الأحيان لا يُحبّ القدرية والخنوع، بل يميل إلى التحدّي وإمكانية التّغيير وحتمية التمرّد وإصراره على اجتياز المسافات بين الظّلم والفاقة. إنّه دافع المعدَمين إلى اعتماد البدائل الثوريّة ضدّ الطغيان، وإلى نسيان الخلاص الغيبي والحلول القابعة في السّماء.
الشّعر هو الهويّة الخالدة على مرّ العصور، كما نراها في عنترة ابن شداد، وامرئ القيس، محمود درويش، لوركا، بابلو نيرودا، ناظم حكمت، بورخيس، وولت وايتمان، وكلّ الذين سطّروا أجمل الملاحم.
___________________