محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
متابعات

أكتشافات تشكيلية

محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
الصورة: صفحة أصدقاء دار الفقيه حسن.

للسنة الثالثة على التوالي تتواصل النشاطات الشهرية للجمعية الليبية للآداب والفنون , حيث التقينا بداية الشهر الجاري بالفنان التشكيلي أحمد غماري الذي ألقى على مسامع الحضور النخبوي الرفيع محاضرة تتعلق بالشأن التشكيلي وحملت عنوان ” ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سكيفانو ” , وكما هو معتاداً تم تكليف من يقدم للمحاضرة ويُعرف بالمُحاضر حيثُ تكفلت الأستاذة الصحفية فتحية الجديدي بهذه المهمة فمهدت بكلمات مختصرة لما سيأتي في المحاضرة تاليا وقدمت الأستاذ المُحاضر وسردت شيئا من سيرته الحياتية والمهنية التي تشير إلى أنهُ ولد بمدينة طرابلس وتلقى تعليمه بها إلى ان تحصل على دبلوم معلمين سنة 1992 وانخرط في الممارسة التشكيلية أواخر ثمانينيات القرن الماضي ويرسم بواقعية قصوى , وشارك في العديد من المعارض الفنية داخل عدة مدن في ليبيا مثل طرابلس ومصراتة وفي الخارج في القاهرة وعمان وفيينا , كما مارس مهنة الصحافة وعمل محررا للصفحات الثقافية بصحيفة أويا وشغل منصب متقدم في صحيفة فبراير بعد الثورة وكتب العديد من الأبحاث والمقالات في المجالين الأدبي والتشكيلي وله إضافة إلى هذا ترجمات متنوعة عن اللغة الإيطالية , خاصة فيما يتعلق بالأدب الليبي وأعلامه.

وهُنا جاء دور المُحاضر ليدلي بما أعده , وكنوع من التهيئة والتمهيد لموضوعه وضع مقدمة تُعرف بالفن التشكيلي عامة وتتبعَ سيرته منذ البدايات عندما كان مُسخراً لخدمة الهدف الديني ولتمجيد الآلهة مرورا بعصر النهضة وحتى الثورة الفرنسية وبدايات القرن العشرين والحربين العالميتين وما تلاهما من إفرازات فكرية وأيديولوجية واجتماعية واقتصادية أثّرت بشكل مباشر على الفن وانعكست في شكل تيارات ومدارس فنية سرد الباحث بعض أسمائها كالواقعية والسوريالية والانطباعية والدادائية والبوب آرث وتجارب الحداثة وما بعد الحداثة وغيرها , ولم يستقر الفن على حال حتى اللحظة وكان يتبدل وفقا لتبدل الحياة نفسها ويتطور بتطورها , كما نوّه الباحث بتأثرات الحرب العالمية الثانية على الفن التشكيلي وبروز نزعة السخرية والعدمية نتيجة لما حدث من فظائع وخراب طال كل شيء , هذا بعض الذي أشار إليه الباحث ليضع المستمع في بؤرة الموضوع وهو تجربة الفنان الإيطالي ماريو سكيفانو الذي عرفنا أنه أنجز سلسلة من اللوحات بوحي من الطبيعة والبيئة الليبية التي ولد وعاش فيها ردحا من الزمن قبل ان يغادرها سنة 1944 صحبة والدته إلى روما حيثُ برزت موهبته وتشكل شغفه بالفن , فالفنان غالبا ما رسم النخيل والنجوم والسماء واعتبر ذلك رمزا لانتمائه الوجداني لليبيا التي أحبها ووصف مغادرته لها بالخروج من الجنة , رسم الفنان كل هذه الرموز التي تؤكد ارتباطه بمسقط رأسه وتشي بما انطبع في ذهن الفنان عن المكان الأول , ولعل هذا ما تبقى في مخيلته من ذلك المكان , ودائما ثمة نزوع وشوق للمكان الأول عند كل إنسان , والفنان الذي ولد بمدينة الخمس سنة 1934 كان يرسم ما اختزلته الذاكرة ولم يستعين بالصور أو بالرسم من الواقع عندما رسم , ولأن الرسم هنا كان بشغف وبحب كبيرين جاء مختلفا بحسب تحليلات الباحث أحمد غماري لناحية التقنيات المستخدمة وطريقة التنفيذ ولناحية الموضوعات والرموز , وعلى بساطة اللوحات ظاهريا وكما تبدو للناظر للوهلة الأولى – سيما وان الفنان انجزها بسرعة وبضربات لا تُخطئ هدفها كما أوضح الباحث – إلا أنها من الصعوبة بمكان ويتعذر تقليدها ومحاكاتها لأنها تحمل بصمة الفنان ماريو سكيفانو.

محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
الصورة: صفحة أصدقاء دار الفقيه حسن.

ويضيف الباحث في سياق محاضرته أن الفنان الإيطالي كان قد درس الابتدائية في ليبيا وكان لعمل أبيه في مجال الأثار دور في رسم توجهاته الفنية فيما بعد , وأنهُ جذب اهتمام النقاد وجمهور الفن إثر معرض أقامه في روما , ورسم في خمسينيات القرن المنصرم بعض مظاهر الأستهلاك التي رافقت التقدم التقني وارتبط بأواصر صداقة مع العديد من المثقفين والادباء الإيطاليين مثل البرتو مورافيا وغيره وسافر إلى أمريكا حيث قابل بعض الفنانين المشاهير هناك وانخرط تاليا بلوحاته وبفنه في النضال ضد الحروب بتنفيذه لعدة شرائح ضوئية لمناهضة الحرب في فيتنام وناصرَ قضايا الإنسان في العالم ولم ينسى القضية الفلسطينية وتعاطف مع الفلسطينيين في معاناتهم ورسم لوحة تؤكد على هذا التضامن وقام بإهدائها إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات , وخلال هذا السرد الشيق والمتتابع ما انفك الباحث يعرض بجهاز العرض صورا لنماذج من أعمال الفنان المذكور ويقوم بشرح موضوعاتها التي هيمنت عليها رموز من البيئة الليبية من صحارى وكثبان ونجوم وأهلة ونخيل , وعرض أيضا بعض الصور الشخصية للفنان في مرسمه وخارجه.

ولشدة حبه للنجوم أنجز الفنان بحسب ما أوضح المُحاضر سلسلة من الرسومات أسماها ” كلها نجوم ” واستطاع أن يعكس تعلقه بالبيئة الليبية برسمه للنخيل وهو الشيء الذي أكد انتماءه الوجداني لليبيا وهو الأنتماء والتجذر الذي ما انفك يُعبر عنه في كل المناسبات ورسمه للنخيل جاء بصيغ ومعالجات وطرق مختلفة ومتطورة .
كما رسم الفنان سلسلة من اللوحات واسعة المقاسات وصوّرَ فيها بمعالجات تجريدية الصحارى الممتدة من ليبيا إلى الأردن في الشرق في رسالة سلام عبر عنها أحد الفنانين بقوله ” الفن مثل السلام , خير يعود على الجميع “

ولاكتشاف هذا الفنان من قبل الباحث قصة سردها علينا بإيجاز , حيثُ أُقيم معرض لهذا الفنان سنة 2004 ولم يتم الإعلان عنه في وسائل الإعلام وبالمصادفة سمع به الباحث فتوجه صحبة الأستاذ علي مصطفى رمضان لزيارة المعرض وهناك فوجئوا بأن اللوحات تمت تنحيتها من جدران القاعة ووضعت أرضا ذلك لأنهم حضروا تقريبا في الوقت الضائع والمعرض يقفل أبوابه , ومنذ تلك الحادثة أهتم الباحث بهذا الفنان وجمع الكثير من المعلومات فيما يخصه ويخص فنه , وهذه المحاضرة تقريبا هي خلاصة كل ما جمعه الباحث طيلة السنوات الماضية ولعل المستمع لاحظ أن سر الأهتمام هو كون الفنان قد ولد وترعرع في ليبا واحتفى بها في لوحاته التي لا يعرفها جل الليبيين ولم يسمعوا بها ولا بالفنان , وأسهمت هذه المحاضرة بكل تأكيد في تسليط الضوء عليها والتعريف بالفنان وبلوحاته .
وبحسه النقدي تناول الباحث بالتحليل لوحات ماريو سكيفانو لناحيتي التقنيات والمُحتوى ومن ضمن الأحكام التي أوردها بشأنها أنها لا تحفل كثيرا بالذائقة التقليدية ولا ترتهن للكلاسيكية وانها تحلق في فضاءات الرمز والتجريد وتلامس أفاق التعبيرية.

وإضافة إلى لوحات الصحراء التي جاءت بطلب من المركز الأردني صوّرَ سكيفانو البيوت المحترقة والأسطح المهشمة تعبيرا عن احتجاجه على حرب الخليج , كما لم يفوته أن يخوض فنيا في معاناة اللاجئين وهو الأمر الذي يؤكد على حسه الإنساني ويطبع أعماله بالعالمية , وفي ذات السياق أشار الغماري إلى تجربة فنانة إيطالية ولدت ببنغازي وانعكس حبها لهذه المدينة ولليبيا في عدة لوحات عرض الباحث أحمد غماري بعضا منها , وزاد عرض صور للوحات الفنان بجهاز العرض المرئي من عمق المحاضرة وعزز من قيمة المعلومات التي وردت بها وقرب محتواها إلى المستمع.

عند هذا الحد أختتمت المحاضرة التي احاط فيها الباحث بموضوعه لتتاح الفرصة للجمهور لإبداء ملاحظاته وطرح أسئلته , والبداية كانت للأستاذ ابراهيم حميدان الذي نبه إلى غياب الجانب الأجتماعي في لوحات الفنان الذي رسم البيئة فقط ولم يرسم الوجوه والناس وهي التقاطة ذكية وكان قبلها قد أشاد بهذا التواصل الذي اعتبره مهما مع الآخر والمختلف ودعا إلى النظر للغرب بنظرة أوسع وأشمل من كونه مُستعمر ومتآمر علينا رغم انه لا ينفي عنه هذه التهمة ولكن للغرب وجوه أخرى ومستويات عدة ومن الغربيين من يناصر القضايا الإنسانية وللغرب منجزات فكرية وتقنية يمكن الأستفادة منها , هذا تقريبا ما قصده ابراهيم حميدان من كلمته القصيرة واستحضر محاضرة الأستاذ مراد الهوني التي ألقيت منذ عدة أشهر عن المعمار الإيطالي برعاية الجمعية للتأكيد على أهمية التواصل وفتح قنوات للحوار .
واعتبر هذه الجهود امتدادا لجهود المثقفين الأوائل مثل خليفة التليسي الذي أضاف الكثير بترجماته للأدب الإيطالي الحديث , كما تساءل الأستاذ رمضان سليم المتداخل التالي عن وجود لوحات أخرى للفنان وعن بعض تفاصيل حياته وسيرته الذاتية وتاريخ مغادرته لليبيا.

محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
محاضرة ليبيا والشرق في لوحات الفنان الإيطالي ماريو سيكفانو.
الصورة: صفحة أصدقاء دار الفقيه حسن.

أما الأستاذة أسماء الأسطى فقد تحدثت عن المحاضرة التي اعتبرتها إضافة حقيقية للتشكيل الليبي ودعت إلى التوسع في التوثيق والبحث عن أسماء أخرى من المبدعين الذين مروا بليبيا أو ولدو بها , إبراهيم الخراز من جهته ألقى كلمة مفتوحة تطرقت إلى إبداعات الفنان وإنسانيته وأعقبه الأستاذ أمين مازن بكلمة مقتضبة في موضوع المحاضرة , الدكتور نورالدين الورفلي الذي أحال إلى الحنين والنوستالجيا التي رسم الفنان الإيطالي انطلاقا منها وظهرت واضحة في أعماله وهي التفاتة نقدية رائعة أغنت عن الكثير من الشرح.

أما الأستاذ محمد الطياري فقد أثرى الجلسة بأسئلته القيمة حول غياب الجانب الأجتماعي في لوحات الفنان الإيطالي وهي الأسئلة التي تدل على تبصره ورغبته في المعرفة , ومن جانبه أجاب الباحث باختصار على الأسئلة التي تم طرحها وأدلى ببعض الإضافات المهمة فيما يخص الشخصية والتجربة قبل ان يتقدم بالشكر للحاضرين ويختم المحاضرة .
هذا بعضاً مما جاء في المحاضرة والمناقشات التي تلتها , وتطمح هذه المتابعة إلى نقل أجواء النشاط وعرض روح المحاضرة ونأمل أن تكون قد وُفِقت في هذا المسعى .

ويُشار إلى أن الجمعية الليبية للآداب والفنون تستعد لإحياء اليوم العالمي للشعر الذي يصادف الحادي والعشرون من الشهر الجاري بإقامة ندوة حول اعمال الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر , على أن تسبقها أصبوحة شعرية تحييها ثلة من الشاعرات الليبيات وستُعلن التفاصيل الأيام القادمة .

مقالات ذات علاقة

جامعة طرابلس : البغدادي ورحلته الثمانين في مدرج كيميائي

المشرف العام

لقاء الثلاتاء بدار الفقيه حسن: من عقم العداء إلى خصب التعاون

علي عبدالله

الدكتور مختار كرفاع يتساءل لماذا أخفق الليبيون في بناء الدولة الوطنية ؟

مهند سليمان

اترك تعليق